من أوقف تنفيذ الاتفاق الروسي الأمريكي

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

في بداية هذا العام تم تحديد شهر آب كنقطة تحول في مسار الأزمة في سوريا بعد أن تأكد للروس والأمريكيين عقم جهود ديمستورا ، ورشحت أخبار عن تفاهم بل اتفاق روسي أمريكي على فرض حل سياسي في سوريا لا يمر عبر جنيف ، بل عبر تكليف مجلس عسكري معين من قبلهم يتسلم السلطة لكن بوجود الأسد ، وتسربت أسماء ضباط مرشحين لعضويته ، وبدأت أطراف وشخصيات من المعارضة الترويج له ، بمن فيهم أعضاء بارزين في الائتلاف وفي هيئة الرياض ، كما بادرت دول عربية للتعاون مع الدول الراعية ، ورضخت السعودية للضغوط الأمريكية ولو على مضض ، كما باشرت تركيا عملية التكويع باتجاه القبول بالأمر الواقع الذي يعني بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية … وسكت كل صوت معارض يخاف من تصنيفه في قائمة الإرهاب .

المشكلة التي عرقلت تنفيذ اتفاق جنيف (وهي تجاهل الحديث عن مصير الأسد ) قد حلت في هذا الاتفاق لصالح بقاء الأسد ، و عمليا وسريا قبلت المعارضة السورية بكل مجالسها بذلك ، وكذلك الدول العربية ، وتركيا أيضا جرى تطويعها تدريجيا ، وبدا كل شيء جاهزا للتطبيق الذي كان من المفترض أن يبدأ في مطلع آب بإعلان تشكيل مجلس عسكري ليعمل بأمرة الأسد كسلطة انتقالية : تعيد سيطرة النظام على كل المجموعات العسكرية في كلا الطرفين ، وتدخل بالتعاون مع التحالف الروسي الأمريكي في معارك فاصلة ضد بقية المنظمات الاسلامية الرافضة لتسليم سلاحها ، بدعم جوي (وبري إذا لزم الأمر) من الدول العظمى ودول الجوار ، كما أبدت بعض الدول استعدادها لإرسال جيوشها في خدمة هذا الغرض والقتال إلى جانب النظام بوجود رئيسه لانهاء حالة التمرد عليه .

ما تم اغفاله في الاتفاق الروسي الأمريكي الجديد كما آسلفنا ليس مصير الأسد الذي حسم لصالح بقاءه ، بل  دور حزب الله وايران والميليشيات الشيعية ، أما الذي أوقف تنفيذ الاتفاق لهذا السبب فهو ليس السعودية ، ولا تركيا ، ولا المعارضة السورية  فهؤلاء جميعا رضخوا للارادة الأمريكية الروسية ووطدوا العزم على ذلك ، لكن  اسرائيل هي التي رفضت أي اتفاق أو حل سياسي في سوريا يغفل دور ومصير الوجود الإيراني فيها ،

اسرائيل اعتبرت أن الفترة الانتقالية المقترحة والتي ستطول أكثر من المتوقع ، سوف تنتهي بتكريس الاحتلال الإيراني لسوريا أو قسم هام منها ، نظرا لتردد الدول وعجز اداراتها وضعف أدواتها على الأرض بعكس ايران ، وبسبب غياب الثقة بين المتحالفين ، ورغبتهم غير المعلنة في تقسيم سوريا … فالروس بنظر الاسرائيليين يخدمون مشاريع إيران في المنطقة ويساعدون ميليشياتها على التمدد وإن كانوا يراعون حساسية المنطقة القريبة من اسرائيل حاليا ، لذلك من غير الممكن الوثوق أو الاعتماد على الوعود الروسية ، ولا حتى الأمريكية خاصة بعد الاتفاقية النووية ، في موضوع حساس يخص أمن اسرائيل ، التي تعتبر ازدياد نفوذ ايران وحزب الله على حدودها الشمالية يفوق خطر تواجد داعش والنصرة .

طبعا يمكن اضافة عامل مساعد هو فشل الانقلاب في تركيا ، الذي كان سيضمن سلاسة تنفيذ خطط الأمريكيين  في  رسم خريطتهم الجديدة في الشرق الأوسط ، حيث ستساهم السلطة الانقلابية في خنق المعارضة السورية وتركيعها ، وستتغاضى عن قيام كانتون كردي سوري محروس بقاعدة عسكرية أمريكية ضخمة تقام حاليا في منطقة كراتشوك ، في حين يقيم الروس قاعدتهم في حميميم وطرسوس ، وتترك بقية المناطق لتصفي حساباتها ما شاءت من الزمن .

لذلك وبسبب الاعتراض الاسرائيلي تم اختصار الاتفاق الروسي الأمريكي لبند واحد هو التعاون في عملية استهداف الجماعات المتطرفة واضعافها من دون التطرق لحل سياسي شامل ، وهذا ما يفسر برود الجهد السياسي الدولي ، وتزايد المجازر التي يرتكبها الطيران الدولي ، مما يجعله في خندق واحد مع النظام ، وهذا بدوره سينمي روح العداء للغرب عموما ، ويزيد من عنفوان وانتشار آيديولوجيا التطرف ، التي ستستمر في التصدي للعدوان الدولي ، وتحظى بالمزيد من دعم الفئات الاجتماعية والدينية المستهدفة من قبل أصحاب نزعة العداء الديني المتصاعدة في الغرب ضد المسلمين .

وعليه أقول لكل الانتهازيين الذين أدمنوا مسح الأحذية من أجل ركوب باص المجلس الوطني ثم باص الائتلاف ثم حافلة هيئة الرياض وما سار إلى جانبها من باصات موسكو والقاهرة وتنسيق أمن الدولة في دمشق .. أقول لهم : لا تنتظروا باص المجلس الانتقالي فقد آلغيت رحلته المقررة في آب ، من هنا وحتى ثلاثة أشهر على الأقل لن يوجد باص جديد ، والأغلب أن أقرب باص متوجه نحو كراسي السلطة يمكن توقعه بعد الربيع القادم أي بعد تسلم الادارة الأمريكية الجديدة … باصاتكم القديمة التي ركبتم فيها قد تعطلت وسلمت لوحاتها فهي لن توصلكم للسلطة ، وطريقكم الطبيعي هو السير إلى بيوتكم من دون أجر ولا أجرة ، و أي مشروع جديد سيبحث عن صيغة جديدة للمعارضة تناسبه وتفصل على مقاسه كالعادة … و لأنكم مبتلون بعقدة الزعامة والانتهازية لذلك نتوقع منكم الاستمرار في المكوث على الرصيف بانتظار باص جديد ، فننصحكم ألا تنتظروا شيئا  في القريب العاجل ، لأن الاتفاق الروسي الأمريكي مرفوض اسرائيليا ، فهو إما أن يعدل ليشمل مصير النفوذ الإيراني وحزب الله وهذا يتطلب موافقة ايران أو الحرب معها، أو يجمد وتستمر حالة الاستنزاف الراهنة بانتظار وصول ادارة أمريكية جديدة تعتمد مقاربة مختلفة … ومع ذلك حتى في حال انطلق باص جديد نحو كراسي السلطة في سوريا ، فسيكون قد امتلأ بالركاب قبل أن يمر على رصيفكم المهجور …

يا معشر المعارضين الانتهازيين أنتم عمليا في إجازة من الترحال في العواصم ومن مسح الأحذية طوال هذا الصيف والخريف وهي فرصة لكم لتزوروا أسركم وتصلوا أرحامكم التي قطعتم .  وهي فرصة أيضا للمنظمات الجهادية أن تنظم أمورها وتثبت وضعها في الداخل بعدما كانت تنتظر الحصار الخانق والقصف الهمجي والحرب البرية وسط صمت عربي واقليمي وطعن في الظهر من قبل المعارضة السياسية المشكلة من أمثالكم ، وصار عليها أن تنتج مجالسها التمثيلية الخاصة بها بدل أن تسلم قرارها لمن هو مستعد لخيانتها دوما بحجة أنه مقبول ومعترف به دوليا ( برتبة عميل ) .

وهو أيضا في صالح الأسد الذي يعتبر أي مجلس يشكله الآخرون حتى لو كان تحت أمرته ، هو تدريج للاسقاط ، لذلك فالأسد والمعارضة الراهنة والمتشددون الاسلاميون هم المستفيدون من سياسة المراوحة والاستنزاف التي يبدو أنها مستمرة ، وهم من يجب أن يشعروا بالامتنان للكيان الصهيوني الذي وجد مصلحته في استمرار الحرب الراهنة التي يتعيش عليها الكثيرون ، بدل من حسمها لصالح ايران بحسب الاتفاق الروسي الأمريكي المشطوب عبريا.

الروس والأمريكيون يريدون ضمان بناء قواعد عسكرية لهم في سوريا وأن لا يُهدد أمنهم من أراضيها ، بينما ايران تريد الهيمنة على أكبر قدر منها لتصبح إيران دولة عظمى ، وهذا ما يزعج اسرائيل ويدفعها لتعطيل الحل السياسي المتوافق عليه دوليا ، وهو ما يعتبر لذات السبب هزيمة للثورة السورية وخسارة لعروبة سوريا … لذلك لا نحب أن نسمع من أي دولة شقيقة أو صديقة أنها هي من عطلت التوافق الروسي الأمريكي الأخير على بقاء الأسد واحتلال ايران لسوريا ، ولا صوات المعارضة السورية الكذابة الراهنة ، فالخبر الأكيد أن الجميع رضخ وسكت وبدأ بأكل التين بعد أن وقع في الطين … والحقيقة المرة أن اسرائيل (المعادية) هي من عطلت اعطاء الشرعية لاحتلال سوريا من قبل عدو آخر هو النظام المجوسي ، وهي الوحيدة القادرة على ذلك عمليا ، والسبب في موقفها هذا أنها تعتبر الأسد القديم الذي تعرفه قد سقط ، وأنه الآن مجرد واجهة للاحتلال الايراني لسوريا … وأن الحل السياسي بصيغته الحالية المطروحة ( بقاء الأسد ) ليس إلا تقديم سوريا على طبق من فضة لإيران ، بعد أن قدم لها الاحتلال الأمريكي العراق على طبق من ذهب ، إيران بهذا الحجم والاتساع والنفوذ والتسلح ستكون خطرا جاثما على جميع دول المنطقة بما فيها اسرائيل التي صارت بحاجة لأن تدافع عن عروبة سوريا التي تخلى عنها عربانها ، وهذا من سخرية القدر ومهزلة المعارضة والدول الشقيقة.

في السياسة لا يوجد عدو مطلق وصديق مطلق ، فالأمور متغيرة ونسبية ، من يمثل المعارضة خانها ومن يمثل العروبة تخلى عنها ، فأصبحت هزيمة العرب المنكرة في سوريا تعني تزايد قوة ايران وتعاظم خطرها ، فتغيرت المعادلات والتحالفات وانقلبت المخطات والمؤامرات والاصطفافات …

أخيرا لدي رغبة في الشماتة بالضباط الذين تم التواصل معهم أو وعدهم بتسميتهم في المجلس الجديد من قبل الروس والأمريكان ، ليس لفضيلة فيهم أو وطنية أو نزاهة بدرت منهم ، بل فقط بسبب الحاجة لضباط عملاء مخلصين في عمالتهم لا موقف ولا مبدأ يمكنه أن يحد منها ، أيضا يسرني الشماتة بالسياسيين والمعارضين الذين سارعوا لارتداء حلة الاعتدال والواقعية وارتحلوا للعواصم وهم يحلمون بمقعد في تلك السلطة الانتقالية حتى لو كانت تحت أمرة الأسد السفاح وهيمنة الاحتلال الإيراني ، فأكثروا من مسح الأخذية عند السفراء وصاروا يروجون للحل السياسي الموعود الذي سيشرق ، أملا في لحس العسل الانتقالي فوق جثث شهداء سوريا ، فخاب أملهم جميعا من حيث لا يتوقعون … فوجبت الشماتة .

أيها المعارضون من الآن وحتى سنة قادمة يخلق الله ما لا تعلمون … لكنني أتمنى فيها أن تغيّبوا عنا وجوهكم لكي لا ننشغل بها عن ذم الأسد الولد الذي دمر البلد . وكل (هوب هوب ) حل سياسي وإنتو سالمين … يمكنكم الاستمرار في مهنة مسح الأحذية ، لكن الأجر لن يكون كرسي في السلطة الانتقالية .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.