حاكمية الله … بين الخوارج والصوفية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

بعض الأصدقاء الذين يهمني رأيهم يقولون أن هذا الزمن هو زمن السلاح  وليس الحوار والفكر ، وأنا أرى أن الثورات حتى لو اضطرت لخوض الحروب هي فرصة نادرة للتغيير الذي لا يمكن أن يكون حقيقياً من دون تجديد فكري يتم تحريضه بالتعارض ، بل لا تكون ثورة من دونه … المعركة عسكرية مع أنظمة الغلبة والقهر التي لا فكر ولا عقيدة لها ، أما  معركة الفكر فهي مع مشروع استبداد وانحراف وغلبة آخر يتحضر للحلول محله ، يجلس معنا الآن في خندق الثورة ويواجه بكل قوة النظم العسكرية ،  لكنه أيضا ببنيته الفكرية يتسبب بتخوف الكثيرين في الداخل والخارج ، لأنه قد يطيح بكل تضحيات الثوار إذا لم نصحح هذا الانحراف قبل فوات الأوان ( فالتوافق  الفكري السياسي هو الذي يمنع الشرذمة والتناحر والاقتتال ، ويحقق انتصار الثورة ، ووصولها لأهدافها ) … مما يستوجب طرح المسائل الفكرية والفلسفية المتعلقة بنظام الحكم في الإسلام ، ومناقشته بوضوح وجدية ندية مع شركاء الخندق الواحد ، ومع الشعب الذي ينتظر الخلاص  وينشد الحرية والسيادة ، ضمن إطار عام يرى أن الاسلام هوية راسخة لهذه الشعب الثائر .

لم تترك لنا النصوص الاسلامية نظاما سياسيا محددا ( وهي قد أغفلت ذلك عن عمد وليس إهمال أو نقص )، لأن هذا الموضوع خاضع وتابع لمستوى تطور الحياة والأدوات، ومتغير بتغير الثقافات والعادات ، فموضوع نظام الحكم في النصوص هو موضوع تعاقدي ( بيعة ) متروك للاجتهاد والقياس والاستحسان والتوافق بين المسلمين الذين (أمرهم شورى وليس غلبة ) ، وقد أمروا بالعدل والاحسان ( الحكم الرشيد ) … فالموجود بالنصوص والسيرة هو منظومة القيم الاسلامية هذه التي يُسترشَد بها، والتي لا تشكل بحد ذاتها نظاما محددا للحكم نقوم نحن بتطبيقه كما هو ، بل تعتبر مجرد دليل عام نهتدي به ، وعليه فقد اجتهد الراشدون في ابداع أشكال تطبيقية  لهذه المبادئ بحسب ظروفهم وضمن الامكانات المتاحة لهم في زمانهم … لكن هذا الابداع والاجتهاد تعثر وانقطع مع اشتعال الصراعات والتنازعات والتمردات التي اندلعت نهاية عهد عثمان و أنهت الحكم الراشدي عمليا بمقتل عثمان و علي )  بعد سنوات من الحروب الدامية بين المسلمين بل بين الصحابة أنفسهم ، يغذيها الصراع بين العرب والموالي ، والصراع والتنازع القبلي العربي الذي لم ينطفئ ، وأدت في النهاية لعودة وطغيان حكم المتغلب وسيادته ( الذي أعلن رسميا  بتنازل الحسن لمعاوية عن الخلافة من دون العودة للبيعة والشورى ، والذي بدوره ورث حكم المتغلب القبلي لابنه مما استدعى ثورة الحسين عليه ) ، وبهزيمة ثورة الحسين استمر حكم المتغلب وصراعات الغلبة بين المكونات والقبائل حتى الآن من دون انقطاع ، بسب استمرار البنية الماقبل مدنية للمجتمع ، مما هيأ لتطور مذهبين فلسفيين واسعين في الاسلام ، واحد يشرعن مواجهة حكم المتغلب بالعنف ،  وآخر يحاول الإنعزال عنه واتقاء شره .

حدث تطوران فلسفيان رئيسيان  في العقيدة الإسلامية بعد سيادة حكم المتغلب فيها ، هما مذهب الخوارج الذي ( تمايز عنه المذهب الشيعي ) والذي يشترط التبعية للإمام التقي واقامة الشريعة  على يده كتجسيد لحاكمية الله ، و مذهب الصوفية الذي تمايز  عن مذهب المعتزلة (الذي قمع ومنع واتهم أصحابه بالزندقة ) … وبينما حاربت السلطات المتعاقبة مذهب الخوارج عبر التاريخ ، والذي أعلن عليها حربا بلا هوادة ، فقد تعايشت مع ، أو رضيت بالمذهب الصوفي،  و رعته  خاصة في العهد السلجوقي والعثماني ، حتى صار نظاما دينيا شعبيا موازيا لنظام الحكم الرسمي يتعايش معه ، مبتعدا بالدين عن السياسة ومتجاوزا عن سلطة السلاطين التي اعتبرها من القدر ( يؤتي الملك من يشاء ) ، فالحاكم الوحيد المطلق المباشر هو الله وكل ما عداه باطل ، وكل ما يجعل الحاكم الدنيوي طامعا من مال وجاه ومتاع غرور هو مزهود به… والأهم منه هو العيش في عالم المعنى والروح والفن والخيال والحضرة والوجد والفناء في الوجود المادي كطريق للانضام لملكوت الحق الأبدي .

كلا المذهبين اعترض على حكم المتغلب ، ونسب الحكم لله وحده ، لكن بطريقتين مختلفتين : مذهب الخوارج حمل شعار لاحكم إلا لله ، فالأحق بالتغلب والحكم هو  الله ، ممثلاً على الأرض في حاكم إمام تقي ورع ، يقدس بورعه أو بنسبه الشريف ، ويرتفع لمستوى العصمة ( التي هي تجسيد لطاعة الله وقدسيته ، وتعبير عن الاستبداد من وجهة نظر أخرى ) ، فالسلطة السياسية الخارجية والشيعية لم تغير نظام الغلبة والقهر بل وضعت شروطا للمتغلب ( المستبد العادل ) وأعطته الشرعية الدينية واعتبرت سلطته وطاعته مستمدة من سلطة الله وطاعته ،  ومن دون قيام تلك السلطة المقدسة على الأرض بتلك المواصفات لا يصح الإيمان ولا يتجسد الدين ويخسر العامة دينهم ودنياهم …  هذا الفكر برز واضحا في المذهب الشيعي الذي اشترط أن يكون الإمام من سلالة النبوة من آل البيت لضمان استمرار القداسة والعصمة التي أعطيت للرسول الموحى  ، وانتقلت بالوراثة وليس بالبيعة والشورى ،  فأعطوا الإمام درجة من القداسة بل الصفات الخارقة وصار تقديسه هو الطريق الأساسي لتقديس الله وطاعته فإذا غاب الإمام ناب عنه وكيله المقدس المعصوم مثله … فالحاكم هو خليفة الله على الأرض ، وأداته التنفيذية ، لا يصح الدين ولا يقوم الإيمان من دون الرجوع إليه ( مرجعية ) ،  الحاكم ليس مجرد شخص مكلف متوافق عليه: علمه محدود ونفسه أمارة قد يخطئ وقد يصيب ولا يجوز تركه من دون نظام رقابة من أهل الحل والعقد . … وبالتالي نصل للقول أن مذهب الخوارج هو ما استند إليه الفكر السياسي الإسلامي المعاصر بنسختيه الشيعية ( الثورة الاسلامية في إيران ) ونسخته السنية التي تجسدت في الأيديولوجيا السلفية والأصولية المجاهدة التي امتطت الثورات العربية وتحاول تجييرها لصالحها ( كما يحدث اليوم في سوريا والعراق وليبيا ومصر ) .

بخلاف ذلك رأى المعتزلة أن الله يحكم كل شيء بملائكته ( فله ملك السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما ) ، وهو قاهر الأفعال  فعال لما يريد ، ولكنه منزه عن قهر الإرادات التي تركها حرة ليحاسب عليها ، فمشيئته غالبة وأمره نافذ مع وجود حرية الاختيار وجدية الامتحان ، وبالتالي فإن فكرة تحكيمه في الواقع لا قيمة لها ( كونها متحققة ) إلا إذا قصد منها تحكيمه  الطوعي في ساحة الحرية الوحيدة التي شاءها الله عندما خلق الانسان حرا  قبل أن يستعبد بعضه البعض ، وهي ساحة خيارات النفس ، فالمقصود بتحكيم الله إذن هي التقوى والخشية وليس أن يحكّم الشرطة بدلا عن ملائكته  فيقيموا نظام الثواب والعقاب ( الشمولي ) الذي يحصي كل شيء ، ويحاسبوا على التقوى والضمير والعبادات وشكل اللباس ونوعية الطعام …

وبعد صراع مرير بين مذهب التشدد الخارجي ومذهب الاعتزال ، ، قمع المذهب الاعتزالي ( المتكلمين )  بعد استشعار خطر الحرية التي يطرحها على وحدة الدولة الاسلامية المترامية الأطراف والمتعددة المكونات ، ونشأ بالوسط بينهما مذهب المرجأة الذين وضعوا حدودا لسلطة الدولة ، واعتبروا أن الكثير من أمور الدين مرجأ حسابها إلى الله كالعبادات والتقوى والذنوب والحسنات ، وبالتالي أعفوا السلطة السياسية من مهمة فرض العقيدة والتدين باليد ، و قيدوها بدورها السياسي الإداري لموضوع المعاملات والأمن والدفاع . ( والذي اعتبر مذهب الوسطية والاعتدال الأشعري ) لكن ذلك لم يمنع من تطور فلسفي يشتق من العقل الاعتزالي  انتهى بالصوفية التي ترسم العلاقة المباشرة بين الخالق والمخلوق من دون المرور بالسلطة والسلطان ، فالمقصود بحاكمية الله صوفيا أن تكون حاكمية الله على القلب بفعل ايماني إرادي داخلي … فقلب المؤمن هو عرش الرحمن . و إعلاء كلمة الله يتم في داخل النفس حيث تضبط سلوكها ونواياها وهنا الفوز ،  وليس في الواقع المخلوق من كلماته والمحكوم لأمره يسبح له طوعا وكرها ، حيث لا مجال لإعلاء غير كلمة الله وحده سبحانه … وشتان بين سلطة الضمير الذاتية الطوعية وسلطة الحاكم وشرطته … تشكل لتلك الفلسفة الصوفية طرقا تطبيقية كثيرة منها ما شطح في المجاز وتخيل قدرات عجائبية للبشر بنتيجة احساسهم بشراكتهم للقدير الحي القريب الذي يسمع ويرى وهو على كل شيء قدير ( الحضرة الإلهية ) … وانتهوا لتقديس الأولياء ومقابرهم الذين بقيت بعدهم تمثل قيمتهم الروحية والمعنوية التي لا تموت ، بطريقة تشبه ما يفعله الشيعة من تقديس للأموات المتقين ، اعتراضا على تقديس الأحياء الطغاة .

أما علماء المسلمين ( الفقهاء ) فقد ساروا بين هذه الخطوط محاولين الحفاظ على نمط الاسلام الأصلي ( الوسطيين ) ، لكن جهودهم بقيت فكرا على الورق ولم تخرج حيز التطبيق حتى الآن لعدم توفر الحامل الاجتماعي والظروف الموضوعية الاقتصادية والاجتماعية التي تسمح بذلك ( المجتمع المدني ) ، حتى اندلاع الثورات العربية التي تحولت لثورات اسلامية ، والتي طغى عليها مؤخرا الاسلام السياسي الجهادي السلفي الذي انتشر في البنى الاجتماعية المعدمة والمحطمة ، والذي اشتق نظامه الفكري من فلسفة الخوارج … ولم يتمثل المدرسة الوسطية بسبب ظروف القمع ، واحتداد المعارك وعنف المواجهات التي عليه خوضها والتي تفرض عليه ظروفا تدفعه للتشدد والانغلاق والعنف .

أول من قرأ القرآن قراءة فلسفية هو أبو حنيفة فاستنبط منه الأحكام  وبوبها ووضع آليات القياس والاجتهاد ، وهو يعتبر بحق مؤسس المذهب العقلي التطبيقي في الإسلام ، بينما ابن مالك لجأ بشكل مختلف للحديث الذي صار هو مصدر التشريع وجعل القرآن سندا للحديث ، وتوسع كثيرا في تفاصيل التشريع وقيد الاجتهاد والاستحسان ، وزاد في هذا الاتجاه الإمام الشافعي ، ثم استكمل ابن حنبل هذا التقييد في مواجهته العنيفة مع مذهب الفلاسفة المعتزلة … واستمر هذا التمايز الذي يقترب تدريجيا من فلسفة الخوارج ولا نقول تطبيقهم ، مرورا بابن زهر وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ليصبح هو المذهب السني المدرسي الذي ترجم لاسلام سياسي في العصر الحديث ، رغم معارضته المستمرة قبل علماء آخرين اتهموا بالتنوير والتقلد بالغرب والماسونية في العصر الحديث كمحمد عبده والأفغاني والكواكبي وحسن البنا ، والسباعي …  فما يطلق عليه اسلام رسمي اليوم ليس فيه اعتدال بل وتطرف إلا بنسبة التطبيق ، فمن يذهب لتطبيقه كله كما ورد سيصبح اسلاميا متطرفا . ومن يتغاضى عن جزئه يقال عنه وسطي مضيعا لمذهب الوسطية المختلف فلسفيا كما نوهنا . خاصة في موضوع الحاكمية ، فحكم البشر هو حكم تعاقدي وتكليف مشروط يتم باختيار وارادة الناس ومحدد بحدود ما يتوجب تعجيل الحساب عليه .

بينما استمر مذهب الصوفية باتجاه آخر منفتح ، وبلغ ذروته مع الشيخ محي الدين ابن عربي … ونجح في الاستمرار والتعاون مع النظم السياسية التي تلت العصر العباسي خاصة السلاجقة والعثمانيين ، واليوم يعود هذا التنافس بين المذهبين العقليين للبروز بشكل صارخ بعد أن صارت المنظمات الجهادية الاسلامية هي الوجه الوحيد الذي يظهر به الاسلام بما يستتبعه من عداء وصراع مع الآخر ومع العصر .  وتصبح الفلسفة الصوفية من دون شطحها سندا للاسلام الوسطي في مواجهة هذا الانحراف الفلسفي التطبيقي الذي وقع في حضن فلسفة الخوارج التي شكلت وما تزال عدوا عنيفا لنظام المتغلب الفاسق .

لذلك فالصراع الدائر ليس فقط بين علمانية مستوردة ملحدة ، وبين الإسلام ( بل هذا ما يصوره المتشددون ) ، الخلاف  هو اختلاف فقهي معرفي عقلي فلسفي في فهم وتفسير وتطبيق الإسلام يعود بالتاريخ لنشأة هذا الدين … وما صراخ وعنف وتكفير التيار السلفي إلا بهدف احتكار تمثيل الدين وتكفير كل من لا يقبل بتسلطهم السياسي المطلق كحاكمين باسم الله لا يجوز التدين من دون الولاء لهم وطاعتهم . فالمعركة إذن مع هذا الفكر هي معركة حرية وسيادة وسلطة ، وليست كفرا وزندقة كما يتهمون … بل هي تصويب وتصحيح لا تنجح الثورات ولا ينجح الاسلام  كعنصرين متشاركين إلا بها .

أصبح هذا التصويب ضروريا جدا بعد أن تعطل لفترة طويلة تطبيق القيم الاسلامية التي تحدد مواصفات وسلوك وإنشاء وعمل أنظمة الحكم ، التي تعقدت وتطورت وصارت بحاجة لاجتهاد وابداع واستحسان يستفيد من تجارب الشعوب الأخرى في هذا المجال خاصة التجربة المدنية الديمقراطية التي لا نقول أنها من دون عيوب بل أنها الأفضل التي تتوافق مع معايير الإسلام في ممارسة الحكم التعاقدي الرشيد . وليس سلطة الله على الأرض التي تتجسد في منظمات وأشخاص : سلطة المتغلب الفاسق ، أو المتغلب المتشدد دينيا .

المقال القادم  : الدين والدولة ( العلمانية و المدنية الديمقراطية )

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.