النصرة …

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يسألون لماذا في هذا الوقت بالذات ننتقد مشروع النصرة وخطتها السياسية الجديدة ، وقد امتنعنا سابقا عن التطرق إليها ، بل وقفنا ضد تصنيفها في قائمة الإرهاب ( على الأقل من دون النظام وحزب الله)  …. وللجواب على ذلك لا بد من توضيح مجموعة من النقاط :

بدأت النصرة بمجموعة قادمة من العراق ذات خبرة قتالية وتنظيمية وتعبوية  جمعت حولها المقاتلين وضمتهم لتنظيم أيديولوجي هرمي مؤسسي مختلف جذريا عن بقية التنظيمات ، وحاولت أن تساعد مجموعات الجيش الحر التي اعتمدت بشكل متزايد على مجموعات النصرة خاصة في عمليات الاقتحام، التي تعتبر النصرة الأفضل فيها بين كل المجموعات المقاتلة في سوريا على الإطلاق،  بما تتحلى به من شجاعة وتضحية وعزيمة وتنظيم وانغماس ، وهكذا نمت النصرة بشراكة مجموعات الجيش الحر التي كانت توفر كل العناصر اللازمة للعمليات العسكرية ، بينما تختص النصرة في مجموعات الاقتحام  أساسا ، وكانت حصة النصرة من وراء مشاركتها مع الجيش الحر المدعوم والممول والمسلح عربيا هي الغنائم والذخيرة وبعض التمويل …

وعندما بلغ حجم النصرة وانتشارها درجة أشعرتها بالقوة ، حدث داخلها تنافس بل انقسام بين السوريين وغير السوريين من عناصرها وقياداتها ، فقاد العراقيون عملية انشقاق عنها آخذين معهم معظم الأجانب (المهاجرين) ، فما كان من النصرة إلا أن أعلنت ولاءها للقاعدة وراسلت الظواهري القابع في مخبأه في ايران لاحتكار الشرعية الجهادية ولكسب الاهتمام الاعلامي ، وقطع الطريق على البغدادي وجماعته الذين سيظهرون بصفة منشقين عن الخط الجهادي العام الذي كان تحت علم القاعدة …

كان توقيت هذا الإعلان والبيعة للقاعدة سيئا جدا على الثورة السورية ، ليس فقط لأن القاعدة قد انتهت عمليا وتحولت قيادتها لتحفة رمزية محروسة في متحف ايران تخوف بها الغرب وتستخدمها كيف ومتى شاءت ، بل إن هذا الإعلان كان نقطة تحول في الموقف الدولي  (من نزع الشرعية عن بشار للتخوف من سقوطه ) ، قدمت به النصرة أفضل هدية يمكن تخيلها لبشار  وايران وحزب الله معا … هذا الخطأ السياسي المدمر كانت أسبابه أيضا سيئة لأنها كانت بدوافع شخصية لقادة النصرة في تنافسهم مع قادة منافسين لهم من ذات التنظيم قدموا معهم من العراق ، والذين انشقوا  فيما بعد وأسسوا لأنفسهم شرعية جديدة منفصلة عن القاعدة ، بل تجاوزوها كثيرا قوة وشهرة ونفوذا ، خاصة بعد اعلانهم دولة العراق والشام الإسلامية ثم الخلافة الإسلامية في الموصل بقيادة أبي بكر البغدادي الذي افترض باعلانه هذا أن يصبح مرجعية كل الاسلام الجهادي في العالم ، بعد أن أرفق ذاك الاعلان بعدة مسرحيات هيوليودية ارهابية لكسب الأضواء والاهتمام الذي فاق  عمل قادة النصرة لكسب الاهتمام … والغريب أن داعش وجدت طريقها سريعا للتناغم مع النظام وإيران وتبادل المصالح معهما لأسباب لا علاقة لها بالدين ولا الجهاد .  مما يجعل من حقيقة أن النصرة وداعش كانتا جسدا واحدا ، حقيقة مقلقة فعلا من احتمال التحول السريع أو وجود ذات الاختراق الإيراني في قيادتها أيضا ، إن كان بشكل مباشر أو غير مباشر .

اندلعت مواجهات عسكرية عنيفة جدا بين الفريقين الذين يحملون ذات الفكر والعقيدة ، واستقلت داعش في مناطق واسعة من سوريا وحطمت كل القوى الأخرى ما عدا قوات النظام ، بينما تزايد اندخال وتلاحم النصرة المطرودة من مناطق داعش مع مجموعات الجيش الحر وبقية الحركات الإسلامية السورية، فيما تبقى من مناطق محررة مشرذمة هنا وهناك ، حيث لا تشكل مساحة معقولة إلا في إدلب التي كادت أن تعلن امارة اسلامية اسوة بالرقة ،قبل أن يرجح رأي استباق التمكين ،

تلك المجموعات الإسلامية الوطنية وأهمها الأحرار وجيش الإسلام ، لم تخرج عن الأهداف الوطنية ، وإن كانت تعلن رغبتها في تحويل نظام الحكم في سوريا لنظام اسلامي وليس مدني ديمقراطي بعد اسقاط بشار ، وهي تختلف عن برنامج النصرة الجهادي العالمي وتتمايز عنها ، لكنها بقيت قريبة منها ، بسبب كون معظم عناصرها من النسيج المجتمعي السوري ، حيث بنتيجة التمايز بين داعش والنصرة صار معظم عناصر النصرة من السوريين الذين خرجوا في الثورة مع الجيش الحر ثم وجدوا أنفسهم تدريجيا في صفوف النصرة لأسباب عديدة ليس لإرادتهم دخل فيها ، وهم لا يهتمون كثيرا بالآيديولوجيا والقيادة طالما أنهم ينغمسون في معركتهم التي يؤمنوا بها ويدافعون عن ثورتهم وبلدانهم وأهلهم ضد عصابات النظام الحاقد والمليشيات والجيوش الأجنبية التي تساعد النظام في قتل وتشريد هذا الشعب .

حتى هذه الفترة لم يكن لنا عتب كبير إلا على أمرين أولهما إعلان الولاء للقاعدة كما أسلفنا ، وثانيهما منظومة القيادة في النصرة التي لا تريد الخضوع للمشروع الوطني السوري ، وتريد توريط الثورة السورية في مشروع الجهاد العالمي ، ولكن النصرة بعد ذلك بدأت بقضم مجموعات الجيش الحر تدريجيا وبشكل خاص المجموعات الوطنية التطوعية المحلية غير المؤدلجة ، ثم قامت بالاستيلاء عى ألوية وجيوش كثيرة وكبيرة بالقوة وبحجج منها ما هو صحيح ومنها ما هو صفة عامة تشمل الجميع من دون استثناء … مما دفع الكثير من عناصرالثورة وكوادرها  لترك ساحات القتال أو الهجرة ، وأدى لانتهاء تواجد الجيش الحر تماما في الشمال والوسط واضعافه في الجنوب حيث تندلع الصراعات بصور وأشكال مختلفة تلعب النصرة وداعش دورا رئيسيا في تسعيرها  .

لكن الشعرة التي قصمت ظهر البعير أخيرا كانت اعلان النصرة لفك ارتباطها بالقاعدة ( ذلك الارتباط الذي لم يكن إلا شكليا لأسباب عرضناها ) ، لكن هذا الإعلان تم بطريقة تؤكد استمرار الارتباط ، أدى لتعزيز التصنيف الدولي للنصرة على قائمة الإرهاب بدل أن يشطب عنها ، وبدل أن تحل النصرة نفسها وتندمج مجموعاتها مع بقية الفصائل في جيش اسلامي وطني واحد ، عملا بنصيحة وجهود علماء الدين والقادة الوطنيين الذين يعملون لمواجهة حالة التشرذم وتنجنب تصنيف المعارضة تحت قائمة الإرهاب،  بعد أن تشكل تحالف دولي واسع شمل الغرب والشرق لحربه … بدلا من ذلك تحاول النصرة الانضمام  بشكلها التنظيمي الجديد للمجموعات الأخرى ، والذي من شأنه أن يمدد قائمة الإرهاب لتشمل معظم الفصائل التي تشترك معها بالمواقع العسكرية والمستودعات والجبهات . فما فعلته مؤخرا هو عمليا تهرب من استحقاق لابد منه لحماية عناصر النصرة من خطر الاستهداف الجوي ، وهم في جلهم ثوار وطنيين سوريين يدافعون عن أنفسهم بما توفر . ولكن قيادتهم فضلت الابقاء على زعامتها بدل التفكير بمصير عناصرها ، وضربت عرض الحائط بالجهود الرامية لتوحيد المجموعات والفصائل وجلب الدعم والتأييد لها …

ثم أتبعت جبهة النصرة ذلك بعملية عسكرية  مباغتة لفك الحصار عن حلب ، قبل استكمال التحضير السياسي واللوجستي المطلوب الذي يضمن ادامة العملية وتحقيقها لنتائجها ، والسبب هو السعي المتسرع لكسب الشرعية والتأييد الشعبي الذي يغطي على المطالب بالتوحد والاندماج تحت علم واحد وطني ، بل ربما تهدف من وراء النجاح بهذه العملية لإعلان نفسها بمسماها الجديد وقيادتها القديمة ، فصيلا قائدا وطليعة لبقية الفصائل التي صار عليها أن تأتمر بأمرتها و أن تشاركها المصير والوجود في مواجهة العدو الدولي ، بما يعني ذلك تصنيفها معها ضمن قائمة الإرهاب المستهدف دوليا من دول عديدة في العالم قررت تنسيق عملياتها ضد النصرة وضد داعش فقط، بعد جهد ديبلوماسي كبير من السعودية وتركيا، وهذا لم يعجب قادة النصرة ولم يدفعهم لتحرير عناصرهم ودفعهم لمكان آخر آمن يتابعون منه جهادهم ، بل فضلوا الاحتفاظ بالزعامة لأنفسهم حتى لو نتج عن ذلك مقتلة كبيرة وتعريض الثورة السورية لخطر مواجهة طيران وجيوش أجنبية ولصق صفة الارهاب بها ، وهو ما يصب في خدمة اعادة انتاج نظام الأسد ، وترسيخ الإحتلال الإيراني والروسي … وزيادة تهجير ومتابعة ابادة العرب السنة في سوريا والعراق ( وهنا يصبح سلوك النصرة معاكس للغاية والاسم الذي حملته) .

وهذا بالضبط هو سبب تحول الموقف السياسي من قادة جبهة النصرة وليس من عناصرها .  فقادتها  كان عليهم طاعة علماء الدين الذين بذلوا جهودا مضنية من دون جدوى ، اصطدمت دوما بأنانيات الزعماء رغم أنهم يدعون الجهاد في سبيل الله وليس السلطان ، كان عليهم عدم توريط  بقية الفصائل بل عدم توريط شبابنا الذين في الجبهة في مواجهة مع دول عظمى … المصالح الشخصية والحسابات الخاطئة والتضليل والديماغوجيا أوصلت قيادة النصرة لهذا المكان والموقف المناقض لما يعلن ويدعى ، بعد أن امتدت هذه الثقافة في معظم قادة المعارضة والثورة وكانت سببا في عقمها رغم كل هذه التضحيات … وهذا ما استوجب النقد والتوضيح . مع غض النظر عن الخلاف الأيديولوجي حول شكل نظام الحكم الذي لم أدخله في الحساب لأنه  خلاف معروف وسابق أقبل به كديمقراطي … يتمسك بواجب النقد في زمن  يقدس فيه الأشخاص ويرفعون فوق المراجعة والمحاسبة ،  وتصبح  العقلانية فيه خيانة وكفرا … والديماغوجية العاطفية منهجا ثوريا .  ويستمر التخبيص وتستمر المعاناة … وننتقل من خيبة أمل لأخرى في مسيرة الانكفاء والزوال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.