يثب

من ينتصر في الصراع على سوريا ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

{ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) } (سورة الروم 2 – 6)

منذ بداية التاريخ المكتوب كانت  بلاد الشام   وما تزال ساحة صراع بسبب مكانها في ملتقى ثلاث قارات ، أي في مركز العالم القديم ، الذي لم يشهد الاستقرار إلا  في ظل الإمبراطوريات الكبيرة غير القومية : (الإغريقية والرومانية ثم الإسلامية – العربية والتركية ) . ومع استيراد الفكر القومي العضوي من أوروبا عادت الصراعات والحروب لسوريا والعراق وعموم المنطقة كنتيجة لها وتعبير عنها … فالفكر القومي الفارسي المعاصر يتناقض مع الفكر القومي العربي والتركماني ، والإسلاموية السياسية الشيعية تتناقض مع الإسلامية الجهادية السنية، وهذا ينطبق على بقية القوميات والديانات في المنطقة التي تحتاج لاستقرارها منظومة تعايش رحبة تستوعب التنوع الكبير الموجود فيها .

المشروع الفارسي لإقامة دولة إيران العظمى يشبه إلى حد كبير مغامرة النازية ويذكر بهمجية هولاكو ، بسبب التناقض التام مع الوجود العربي التاريخي في الشرق الأوسط ، فمشروع إيران يقوم على تقويض الوجود العربي في الشرق الأوسط ، كما كان توسع الوجود العربي على حساب تفكيك الدولة الساسانية التي كانت عاصمتها في العراق واختفت تماما بعد هيمنة الحضارة العربية الاسلامية ، لكن من دون همجية ومجازر وتهجير بفضل الدين الإسلامي الذي كان حاضنة للتنوع والتعدد القومي .

لم تكن طموحات شاه إيران الفارسية (التي تحاكي النزعات القومية الأوروبية) تحمل مشروعا دينيا كالذي طرحته الثورة الإسلامية الإيرانية التي تعتبر كل شيعي أينما كان حليفا طبيعيا للفرس الصفويين … فالثورة الاسلامية  قلصت المسافة بين التشيع والتفريس، فصارت الفارسية وليست العربية هي لغة الشيعة ودولتها هي دولتهم … وهكذا  فالمشروع الديني الشيعي الصفوي بقيادة نظام الملالي قد أصبح حاملا للمشروع الإمبراطوري الفارسي، في الشرق الأوسط.

جعلت إيران من مقاومة اسرائيل غطاء تمويهياً لمشروعها ، لتحييد أكبر قدر من القوميين العلمانيين العرب ، فاندست تحت عباءة مقاومة اسرائيل ( وهي عباءة القومجيين العرب أصلا وشماعة مصائبهم) وتغلغلت بفضلها في كل من سوريا ولبنان وفلسطين … ثم قدم الإحتلال الأمريكي العراق على طبق من ذهب لإيران ، وقدّم انسحاب جيش الاحتلال السوري لبنان على طبق من فضة لإيران أيضا ، وبعد انفجار الحرب في سوريا صارت إيران هي المدير الفعلي للنظام النصيري السوري، وأعلنت نفسها حليفا لمعظم الأقليات في مواجهة الوجود العربي السني في المنطقة ، بل صار المشروع الفارسي هو الخنجر الذي يستخدمه أعداء العروبة والإسلام التاريخيين ، وأصبحت الهمجية والبربرية هي أداته الأساسية في تحقيق ذلك المشروع.

لم تعترض اسرائيل على مجرى الأحداث طالما كان مشروع إيران في طور الصراع مع الوجود العربي القومجي، أو الجهادي، لكن عندما أصبح قريبا من النصر بفعل التغاضي الغربي والدعم الشرقي الروسي والصيني ، ظهر التناقض بين المشروعين الصهيوني والفارسي للعلن، وشعرت اسرائيل أن إيران بهذا الحجم والتكوين والدور في الشرق الأوسط سوف تشكل خطرا وجوديا عليها، لا يقل عن خطر توحد العرب القومجيين ، أو الإسلاميين الجهاديين في مواجهتها … لذلك وجدت نفسها تختار بين خطرين لا يقل أحدهما عن الآخر ، فسياسة الغرب في توريط إيران واستنزاف المنطقة أدت لاستنزاف قوى الاعتدال ونمو قوى التطرف على حسابها…

فانتقلت اسرائيل ومعها جوقة الدول الحليفة الغربية والشرقية التي ترسم سياستها في الشرق الأوسط مرورا بالتوافق مع مصالح اسرائيل ، انتقلت لسياسة تشجيع الفدرلة والتقسيم لكل دول المنطقة ، وتغييب أي مشروع أيديولوجي جامع لها ، وهي بالفعل السياسة التي تحكم وتوجه المواقف الدولية و تضبط تطور الأحداث في الفترة الأخيرة … لكن هذا التجزيء لا يدوم ولا يعيش إلا باستمرار الصراعات التي أدت لتحول معظم دول الشرق الأوسط لدول فاشلة تعمها الفوضى، وبالتالي فإن أي استقرار وسلام أصبح بحاجة لمشروع جامع مختلف لمنطقة الشرق الأوسط  على غرار الاتحاد الأوروبي ( بعيدا عن التعصب القومي والديني الذي هو مادة وحطب هذه الصراعات )… وهذا يتطلب تغيير بنية النظم السياسية والثقافية في المنطقة، وبشكل خاص اسقاط نظام الملالي في إيران، بعد انهيار النظم القومجية العربية بفعل الربيع العربي … وبعد توحد جهود العالم شرقا وغربا لمحاربة التنظيمات الجهادية السنية التي تحاول تشكيل دولتها في الشرق الأوسط وطرح نفسها كبديل عن المشروع القومي العربي ، والتي تدخل في منافسة جذرية مع المشروع الديموقراطي المدني الذي حملته ثورات الربيع العربي في بدايتها .

ومع تلاحق الهزائم التي تتعرض لها الحركات الجهادية السنية ، ومع استمرار تقويض مشروعها السياسي بتدخل دولي عنيف وهمجي متفق عليه بين كل قوى الشرق والغرب مرورا باسرائيل ، والذي تستخدم فيه كل صنوف الهمجية العسكرية التي لا تحيّد المدنيين ، تبقى عملية تقويض وتفكيك نظام الملالي في إيران وتوابعه في الشرق الأوسط ( نصر الله والأسد ) شرطا أخيرا لتحقيق السلام والاستقرار والتعاون في الشرق الأوسط كله ، طالما أن سقوطهم لم يعد لصالح الحركات الشمولية الجهادية ، وهذا يتطلب اعتماد استراتيجية استنزاف وحصار للنظام الإيراني الذي يخوض تسابقا مع الزمن باتجاه امتلاك أسلحة الدمار الشامل وفرض نفوذه النهائي على العراق وسوريا ولبنان ، مستفيدا من الفراغ الذي تخلفه عملية تقويض المنظمات الجهادية السنية ، ومحاولا إحداث تغيير ديموغرافي جذري متزامن مع الحرب معها .

لن تستقر المنطقة بانتصار إيران ولا بانتصار التعصب القومي العربي ، ولا الديني الشيعي أو السني ، بل لابد من صيغة جامعة مرنة هي وحدها من تستطيع اعادة السلم والاستقرار …  ولن ينجح أي احتلال في البقاء لأن تكلفته قد أصبحت بفعل العولمة أغلى من منافعه ، ولا مكان عند الشعوب للأيديولوجيات الشمولية خاصة مع هيمنة ثقافة الحرية والليبرالية التي فجرتها الثورة الفرنسية في مواجهة قدسية السلطة ، ولا مكان لمفهوم الأمة العضوية العنصري المتشدد الذي لا يقيم وزنا  للفرد ومصالحه والذي تخلصت منه أوروبا بعد أن تسبب بحربين عالميتين … وهذا ينطبق على التشدد السياسي الديني والقومي (العربي والفارسي)  (السني والشيعي) ، وينطبق أيضا على الاحتلال الروسي  والإيراني الذي يراهن على عناصر قد تجاوزها التاريخ .

مما لا شك فيه أن الكلمة الفصل في الصراع على سوريا ستأتي من الشعب الإيراني الذي سينفجر يوما في مواجهة هذا النظام المجرم الذي لن يستطع تحقيق أحلامه المتضخمة ( مهما تاجر بشعارات شمولية دينية )  بسبب التحول الكبير في الثقافات ، و بسبب العولمة ، وانتشار نمط الحياة الحديث الذي يغزو كل المجتمعات بما فيها الإيراني ، وكذلك بسبب التفوق الاستراتيجي الطبيعي للوجود العربي على الفارسي ، والسني على الشيعي ، وبانتظار ذلك اليوم لا بد من استمرار مقاومة ( مشروع ايران العظمى ) وبشكل خاص مواجهة سياسة الشحن الطائفي والتغيير الديموغرافي ، واستنزاف قدرات ايران وقواتها في عموم المنطقة ، وتشديد الحصار عليها ، لكن هذه المقاومة لا يجب أن تكون لصالح الأيديولوجيات المتطرفة قوميا ودينيا ( مهما بدت مشجعة وفعالة ) لأنها أصل المشاكل والصراعات ومنبع للإرهاب وعدم الاستقرار والاستبداد  …

من سينتصر أخيرا في الصراع على سوريا ليس الفرس ولا العرب ، ليس السنة ولا الشيعة ، بل قيم الحرية والديموقراطية والمدنية وحقوق الإنسان . وستهزم كل الأيديولوجيات العنصرية والشوفينية والتعصبية ، وسيهزم كل استبداد واحتلال حتى لو انتصر عسكريا ( في حلب وريف دمشق وحمص ) ، فالنصر العسكري للمحتل والغاصب ، والاستبداد السياسي لا يؤمن عوامل استقرار النظم التي لا بد لها من توافقات مجتمعية .

باختصار : الشرق الأوسط مفاعل ثقافي سياسي يختزل مسائل العالم ويصوغ حلولها ، والصراع فيه وعليه هو صراع على الحضارة ومستقبل الإنسانية … لذلك يتوجب على كل من يجد نفسه طرفا فيه أن يختار بعناية أين يضع قدميه … فالتاريخ يسير نحو الأمام الذي فيه المزيد من الخير والحق ، ولا يعود للوراء الذي يصبح تلقائيا ضمن الباطل .

{ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) } (سورة سبأ 49)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.