يثب

ماذا بعد خسارة حلب ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يقولون أن الهدف الثاني بعد حلب هو إدلب أو دوما ، وأنه بسقوط حلب سقطت الثورة عمليا ، وما تبقى منها مسألة وقت … وفي الدول الغربية يتحدثون عن حتمية التفاوض مع روسيا حول سوريا، ثم ضرورة التفاوض بين المعارضة المهزومة والنظام  المنتصر على تسويات …

بينما أغلب السوريين  الذين صاروا عمليا خارج قضيتهم (التي دفعوا فيها ما دفعوا من أثمان باهظة) يقفون حائرين ويتساءلون ماذا حدث ؟ معقول أن يبقى الأسد ويخرج الشعب … وأن يسيطر النظام على معظم المدن السورية بما فيها حلب وحمص وغيرها من المدن والحاضرات بعد كل هذا العناء لتحريرها ؟؟؟

عادة بسبب التشويش والحماسة التي ترافق المعارك يفقد المتفاعل قدرته على التقييم والفهم الموضوعي،  فقبل عدة أشهر وبعد تحرير الراموسة وما فيها من ثكنات عسكرية دار الحديث عن تحرير حلب بالكامل بقيادة فتح الشام وأحرارها ، فوجدنا أنفسنا بعد فترة بسيطة نخسر الراموسة ثم حلب كلها ، فما الذي حدث ولماذا … طبعا لسنا هنا بصدد اللوم ، لكننا بصدد المراجعة … فهل كانت حساباتنا صحيحة بالأمس ؟ وما هي حسابات المستقبل الواقعية .

في خطاب الثورة وبشكل خاص الاسلامي يتم استبدال الواقع بالمعنى والقيمة … فالنصر ليس في تحرير الأرض وبناء المؤسسات وإعادة الحياة للمجتمع … كل هذه الأمور السياسية لا قيمة لها … النصر أن نقاتل بضراوة ، وأن نكسب احدى الحسنيين … فالمجاهد لا يخسر ولا يهزم … نعم يتم رفض لغة السياسة وقيمها ، والتمسك بخطاب معنوي بديل ، لذلك يخرجون علينا بخطاب يشبه خطاب البعث الذي يعتبر نفسه منتصرا في كل الهزائم السياسية والعسكرية لإنه بقي بالسلطة . فهو القيمة الوطنية والسياسية الأهم بل الأوحد التي لا شيء يعلو عليها …

صحيح أن المجاهد المخلص لوجه الله لا يخسر ولا يهزم ، لكن في المعارك بين الجيوش هناك منتصر ومهزوم ، وصحيح أنه يجب التوكل على الله في كل شيء ،  لكن النجاح في هذا التوكل يشترط المشيئة ، فلسنا نحن من نأمر الله ونلزمه بتوكلنا عليه ، فالأمر أمره الذي نتلمسه من قراءة الظروف والإمكانات التي يتيحها لنا ، التوكل شيء شخصي بين الإنسان وربه الذي ينصره أو يتقبله شهيدا ، أما الجماعات فهي ليست أنفس لكي تتوكل وتتوفى … فتوكل الجماعة محكوم بالأخذ بالأسباب والإعداد ، وحساب عناصر القوة والضعف ، و لا بديل لها عن استخدام العقل والجهد في المعرفة قبل القيام بالفعل … وهذا ما أبطلناه أو يراد لنا ابطاله بدافع الإيمان ، وهو تعبير عن الضحالة الفقهية والفلسفية في الحركات الاسلامية السائدة هذا اليوم … والتي يتسبب خطابها الديني الديماغوجي المنفصل عن الواقع والفقه في تشوش مقدرتنا على التفكير العقلاني الذي يؤدي للعمل الناجح .

وفي هذا السياق لا يجب استغراب خسارة حلب ، فميزان القوى واضح أنه ليس في صالح المعارضة ، وحال المعارضة يرثى له سياسيا وتنظيميا وعسكريا وفكريا واعلاميا واغاثيا وإداريا ، ناهيك عن تفاهة ونتانة قادتها ، وصراعاتهم وتسلط أمراء وتجار الحرب و السياسة عليها واختراقهم والتلاعب بهم من قبل مخابرات الدول العدوة والصديقة على السواء لدرجة تغييب المصلحة السورية بالكامل …

ميزان القوى بين الثورة والنظام قد توازن منذ أن توقفت عمليات الانشقاق ( نهاية عام 2012 ) ، أي منذ أن عجزت المعارضة عن إشراك المزيد والمزيد من قطاعات ومكونات الشعب في الثورة ، وعن تفكيك مؤسسات النظام ، و إقامة مؤسسات بديلة مقنعة،  فهذا كان المؤشر الأول لتوقف الثورة وتعرقلها ، طبعا حدث هذا بسبب تحول خطابها الديمقراطي لخطاب طائفي ، وبسبب سوء قياداتها وقرفهم ، والذين ظهروا وكأنهم نسخة ممسوخة عن شبيحة النظام ، وهم يتحملون كأشخاص ومؤسسات أغلب المسؤولية عن تراجع الثورة بعد أن عمت أرجاء سوريا في أشهرها الأولى بزخم شعبي كبير وتعاطف دولي واسع جرى تقويضه بالتدريج على يد تلك القيادات الفاشلة …

وما جعل النظام يزداد قوة ويتفوق بعد ذلك هو بلا شك الدعم الإيراني والروسي ، لكن هذا أيضا ترافق بلجم الدعم الغربي والعربي المتوقع للمعارضة بسبب تزايد هيمنة الجماعات السياسية الإسلامية على العمل العسكري والسياسي فيها … ثم قيام تلك الجماعات  بتفكيك الجيش الحر لحسابها ( إن كانت تحت مسمى داعش التي هيمنت على معظم المناطق المحررة وطعنت الثورة في ظهرها بالتناغم مع النظام وايران ) أو كانت تحت مسميات أخرى في ما تبقى من المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام ( جيش الإسلام ، فتح الشام ، أحرار الشام وما شابهها ) ، خاصة وأنها أصرت على مشروعها المنفصل عن الثورة ، وتبنت خطابا طائفيا منغلقا وعدائيا وصل حد اعلان ارتباطها بأيديولوجيا القاعدة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة … مما أذعر الغرب وأعطى ايران الفرصة المناسبة لتحظى بمباركة غربية ودعم روسي لتهيمن على سوريا ، بل تحتلها بمليشياتها كما يحدث في الآن في حلب وريف دمشق وغدا في ادلب ودرعا …

ما حصل عسكريا هو سماح أمريكا والغرب لميليشيات ايران بقتال المجموعات الإسلامية السنية في سوريا والعراق ، مع غض النظر عن التدمير والتهجير الذي تقوم به ، والذي تعتبره ايران الصفوية نصرا ، فاحتلال حلب بعد تدميرها بالكامل وتهجير ما تبقى من أهلها هو نصر لجيش الإحتلال الصفوي وليس للنظام الذي أخذ ركام مدينة من دون شعب ولا حياة … ولو خرج الأهالي بالورود للقاء المحتل لقلنا أنه قد انتصر ، لكن نزوح المدنيين وتشردهم مثقلين بجراحهم بعد صمود أسطوري يعني أن النظام كنظام لم ينتصر . ولا أعتقد أن من فر من بطش النظام سيقبل بالعودة لحضنه ، ولا أعتقد أن النظام أو ايران بصدد تقديم تنازلات للطرف المهزوم في أي عملية تفاوضية ، بل ستكون الغطرسة هي عنوان سلوكهم. والتغيير الديموغرافي هو وحده من يثبّت نصرهم … نعم في حلب ومعظم سوريا هناك هزيمة عسكرية واضحة من لا يعترف بها يخدع الشعب ويخدع نفسه .

خسارة حلب هي هزيمة  واضحة للجماعات الإسلامية المسلحة التي لن تعترف بهزيمتها كالعادة ، ولا بالضرر السياسي الذي تسببته للثورة والشعب، بالرغم من قتالها البطولي ، سقوط حلب هو نتيجة لقرار دولي بمنع قيام دولة (طالبان أخرى) في سوريا والتي أصبحت إدلب نواتها ، والتي ستكون الهدف الثاني للهمجية الروسية المسموح لها استخدام كافة صنوف الأسلحة . وما تبقى من جيوب محاصرة في حلب هو عنصر استنزاف مستمر للمعارضة سياسيا واقتصاديا ولا يشكل أي قيمة عسكرية واستراتيجية .

المؤسف أن هزيمة هذه الجماعات الإسلامية تعني هزيمة المجتمع بعد أن أصبحت هي الحامي الوحيد لبقايا الأهالي من بطش ميليشيات النظام ، خاصة بعد أن استقالت المعارضة السياسية من كل مهامها وواجباتها تجاه الأهالي ، وبعد أن تفكك الجيش الحر ( التعبير العسكري عن الثورة الديموقراطية ) وقضي عليه تماما في الشمال … ولكن بمقدار ما كانت هذه الجماعات الإسلامية مستقلة أيديولوجيا ، وعلى مسافة واسعة من الثورة التي تعتبرها مطيتها ، بمقدار ما تبقى هذه الثورة بالرغم من الهزيمة العسكرية لهذه المجموعات ، فالثورة بالأصل ليست ثورتها ولا تحمل أهدافها ، وتديّن الشعب في سوريا لا تعبر عنه هذه المجموعات بشكلها ونمط تفكيرها وتنظيمها ، وهي ( أي المجموعات ) إن ظهرت بمظهر المدافع عن السنة فهذا لا يعني تطابق هزيمتها ونصرها مع هزيمة الشعب ونصره أو هزيمة الاسلام ونصره … وقد سبق وحذّرنا في مقال سابق من ربط مصير الثورة بمصير المجموعات المتشددة ، و ربط الوجود العربي السني بوجودها ، وحصرية تمثيل الدين فيها . ونحن اليوم أيضا نحذر من اعتبار سقوط حلب وتهاوي مشاريع الإمارات بقرار وتوافق وتعاون دولي (بين كل الدول العظمى)  أنه نهاية لثورة الشعب ونصر للاحتلال والاستبداد. فهذا ما تحاول تلك المجموعات تسويقه بالتوافق مع إعلام النظام وايران .

ما هو مطلوب أو مسموح به دوليا في شمال سوريا  (أي اسقاط الإمارات والأمراء على يد النظام والقوات الكردية ) يختلف عن جنوبها ، فانتصار النظام وإيران والكرد في الشمال يعني للغرب تقويض النفوذ التركي والجماعات السنية المتشددة التي يدعمها فقط ، حيث في هذا الخصوص لم تنفع البراغماتية التركية في منع سقوط حلب أو حتى منع تمدد التطرف القومي الكردي ، ومحاولة تركيا التفاهم مع الروس وإيران حول سوريا بإشراك الإخوان المسلمين كانت فاشلة بامتياز ، وعلى حساب المصلحة القومية التركية والعربية معاً ، طبقا لما حدث ويحدث على الأرض من توالي هزائم المعارضة ، وتقدم الكرد والنظام وايران الذين يقاتلون معا صفا واحدا في شمال سوريا بدعم أمريكي وروسي وأوروبي، لذلك نقول أن تخلي تركيا عن هذه السياسة المخدوعة قد أصبح أكثر من ضرورة قبل فوات الأوان … حيث يسعون جميعا ( الشرق والغرب  معا) لنقل الصراع والفوضى نحو الداخل التركي ، بعد فشل الانقلاب العسكري على سلطة الشعب ، فما ينتظر تركيا في مخططاتهم ليس أقل سوءا مما شهدته العراق وسوريا لا سمح الله .

هذا في الشمال أما في الجنوب السوري فانتصار النظام واستقراره يعني وصول الحرس الثوري الإيراني للحدود مع الأردن واسرائيل ، كما أن سقوط دمشق بيد الاحتلال الإيراني نهائيا  يعني عمليا إعلان قيام ايران العظمى في الشرق الأوسط ، والذي يبشر بقرب سقوط دول الخليج العربي برمتها تباعا ، وخروج أمريكا من الشرق الأوسط بالجملة والتقسيط . وذلك ما سيجبر الجميع على إعادة حساباتهم قريبا  بعد الاستيقاظ من خمرة احتلال حلب ، خاصة إذا توجه الجهد الإيراني  بعكس المتفق عليه مع روسيا وأمريكا .. أي للجنوب بدل الشمال : دمشق و درعا بدل إدلب والرقة . حيث ستطبق إيران العظمى بالتعاون مع حلفائها من الإخوان السنة الطوق حول اسرائيل ، ويصبح استقرار الأردن هو الهدف التالي بعد سوريا . يرافقه اسقاط السلطة الفلسطينية لصالح حماس … عندها ستصبح  دولة اسرائيل رهينة الابتزاز والتهديد الإيراني المطلق اليد و الذي سيلجم أي ردة فعل غربية عن التدخل لحماية دول الخليج وأنظمتها من الاجتياح الصفوي للكويت والبحرين وشرق المملكة بل وجنوبها أيضا بما فيها البيت الحرام ذاته .

من طرفنا كسوريين ، ولكي لا تتحول الهزيمة العسكرية في حلب لتصبح هزيمة سياسية وطنية تكرسها التفاهمات الدولية ، وعمليات التفاوض ، وهو ما تجهد روسيا وايران وأوروبا لتكريسه . لابد لنا من اتخاذ الإجراءات التالية :

  • الانتقال لخطة استراتيجية جديدة تعتبر سوريا تحت الاحتلال .
  • اعتماد المقاومة وحرب الأنصار والعمل الفدائي وسيلة للتحرير وطرد المحتل .
  • الانتقال للعمل السري في أغلب المناطق وتشكيل قيادات عسكرية سرية في الداخل .
  • حل كافة بنى المعارضة ، وتشكيل جسد سياسي علني جديد في الخارج هدفه عسكري فقط وهو إرسال الدعم للمقاومة في الداخل . ( جبهة تحرير ) .
  • وقف أي عملية تفاوض أو سعي لحلول سياسية مع الاحتلال الذي يريد شرعنة وجوده بواسطة الانخراط في التفاوض برعاية دولية.
  • معاقبة كل من يدعي النيابة عن الشعب . فالشعب يمكنه اختيار ممثليه (فقط)  عندما يعيش بحرية على أرضه ، ومن دون ذلك وقبل حصول ذلك ، لا شرعية لأي تمثيل ، وكل من يدعيها خائن يستحق العقاب . وهذا يشمل المجلس الوطني والائتلاف والحكومة والأركان وهيئة التفاوض العليا المتشكلة في الرياض …. وكل من يدعي التمثيل الوطني أو المناطقي أو الطائفي . حيث حاليا يتم الابقاء عليها في العناية المشددة فقط لتقوم بالتوقيع على صك الاستسلام .
  • إصدار إعلان دستوري توافقي يؤكد أن الشرعية الوحيدة المتبقية هي شرعية المقاومة الوطنية (من دون أي أيديولوجيا سياسية ) فقط ولا غير .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.