يثب

مفاتيح السياسة في الأزمة السورية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبوانييثب

مع أن السياسة تغطي نفسها بالكثير من الشعارات والأيديولوجيات ، لكنها في الواقع هي التعبير المباشر عن المصالح . ولأن ما سمي بالمعارضة السورية هو عبارة عن مجموعة (نوادي رأي) لا أكثر ، فقد خلا سلوكها من السياسة تماما وانحصر في التنافس على الظهور في منابر الإعلام وفنادق السياحة ، وساد بينها التناحر على وراثة كراسي النظام الذي بدا وكأنه آيل للإنهيار … ونظرا لغياب ودمار مؤسسات المجتمع المدني ، فقد عجزت المناطق التي تحررت من سطوة النظام عن انتاج سلطات محلية وإدارة خدمية بديلة ، وبسبب الانقسامات الأهلية وثقافة الفساد فرغت الساحة الاجتماعية للمنظمات الأيديولوجية الإسلامية الأكثر تنظيما والمدعومة خارجيا وماليا لكي تشتري الولاء مقابل الغذاء ، في حين عملت منظمات سياسية اسلامية بشكل منهجي على تفريغ الهيئات الوطنية المعارضة من محتواها لكي تحتكر لذاتها الدعم والتسليح والإغاثة ، في مسعاها للاستئثار بالسلطة ما بعد الأسد ، وتوهمت أن الشعارات الإسلامية تجعلها تلقائيا قائدا طبيعيا لكل المجموعات الجهادية التي رغم ذلك تمايزت عنها وبدأت بتشكيل دولها وإماراتها الخاصة على حساب كل البنى السياسية والعسكرية الأخرى .

في نهاية عام 2012 بدا واضحا للغرب أن سقوط الأسد سيكون لصالح المنظمات الجهادية السلفية التي هيمنت تدريجيا على العمل العسكري والإغاثي والسلطة في آغلب المناطق المحررة وقضمت الميليشيات المحلية غير المؤدلجة ( الجيش الحر ) ، لذلك لجم الغرب الدعم المقدم للثورة ، وتخلى تدريجيا عن مطلب اسقاط النظام . وبسبب تبني بعض المنظمات الجهادية لأيديولوجيا القاعدة علنا ، فقد أوجدت المبرر الكافي لفتح باب التدخل الأجنبي لدعم النظام بحجة محاربة الإرهاب ، وهذه أكبر خدمة قدمتها جبهة النصرة ( فتح الشام ) للنظام، قبل أن تتعاون معه داعش سياسيا وعسكريا وتقدم له أكبر الخدمات التي لم يكن يحلم بها ، في حين يتصف سلوك مجموعات اسلامية أخرى بالريبة خاصة في ريف دمشق ومحيطها .

بسبب ذلك التغير الجدي في أيديولوجيا وتنظيم الثورة السورية لم تمانع أمريكا خصوصا والغرب عموما في تلزيم مهمة اضعاف ومحاربة هذه المنظمات الحهادية للإيراني المتحالف مع النظام (بهدف استنزاف الطرفين )، لكن الإيراني يفهم ذلك ويحاول أن يجير عمله لصالح تثبيت نظام الأسد وترسيخ وجوده … متعمدا إحداث تغيير ديموغرافي خطير في المنطقة بواسطة ارتكاب عدد هائل من المجازر والجرائم ضد الإنسانية … في هذا السياق هناك تسريبات متزايدة تؤكد وجود تفاهمات ايرانية أمريكية على عدد وحجم المليشيات والقوات الإيرانية العاملة في سوريا . مع أن الإيراني تعود على تجاوز الخطوط الحمر الأمريكية وإحداث تغييرات ثابتة على الأرض لصالحه ، دون بروز ردات فعل جدية عليه.

بحجة وجود بعض المقاتلين الشيشان وحوادث أخرى ملتبسة كاسقاط طائرة الركاب ، قررت روسيا الدخول المباشر في الحرب على الشعب السوري بهدف تعزيز نفوذها في المنطقة عبر دعمها العسكري لقوات النظام المتهالكة ، وقد حظي تدخلها بمباركة اسرائيلية مبدئية أملا في منافسة النفوذ الإيراني المنفرد على النظام السوري.  قبل أن تكتشف روسيا مقدار حاجتها للميليشيات الإيرانية العاملة على الأرض ، لذلك أصبحت روسيا عمليا تخدم المشروع الفارسي مقابل الحصول على نفوذ دولي وترسيخ امتيازات لها في الساحل السوري ، وهي بسبب ذلك غير قادرة على لجم الإيراني ، وغير معنية بحل سياسي للأزمة السورية ، إلا إذا ضمن فرض انتصار كامل ونهائي للنظام واستسلام كامل للمعارضة ، ومع ذلك نجحت روسيا في التوصل لتفاهمات سرية مع أمريكا على استهداف عدد من المنظمات الاسلامية المتشددة المحسوبة على المعارضة ، وضمنت إطلاق يدها في الشمال لتقويض النفوذ التركي أيضا الذي يمانع انشاء دولة كردية ( تحظى بدعم استراتيجي ولوجستي غربي واسع ) .

بعد فشل الانقلاب العسكري المدعوم غربيا في تركيا اتجهت إدارة أردوغان للتنافس مع إيران على كسب ود روسيا ، التي تحاول التوفيق بينهما على تسوية ترضي الطرفين ، إن كان عبر حل سياسي يحقق تقاسم السلطة بين النظام والإخوان المسلمين ، والذي سيكون محور التفاوض الذي ترعاه روسيا لوحدها والمرشح للفشل ، أو عبر تقاسم مناطق النفوذ من دون حل سياسي شامل وهو الأكثر احتمالا ، بالنظر للتناقضات الهائلة بين الأطراف المتنازعة … والخاسر الأكبر من هذه التفاهمات السطحية هو الشعب السوري واستقلاله ووحدة أراضيه .

بسبب الضعف الأوروبي والانسحاب الأمريكي ، وعدوانية روسيا الصريحة ونزعتها للسيطرة على الساحل السوري ، وبسبب التفكك العربي  وخيانة بعض الأنظمة ، وبسبب الضعف البنيوي لتركيا الحديثة التي تعاني من أزمة هوية ، والتي يكفيها ضغط وحصار اقتصادي لتحقيق ما عجز عنه الانقلاب العسكري … لذلك لا يوجد أفق حالي للحل في سوريا ضمن المعطيات الحالية ، فالكفة قد أصبحت تميل بشكل واضح لصالح محور إيران على المدى المنظور ، وكل حل أو تسوية لن تكون إلا نوعا من الاستلام غير المشروط ، الذي ينتهي بتغيير ديموغرافي سياسي غير قابل للعودة في سوريا ، وعلى حساب وجود العرب السنة في الشرق الأوسط .

وبسبب غياب امكانية تفاهم السوريين، و فشل عملية توحيد جهود المعارضة ، وفشل الشعب السوري في انتاج قيادة سياسية وعسكرية موحدة قادرة على استجلاب وتوظيف الدعم لمشروع تحرير سوريا، لم يبق أمام شراذم المعارضة من إمكانية للعمل السياسي إلا من خلال مصالح الدول المتدخلة التي بدورها تحاول توظيفهم كعملاء أو مرتزقة عندها . فالدعم الخارجي وخاصة الخليجي بالطريقة التي قدم بها ساهم بشكل رئيسي في نمو ظاهرة الارتزاق والفساد وأمراء الحرب وطغيان المنظمات الاسلامية .

كما تبين بوضوح متزايد أن الجماعات الإسلامية المسلحة غير قادرة على التفاهم مع الحاضنة الاجتماعية ومع بعضها البعض ، وأنها تعاني من تدني مزري في الوعي السياسي والاستراتيجي ، و من اختراقات خطيرة في صفوف قياداتها جعلها أحيانا تخدم مخططات حزب الله وايران في سوريا ، وليس أولها اعلان الارتباط بالقاعدة وليس آخرها مسرحية فك الحصار عن حلب التي انتهت بتسليم كامل المدينة للعهر الإيراني . دون أن ننسى داعش التي طعنت الثورة في ظهرها ، وتبنت عمليات ارهابية في العواصم الداعمة للثورة السورية ، بما يخدم صراحة المشروع الفارسي وبقاء النظام ، وهي حتى الآن بمأمن من هجمات النظام والروس والإيرانيين ، بما يؤكد توظيفها في مشروعهم .

بالمقارنة مع دول الجوار وبعد نكبة حلب التي عجز التركي عن تجنبها ، يبرز دور اسرائيل كجارة متضررة من هيمنة ايران على الشرق الأوسط ، وقادرة على لعب دور منتج في عملية استعادة سوريا بهويتها الطبيعية ، وعلى لعب دور مؤثر في ترتيب الأحداث في المنطقة، باستخدام قوتها العسكرية والمعلوماتية ، أو باستخدام نفوذها الدولي المؤثر جدا في قرارات الدول التي تتعلق بالشرق الأوسط ، وهذا يشمل كل الدول العظمى في الغرب والشرق .

مما يطرح تلقائيا السؤال عن الثمن والشروط المطلوبة اسرائيليا لكي تلعب هذا الدور ؟ الجواب عليه يحتاج لتقييم وبحث متواصل ، خاصة وأنه مرتبط ببقية الخيارات والتطورات … أقصد كيف ستسير الأمور على الأرض ولصالح من … كذلك مدى تقبل ودعم الشعب السوري لمثل هكذا خيار …

بعد انتهاء المهمة الروسية المتوافق عليها دوليا (القضاء على المنظمات الجهادية)  والتي قد تستغرق أشهر أخرى، ولتجنب انتصار كامل للنظام وايران وروسيا على حساب مصالح بقية الدول ، يتوقع أن تتحرك الدول باتجاه انضاج تسوية نهائية للوضع في سوريا ، لكن هذه التسوية ستكون بحكم ميزان القوى عبارة عن استسلام كامل من قبل المعارضة أمام التغول الروسي والإيراني وغطرسة النظام ، الذين سيصرون على ترسيخ تغيير ديموغرافي كبير لصالحهم … لذلك لن ينجح مثل هكذا خيار حتى لو وافقت عليه هيئات المعارضة الانتهازية الباحثة عن المناصب ، بسبب رفض الشعب السوري ومتابعته لخيار المقاومة والتحرير ، وعليه وبسبب حتمية فشل التوصل لحل سياسي ، ولتجنب صدام مباشر بين الدول المتدخلة ، فإن السيناريو الأقرب احتمالا للحدوث هو تنشيط الجهود الرامية لاقامة مناطق آمنة ، هي بشكل ما مناطق نفوذ للدول الجاره بتحالفاتها البعيدة ، و نوع من تقاسم النفوذ على سوريا وتبريد للصراع  عليها ، ومحاولة لإبقاءه صراعا بالواسطة وليس مباشرا . مع استمرار عملية التنافس والقضم التدريجي بين هذه الكيانات .

الإدارة الأمريكية الجديدة أبدت اهتمامها بهذه السياسة ، وتركيا تحاول جاهدة رسم حدود منطقة آمنة غرب الفرات لكنها خسرت منها حلب بضربة واحدة ، وهي معرضة لخسارة ادلب أيضا بسبب تحولها لإمارة اسلامية مستهدفة من قبل التحالفات الدولية ، بينما لا تفعل الدول العربية شيئا لملء الفراغ في مناطق تواجد داعش التي تنتظر الزوال ، فأمريكا تسمح  بقتال داعش فقط تحت الراية الكردية ، وتمنع ذلك تحت الراية التركية  والاسلامية ، لذلك يجب التركيز على القيام بدور عربي فاعل في الجنوب والشرق ، والعمل السريع على إقامة منطقة آمنة في الجنوب ، وهذا يتطلب تنسيق عربي أمريكي أوروبي واسرائيلي … فإذا استطاع العرب انقاذ الجنوب من هيمنة الحرس الثوري الإيراني ، وتحرير البادية من داعش ، لن يكون صعبا التقدم باتجاه تحرير دمشق وريفها وحتى حمص وبقية المدن السنية من ميليشيات إيران ، وهذا سيلعب دورا مهما في منع قيام إيران العظمى ، و في استعادة الوحدة السورية فيما بعد ، بشكل أو آخر حتى لو كانت تحت مسمى فيدرالي …

من بين السياسات الخارجية للدول العظمى تبقى السياسة الفرنسية وبعدها البريطانية هي الأكثر حنكة وأبعد رؤية … ويبقى العامل الأهم والحاسم في هذا الصراع هو الشعب الإيراني ، حيث يتوجب الاستثمار في دعم المعارضة الإيرانية دعما جديا ، وعدم الانجرار نحو تسعير خطاب الشحن الطائفي ضد الشيعة والذي يستثمره جيدا نظام الملالي بمشروعه الهمجي الذي يشبه إلى حد كبير المشروع النازي في أوروبا . مع ضرورة عدم التعويل كثيرا على الموقف التركي ولا العربي الخليجي بما فيه السعودي ، نتيجة تردي أحوالهم وضعفهم ودخولهم في أزمات بنيوية اجتماعية وسياسية واقتصادية تعرقل أي فعالية خارجية .

أنا لا أرى ضمن توزع القوى والمصالح المنظور خيارات كثيرة ، ونحن كسوريين غير قادرين على تغيير اتجاه الأحداث بقوانا الذاتية المبعثرة والتي لا أمل قريب في توحيدها، نحن نحتاج إذا لرافعة خارجية وهذه لن تكون بلا ثمن … قد نقبل بهذا الثمن الآن ! أو نُتْرَك لنقبل به كأمر واقع فيما بعد !  الفارق الذي أراه بينهما ، هو خسارة الزمن الذي يعني لنا المزيد من الدماء والدموع بكل أسف …

وعلى كل من يجد مفاتيحا أخرى للسياسة في سوريا غير هذه فليتكرم ويعرضها  ، لكن لا نريد سماع شعارات وخطابات أيديولوجية مملة ، لأنها في الواقع بعيدة كل البعد عن السياسة والفعل ، ولم تجدي نفعا …

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.