الحنين لسجون الوطن !!

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

سمح العقيد عدنان محمود رئيس فرع التحقيق في الأمن السياسي ( الفيحاء ) لزوينا عام 2002 أن يحضروا لنا ونحن في زنزاناته بعض الطعام من تحضيرهم … الطعام لم يكن مميزا بحد ذاته أو لأننا جائعين ، بل لأنه يحمل في كل قطعة منه قدرا هائلا من المحبة والشوق والحنين غمست فيه أثناء تحضيره ، لا تشعر بها في لسانك بل في عينيك التي تغص دموعا مع كل لقمة، فكم حملت تلك الأطباق من المشاعر والذكريات والحنين لمن تحب ويحبك ، وتألف ويألفك ، وكم تذكرك بقسوة الحرمان في البعد عنهم … فالطعام ليس في مذاقه فقط بل بذكرياته وارتباطه بصانعه ومكان تناوله ورفقته …

عندما تكون في السجن تشعر بقسوته ، وتتمنى لو تغادره بأي شكل حتى لو جثة هامدة ( فالموت هو أيضا إخلاء سبيل ) ، ولكن عندما تبتعد عنه ويصبح ذكرى تتحول ذكراه من الغضب والحقد نحو شيء غامض أشبه بالحنين ليس له أو لمعاناته ومرارته ، ولكن لذكريات زمن مضى ربما لن يعود ، كنت فيه ما تزال في وطنك ولو سجينا، وطنك الذي حرمت منه عندما طلبت له الحرية ، فالخروج من السجن نحو المهجر هو مقايضة قاسية فعلا بين الحرية والوطن ، وانتقال من غربة الزمان لغربة المكان ، ومن غربة الاستبداد والظلم لغربة الهوية والتاريخ والمجتمع …

صحيح كنا في السجن ، ولكن كنا في وطننا . صحيح أن السجانين غلاظ بحكم وظيفتهم لكنهم سوريون … العلاقة معهم كان فيها شيء من التوتر والغموض والتناقض ، هم يشعرونك دوما أنهم عبيد وظيفتهم ينفذون أوامر غيرهم ، وأنت تشعرهم أنك لا تستهدفهم كأشخاص وهوية بل كنظام ، هم وأنت تفهمون أنكم متشاركون في السجن الكبير الذي هو الاستبداد … فيبقى بينك وبينهم فسحة يعيش فيها نوع من التعاطف والتشارك والكراهية للنظام الذي وزعكم بين سجان وسجين … تعاطف دفين يحفظ ما تبقى من معاني الوطن الذي يجمعكم معا كمتناقضين متحدين فيه … هذا طبعا قبل الثورة حيث تفجر هذا التناقض وتحول الصراع مع النظام لحرب أهلية وصراع شخصي وطائفي ، وصار السجان والسجين يعتبرون بعضهم أعداء شخصيين مباشرين بوجود النظام وعدمه فيقتل السجان السجين دون رحمة ، وحتى من دون أوامر …. ويموت آخر ما تبقى من الوطن .

لقد سبق وحذرنا الرفيق المناضل رياض الترك ذو الخبرة الطويلة في السجون من معاداة السجانين ، ونصحنا بالفصل بينهم وبين النظام ، وهذا ما كان يقلق النظام ويودي بالسجانين أحيانا ليتحولوا لسجناء كما حدث مع عدد من عناصر ذلك الفرع فيما بعد ، منهم عدنان محمود ذاته . بينما حدث العكس في المقابل ، حيث تحول عدد من سجناء الرأي والضمير لمخبرين ينشطون في صفوف المعارضة وما يزالوا ينسقون معه تحت سقف الوطنية .

ونصحنا أيضا الرفيق رياض الترك (كمختار أو أمين عام للسجناء السياسيين ) حرص أن يكون معنا في ذلك المعتقل يومها : أن نبعد عن ذاكرتنا كل ماله علاقة بما يحدث في الخارج ، ولا نهتم لذكراه ، فالنسيان نعمة للسجين ، والذاكرة عدوه المدمر …

في السجن تغيب الأشياء … فتبقى الكلمات

ويضيق المكان … فيتسع المعنى

هناك في ذلك المكان الذي تنتهي فيه النزهة بخطوتين ، في تلك الزنزانة الضيقة التي لا تتسع لواحدة من أحقادي

… أراك يا حبيبتي فقط     عندما أغمض عيني …

في الزنزانة تتحول من حيوان لنبات ،

تعيش ذات المكان الذي أنت فيه ، جذورك تلتصق بجدرانه العفنة

ولأنه فارغ تملؤه من ذكرياتك، وتحول جدرانه لشاشات ترى عليها ذاتك وخيالاتك

تلتصق به ويلتصق فيك

تصبح أنت المكان والمكان أنت …

أنت وحدك ، وأنت …

وجدار ، وجدار ، وجدار

.. وباب الحديد أنت

وبطة المرحاض والصرصار ،

حقير بحقارته ، وقذر بقذارته، لكنه عظيم بصمودك وكبريائك.

خروجك منه … ولادة جديدة،

خروجه منك … شبه مستحيل، بعد أن صار جزءا من تكوينك … تخرج منه لتحمله معك في كل ترحالك

كأي نبات تحول لحيوان شريد .

في غربة المكان والأهل والتاريخ والهوية ، تعيش الزمان الإفتراضي كوطن بقي فقط على النت ، دردشات وأفلام هي زنزانتك الجديدة التي تحملها معك …

الوطن هو الشجرة التي ارتبطت بها ، وصارت في غربتك حيوانا لا يستقر في مكان…

مع كل لقمة من طعام الوطن تعذبك الذكرى وتلح عليك ، وماذا ستتذكر من وطنك غير تلك الذكريات التي انطبعت عميقا في ذاكرتك …

ماذا ستتذكر غير سنوات سجنك وعذابك وحرمانك …

ثمة أشياء جميلة تحبها في وطنك ، نعم ….  لكن النظام حرص على تدميرها جميعا …

منزلك بستانك شارعك وأهلك وأصدقاءك  … دمر كل ما نحمله في ذاكرتنا لكي لا نراه ثانية أبدا … وبقي لنا في وطننا فقط ذلك السجن الذي يحرص عليه ، فإذا أردنا أن نحن للوطن فنحنُ نحنّ إليه .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.