د. كمال اللبواني
تكثر اليوم في صفوف المعارضة كلمة سياسي ، وحلول سياسية ، ويتنطح من هب ودب للعب أدوار باسمها ، والقفز لكراسيها ، من دون معايير ومن دون فهم حقيقي لمعنى الكلمة ودلالتها … بحيث يبدو وكأن الثورة السورية قد حولت المجتمع كله لسياسيين وقادة وممثلين بمن فيهم رعاة الغنم وعمال الباطون ، ولم نعد ندري من هو السياسي ومن هو الإداري ومن هو الناشط ، ومن هو الطبيب ورجل الدين ، ومن هو الإعلامي ومن هو المقاتل … فكل من خرج بمظاهرة ، أو أكل كف ، أو حمل سكين ، أو طول لحية ، أو كتب بوست ، أو عالج مريضا ، أو قرأ سورة ، أصبح سياسيا ويدعي حقه في لعب دور قيادي والحصول على منصب سياسي حتى قبل استلام السلطة ، في حين نفتقد بشدة لأبسط مفاهيم السياسة ومعاييرها ومؤسساتها ورجالاتها .
بكل تأكيد يستطيع أي مواطن أو ثوري المشاركة في الحياة السياسية من موقعه ، بل هذا واجبه ، لكن ذلك لا يجعل منه سياسياً (بالإسم والصفة ) ، فذلك له معايير ومواصفات يجب أن تتوفر فيه . خاصة وأن السياسة هي علم وفن وخبرة ولعبة تفويض وتمثيل وإدارة .
السياسة هي : مفاهيم ونظم ، ومؤسسات تقوم عليها ، وأشخاص يعملون بها … هدفها نقل المجتمع من حالة الشعب ببعديه (الإقتصادي المادي ، والثقافي المعنوي) ، لحالة الانتظام في دولة واقامة السلطات ، والسلطة السياسية هي تتويج لحالة الدولة ، بحيث تقود هذه السلطة ( النظام ) المؤسسات السياسية وفق منهج الإدارة بالأهداف ، فتترأس المؤسسات العامة والإدارات التي يتشكل منها البعد السياسي للمجتمع في الدولة الحديثة، وتديرها وفقا لبرنامج حكومي متوافق عليه هو عصب العملية السياسية وهدفها .
هناك فارق كبير بين الموظف الإداري في مديرية أو أمن أو جيش أو صحة أو إعلام … وبين السياسي ، حيث لا يشترط مثلا بوزير الدفاع أن يكون عسكريا من ضمن مؤسسة الجيش ، فهو مدير بالأهداف لهذه الوزارة . وهكذا نميز بين موظف في مؤسسة (برتبه المختلفة) وبين سياسي عنده برنامج ادارة له أهداف محددة ببرنامجه الحكومي … كل موظفي الدولة في زمن البعث بما فيهم أعضاء القيادة القطرية لم يكونوا سياسيين بأي معنى ، بل مجرد موظفين ومستخدمين لأن السلطة محصورة بيد شخص وأسرة ، تدار وفقا لهدف بقائه في ذروة هرم السلطة والثروة … وبالتالي لا يمكننا تسمية المنشقين عن النظام بسياسيين ، مهما كانت مرتبتهم ورتبتهم ونوع عملهم .
كذلك لا يمكننا تسمية بقية المعارضة بذلك الإسم … فالأحزاب السياسية لم تكن موجودة عمليا ، ولا حتى مؤسسات المجتمع المدني تحت مستوى السياسة كالنقابات مثلا ، وهو ما دفع بنا في ربيع دمشق لدخول العمل السياسي كأفراد من باب الرأي والنقد ، ومن باب القيم والمعايير التي يجب أن تحكم الحياة السياسية ( باب نقد السلطة ) وهذا لا يجعل منا أيضا سياسيين بالمعنى المطلوب ، لأننا لم نكن نملك لا مؤسسات مجتمعية سياسية حزبية تحضر نفسها لتكون سلطة . ولا خبرات ادارية تؤهلنا للعب دور سياسي مسؤول عن مؤسسات في حال وجدت .
وهكذا عندما طرح على (ما يسمى بالمعارضة) مهام سياسية فشلت فشلا ذريعا ، بل غاب عن ذهنها تماما مفهوم المؤسسة السياسية التي هي أساس العمل السياسي ، واكتفت بدور الناشط الذي يبدي الرأي ويعلق على الأحداث ويصدر البيانات ، جالسة على كراسي سلطة وهمية تطير بها وتتحرك في باحات الفنادق السياحية ، مهمتها ومتعتها هي تلقي الدعوات والسفر لتلبيتها كما حصل مؤخرا في جنيف والأستانة وكذا عاصمة صارت منصة للمعارضين من هذه النمرة … وهذا قد أصبح متاحا لمن هب ودب ممن صار يطالب بحقه في المتع السياحية التي ارتبطت بها … بينما بقيت كل الأمور العامة المتعلقة بحياة الناس وفعاليات الثورة من دون إدارة وتنظيم بل في حالة فوضى يرثى لها ، حتى أوشك النظام على إعلان انتصاره و وأوشكت إيران على تكريس احتلالها .
ومع كل هذا الضجيج السياسي الهائل الذي نسمعه باسم المعارضة لم نر طحينا ، وما نزال نفتقر (حيث يجب) لوجود حد أدنى من السياسة : إن كان في صعيد تنظيم الخدمات ، أو إدارة المال العام ، أو تجميع الفصائل المقاتلة وادارتها ، أو في التفاوض مع المجتمع الدولي أو النظام ، كما حصل في جنيف والأستانة … حيث اجتمع منظروا الجهل ( ثقافة الثقافة ) . مع مستخدمي الدول وتبعها ، وجائعي السياحة والتصوير بعقدهم الجنسية ، مع مشوهي الحرب نفسيا وجسديا ، لتمثيل الشعب السوري سياسيا … وهكذا نحن نعاني في كل مجال من فقر سياسي هائل بل مطلق، ليس بسبب قلة من يدعون أنهم سياسيين بل بسبب جهلهم بما يدعون ، أي بمفهوم السياسة ودور المؤسسة التي تجسدها ، وطريقة ادارتها …
لقد عاشت المجتمعات قديما على التقاليد والعرف الذي تطور كثيرا بواسطة الديانات ، وحكمت الدول والممالك والامبراطوريات بالقوة والغلبة ، والتي كانت دوما في صراع مع القيم التي تحاول لجمها وضبط سلوكها . والسياسة قبل الثورة الفرنسية كانت حكرا على فئة محددة ذات دم مقدس أو نسب شريف مدعوم من الهيئات الدينية ، وقبل الثورة السورية كانت شيئا كريها يعني السجن والمعتقلات ، لأنها تنتقص من سيادة القائد الملهم ، ونحن إلى اليوم ما نزال نخلط بين الثقافة وبين السياسة ونتوهم أنه يمكن للدين أن يكون بديلا عن السياسة ، لأنه أساس في الثقافة. ولا نعرف أن نميز بين الأبعاد الثلاثة التكوينية للتشكيلات الاجتماعية الحديثة ( اقتصاد ، ثقافة ، سياسة ) ، فنلغي البعد السياسي ونعوضه بالبعد الثقافي (الدين، أو العقيدة والآيديولوجيا ) فننتج الدولة الشمولية ، أو نقطع السياسة عن جذرها الثقافي والقيمي ، فتتوحش السياسة وتتغول السلطات وتبتلع المجتمع ، أو نعكس علاقة السياسة بالاقتصاد ، ونستخدم السلطة للتشبيح ونهب المال العام ، بدل أن تكون السياسة عملية بناء لتوافقات المصالح ، بشكل يسمح لها بالتحقق ، لكن وفق معايير ناظمة وضوابط خلقية تحفظ السلم الاجتماعي والعيش المشترك ، فتكون نتيجة غياب الوعي بالمفهوم تدمير كل أسس السلم الاجتماعي وإثارة الحروب الأهلية والنزاعات حتى داخل الحي الواحد والخندق الواحد .
فالفارق بين الثورة والفوضى بسيط جدا ومحدد : الثورة عمل عنيف وتمرد لكنه واعي وله هدف متفق عليه وهو ما يميزها عن الانتفاضة والفوضى … ولكي ننتقل من مرحلة الفوضى والفشل والتدمير الأعمى لحالة الثورة يتوجب علينا أن نستكمل ما ينقص هذه الثورة من وعي نظري وتنظيمي سياسي أساسا …
الشعب السوري اليوم (في طرفي الصراع) بحالة ما قبل سياسية ( حالة دولة فاشلة ) مجموعات تتعيش في ظروف صعبة ، محاصرة ومشردة ولاجئة ، أو مستعبدة لصالح أمراء حرب يتنازعون فيما بينهم . والشعب السوري بعد ثورة عمرها ست سنوات قد فشل تماما في انتاج السياسة التي جرب استبدالها بالدين فلم يفلح لأنه لم يدرك أن الدين يفتقر أيضا لمفاهيم السياسة و مؤسساتها ونظمها … لذلك لن يمكن إيقاف مأساته من دون جهد نظري تثقيفي يولد الوعي بمفهوم السياسة ودور المؤسسة (لأنه لا يمكننا صناعة ما نجهل ) ثم وبعد ذلك بذل جهد مادي حقيقي واعي لبنائها ، و تدريب العاملين فيها على أداء مهامهم بنجاح وبما يخدم غاياتها ، ووضع وسائل انتاجها ومراقبتها ومحاسبتها كمؤسسات … فالحضارة اليوم تقاس فعلا بمقدار فعالية وقدرة المؤسسات السياسية للدول ، وحيث نجحت السياسة نجحت الشعوب وقلبت أوضاعها رأسا على عقب … انظروا ماليزيا وكوريا ولا تنسوا الصومال .
السياسة هي التي تنظم العلاقة بين المنتج والمقاتل والشيخ والطبيب والمرأة والطفل ، وتكامل عملهم لانتاج حالة انتظام اجتماعي ، في دولة ترعى مواطنيها وتلبي مطالبهم ، والنشاط السياسي يقوم به كل فرد بل هو واجب وحق ، لكن ذلك لا يجعل منه سياسيا ، فالسياسي كالمحامي يجب أن يتمتع بالمعرفة والخبرة والتدريب ليصبح رجل سياسة ، وغياب تلك المفاهيم هو المسوؤل عما نعانيه جميعا من كوارث وألم ، فمصيبة الشعب السوري ليست نتيجة مؤامرة عالمية عليه كما يتوهم ، بل إن هذا الوهم هو ناتج العمى الذي تسبب به غياب مفهوم الدولة والسياسة عن وعيه، وتيهه في حالة ضياع وفوضى لن يخرج منها بفعل خارجي ، لذلك فقد حان الوقت لاطلاق مبادرات مجتمعية جادة تهدف لانتاج السياسة ومؤسساتها ورجالها ، وتنظيم قدرات هذا الشعب ، الذي لم يبخل أبدا في تقديم التضحيات، ومع ذلك ضاقت به الدنيا وتشرد في الأصقاع .
أو كما قال الرسول الكريم (إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ)