المراهقة السياسية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

للتخلف صورته السياسية أيضا ، وفشل النظم السياسية هو اليوم أهم عوامل التخلف ، ونجاحها أهم عوامل الإزدهار … وعندما تصل بنا الحال للتحول جملة لدول فاشلة سياسيا وعلى مساحة العروبة ، فذلك أمر يستدعي التوقف عنده والتفكير فيه .

في الماضي لم يوجد مفهوم للسياسة في الثقافة الشعبية بل هناك حكم المتغلب (سلطانا كان  أو جيش احتلال ). مفهوم السياسة عند الرعية مفهوم حديث نشأ مع التمرد على النظم التقليدية المستبدة ، وارتبط وما يزال بالمراهقة الثورية في الثقافة الشعبية ، السياسة عندنا وسيلة للتعبير عن الأنا وإثبات الذات  والتمرد ، وتصريف الكبت الاجتماعي والجنسي والاقتصادي ، ووسيلة للاستمتاع بالتسلط على الآخرين والحصول على الثروة … مفهوم السياسة السائد يبتعد عن طابعها الوظيفي الحضاري في خدمة توثيق روابط الاجتماع وتوافقات الشراكة ، والعمل المؤسسي ، وحفظ السلم وتداول السلطة ، ومنع طغيانها وفسادها ، ويستعملها بعكس ذلك كخطاب آيديولوجي تحريضي عدائي ، كآلة حرب وتدمير وتسلط وتخريب وليس بناء …

عادة يندفع الشباب لتلقف الحياة التي انفتحت أمامهم ، ويستعجلون للعب دور فيها واثبات الذات، فيتمردوا على الوصاية الاجتماعية والسياسية ، ويحاولوا أن يشقوا طريقهم الخاص ، ويصطدموا بالقديم الراسخ ، لذلك يميلون سياسيا للتمرد والفكر الثوري الذي يساعدهم على تحطيم القديم وإيصالهم للسلطة وممارستها كما يشاؤون لخدمة هذه الأنا الباحثة بشدة عن نفسها خاصة في مناخ الكبت  … فكل شاب ، بحكم طبيعة الشباب، مرشح لأن ينضم لآيديولوجيا ثورية توصله بسرعة للسلطة ، التي يفضِل أن تكون ديكتاتورية تسهل أمامه فرض الجديد المعبر عن الشباب الباحث عن إثبات ذاته وخدمة رغباته … فالمراهقون عندما ينخرطوا في السياسة على طريقتهم ، يقدموا صورتهم عنها .

في شبابنا  لم يكن الدين آيديولوجيا تلعب دورا ثوريا ضد الجليد السائد ، الراسخ كمزيج من المحافظة والخنوع والاستبداد ، حيث كان الدين الرسمي والمجتمع التقليدي في حلف طويل مع السلطات المستبدة ومتعايش معها في سباتها … لذلك مال معظم الشباب يومها للفكر الثوري اليساري المستورد الذي يبرر لهم تمردهم ، ويفتح لهم أمل الوصول السريع للسلطة والتحكم بالمجتمع عن طريقها … كان الفكر اليساري هو الفكر الثوري الوحيد المتوفر ، ولم يكن يهم تأصيله الفلسفي ولا مدلواته البعيدة بقدر ما يهم كأداة صالحة للتمرد بهدف التسلط ، بغض النظر عن الاحتياجات المجتمعية وتوازناتها المعقدة التي لم تكن في الحسبان … فما يحرك الشباب المكبوت هو الرغبة المستعجلة للوصول للسلطة والامساك بها ، وليس القيم أو البرامج التي تهدف لإصلاح وتطوير الحياة السياسية التي لا يملكوا أي مفهوم أو خبرة عنها في الدول المتخلفة.

في الستينيات ، انقسم الشباب المراهق سياسيا بين ثلاث تيارات متنازعة: أكبرها القومي الذي تبنى الفكر العروبي المتعصب والمبالغ به على الطريقة النازية ، والشيوعي الستاليني الثوري الذي كان ينتشر في العالم كرد فعل على الرأسمالية الطبقية ، وأصغرها الديني الثوري الذي يتصف بصفة التمرد والخروج وتكفير المجتمع والسلطة … وهكذا طغت على المراهقة السياسية ثلاث رايات أساسية هي (القومية الفاشية ، و الشيوعية الستالينية ، والدينية الخوارجية ) . واستطاعت اسقاط الأنظمة المحافظة في أغلب الدول التي وجد فيها مجتمع مدني نامي ومؤسسة عسكرية مفتوحة وتعليم واسع ، ومؤسسات دولة حديثة أوجدها الاستعمار ، حيث استفاد التيار القومي من انخراطه الواسع في التعليم والوظائف الحكومية وفي الجيش لتحقيق انقلابات عسكرية أطاحت بالنظم التقليدية وأسست الجمهوريات العربية التي نعرفها : ثورة شباط في العراق وآذار في سوريا ويوليو في مصر والفاتح في ليبيا وكذلك في الجزائر والسودان واليمن وتونس ، وكلها انقلابات عصبوية عسكرية سمت نفسها ثورات شعبية يومها .

في حين فشل هذا النوع من المراهقة السياسية الثورية في الوصول للسلطة في الدول التي تحتفظ ببنيان أهلي قوي على حساب المدني . واستطاعت الأنظمة المحافظة التقليدية الحاكمة فيها الاستمرار بالرغم من تخلفها عن متطلبات الحياة السياسية الحديثة . بينما عاثت المراهقة السياسية التي تسلمت الحكم في الجمهوريات العربية فسادا وتخريبا وقمعا في مجتمعاتها تحت راية التحديث المشوه ، وانتهت صبيانيتها بهذه المجتمعات للتمرد والثورة عليها فيما سمي بالربيع العربي ،

تلك الثورة التي كان يفترض أن تحمل المبادئ الديموقراطية ، لكنها اعتمدت هي أيضا بسبب وحشية السلطات على حامل إجتماعي طبيعي في كل ثورة هو الشباب ، الذين لم يجدوا في الفكر الديموقراطي فكرا ثوريا يناسبهم ويلبي طموحاتهم ويبرر مغامرتهم وتضحياتهم ، بالمقارنة شكلا مع الفكر الديني الجهادي الأكثر تزمتا واستبدادا ، والذي دفع بهم لحمل السلاح والقتال وممارسة السلطة المطلقة من فورهم كشرعيين وأمراء ، وحيث انتصروا على النظام ، وبغض النظر عن المجتمع … فتحولت هذه الثورات لتصبح شكلا جديدا من المراهقة السياسية الدينية ( تجلت بتنظيمات ومجموعات تخبط في الدين والسياسة والحرب ) ، أوقعت بها صبيانيتها هي الأخرى في مطبات الفشل والتناحر …

أن يراهق المرء في شبابه أمر طبيعي ، لكن المشكلة أن يستمر في المراهقة حتى في كهولته وشيخوخته … ويتبنى آيديولوجيات ليس لها مدلول سياسي أو فكري غير الوصول للسلطة ، فإذا تأمن له هذا الطريق تخلى عن أيديولوجياته وكأنها لم تكن ، واستمتع بممارسة هذه السلطة تبعا لنزواته … طبعا أقصد هنا كمثال (المعارضة السياسية السورية) بشكليها السياسي والعسكري … حيث تمارس السياسة كطريقة لاثبات الذات وخدمة الأنا وتصريف عقدها وكبتها ، فيتسابقون كهولا وشبابا على الزعامة والمنصات والتقاط الصور ، فكلهم يحملون لقب رئيس ولا يهم نوع أو عدد أعضاء المؤسسة التي يرأسونها ، و يستميتون في التنافس على الكراسي والامتيازات والمتع المترافقة ، وفي حال تسلموا سلطة فعلا فمتعتها مرتبطة باستعمالها كأداة قهر وتسلط وسلب وفساد .

بعد كل هذا الخراب الذي صنعته المراهقة ، صار علينا أن نفهم أن المجتمعات والحياة الاجتماعية ، كما الاقتصاد والسياسة لا تستقر بتسويد المراهقين المتعطشين للتسلط وفرض الذات واخضاع الآخرين ، فالسياسة عقد شراكة حر بين الناس يحفظ لهم حقوقهم ومصالحهم ، والسياسي موظف مكلف بمهمة محددة ، عليه واجب ويقبض أجر ، وليس زعيم وملهم وقائد ومنظر ومرشد وإمام …. وغير ذلك هو  تكريس لحرب أهلية وصراع دموي يختفي تحت الرماد أحيانا ، ويندلع نيرانا فوقها أحيانا أخرى … فالحرب الأهلية السورية بدأت فعليا بثورة البعث عام 1963 واستمرت بثورة الشعب عليه عام 2011 ، التي لم تنتج حتى الآن سوى نسخ منسوخة عنه ، لأن المراهقة هي طابع  السياسة السائد حتى الآن نظاما ومعارضة، وهي ما يتسبب بكل هذا الصراع والتناحر والتشرذم الذي ندفع ثمنه غاليا . فالفكر هو حقن للأيديولوجيا ، والأيديولوجيا هي حصان الوصول للسلطة ، والسلطة هي أداة تحقيق النزوات الشخصية والمنافع الخاصة…

لذلك أصبحت الثورة على هذا الواقع الدموي تتطلب ثورة على مفهوم السياسة السائد .. بل ثورة على الفكر الثوري المراهق ذاته ، بمفاهيمه عن البطل الملهم الزعيم الرئيس الملك الأمير وهي صور عن أحلام طفلية قد تستمر حتى سن المراهقة ، لكنها لا يصح أن تكون ثقافة شعب تحرك معظم سياسييه .

مؤخرا  لم تعد المشاركة في الثورة والانقلاب أو ركوبها هي فقط وسيلة المراهقين للوصول للسلطة ، بل صارت العمالة الرخيصة للدول الفاعلة في الملف السوري هي هذه الأداة ، لذلك يتسابق المراهقون الجبناء لتقديم أوراق اعتمادهم لها ، أو للذهاب لجنيف والأستانة وغيرها على أمل أن تكون طريقهم إلى السلطة في دمشق …

وبطريقة مشابهة  أنظمة الحكم التقليدية التي فقدت انسجامها مع مجتمعاتها ، وحكمتها أجيال جديدة لا تستمد شرعيتها من محافظتها ودورها الاجتماعي التقليدي الذي بدأ بالتفكك ، بل أصبحت تستمد نفوذها بشكل متزايد من الولاء والتبعية للدول الفاعلة ، منتجة نموذجا مشابها للمراهقة السياسة المنفصلة عن توازنات المجتمع وتعقيداته ، ومنغمسة في النزوات الشخصية ، وبذلك تلتقي الدول المحافظة مع الدول الثورية في آخر الطريق ، وتصبح مرشحة هي الأخرى للفوضى والفشل والتمردات والحرب الأهلية التي لا تبدو مؤشراتها أنها بعيدة …

تعددت الأسباب ، وتعددت الأشكال لكن المراهقة السياسية واحدة ، فحيث تسود يعم الخراب . في صدامها مع أنظمة المراهقة القومية نجحت ثورات الربيع العربي المراهقة هي الأخرى في تخريب أي شيء بل كل شيء ، لكنها لم تنجح في بناء أي شيء ذو قيمة بسبب مراهقتها ، فأدخل هذا الصراع الغير منتج الدول في دوامة الفشل والتفكك والحرب الأهلية …

الشيء الوحيد الذي فعلته الثورة  أنها أثبتت استحالة استمرار الاستقرار باعتماد أنظمة الاستبداد ، وعبثا ستحاول الدول الفاعلة اعادة انتاج نظم المراهقة ، أو جلب مراهقين جدد من عملائها للسلطة …   عمليا وبنتيجة الثورة المراهقة ، نفت المراهقة نفسها بنفسها ، فشلت وأفشلت الأنظمة أيضا ، وأثبتت أنه لا يمكن لهذه المجتمعات أن تُحكم بعد الآن بالمراهقة السياسية والمراهقين السياسيين ، ليصبح الحل السياسي الوحيد لاستعادة الاستقرار هو استبعاد هذه المفاهيم وشخوصها ، وإعادة انتاج السياسة كفعل تشاركي مجتمعي يحقق حالة من الانتظام والسلم في مجتمع تحطمت بناه التقليدية وصار يبحث عن الجديد، في مناخ من الفوضى و الصراع . بحثٌ  لا يمكن له أن يبدأ من مباحثات جنيف أو دستور موسكو ، بل من تعاون سكان المخيمات البائسة والأحياء الجائعة  ومزارعي القمح ، لبناء مؤسساتهم والتحكم بالمال العام والخدمات والسلطة القانونية التي يرتضونها ، لذلك ندعوا أبناء الشعب المنكوب للعمل وفق مفاهيم ووسائل سياسية مختلفة لكي يتجاوز مأساته التي هي من صنع أبنائه المراهقين … هكذا فقط تولد الأمم  وتقام الدول الحديثة المستقرة .

هذا على الصعيد العربي ، أما على الصعيد الدولي فمصيبة الغرب أنه سيضطر لإصلاح ما خربه في دول العالم الثالث بسبب سياسة التبادل غير المتكافئ التي بنا رفاهيته عليها ، ولن ينفعه العودة لليمين المراهق سياسيا ، الذي يتجاهل مفعول العولمة، التي تقول إما أن نتحضر معا أو نتوحش وننهار معا … عاجلا سيضطر ترامب لجمع الأموال وإرسال الجيوش لإعادة بناء سوريا التي خربها سلفه . وما كان ذلك ليحدث لولا ثورات المراهقة التي عممت الفوضى وألغت الانتظام الظالم … فهي شكل من أشكال هذه العولمة وتجلياتها … العولمة التي تبني مفاهيم جديدة وقيم جديدة ونظم جديدة محلية ودولية …

وبعد ست سنوات بل خمسين عام من المراهقة السياسية حان للشعب السوري أن ينضج سياسيا ويعيد بناء حياته المجتمعية على مفاهيم وشخوص مختلفة . وأن يتعلم بقية الأخوة والشعوب من تجربته المريرة ، فسوريا كانت دوما السباقة في الصعيد العربي والإسلامي والشرق أوسطي … وثورتها رغم عدم نضجها حتى الآن ستغير سوريا وتغير محيطها والعالم أيضا ، الذي لم يستطع إلا أن يتدخل فيها لذات السبب .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.