التظاهرات الجنسية في الربيع العربي

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

عندما أحرق بو عزيزي نفسه مشعلا ثورات الربيع العربي ، بدا وكأن الضيق الاقتصادي والقمع السياسي هو ما دفعه لفعل ذلك ، وليس الكبت الجنسي الذي فجره تعرضه لإهانة من امرأة … كذلك بدت الثورات العربية التي اندلعت تباعا كثورات مغلفة بمطالب سياسية . لكن وبمجرد تجاوز قشرتها السياسية الهشة تكشف عن دوافع داخلية مرتبطة بالتكوين النفسي المعقد الذي شكل ليبيدو الثورة والعنف والتغيير… وهو برغم مظاهره المتعددة من حب الزعامة والسلطة والثروة والتنافس التناحري وتحطيم الآخر والسيطرة عليه ، يبقى عمليا مرتبط بالدافع الجنسي المكبوت أولا وأساسا ، حيث يلعب الجنس دورا رئيسيا طاغيا في تكوين كل ليبدو نفسي كونه هو العنصر الأساس في توليد الحياة الاجتماعية ، بشكل مضمر ومن دون المرور بحالة الوعي ، ويتظاهر بألوان من الدوافع المختلفة المتفرعة عنه ، فالسلطة والزعامة والثروة  هي وسائل ضرورية للحصول على غايات تتعلق في معظمها بالحياة الجنسية ومتعها . ( فالليبيدو كما يشرحه فرويد هو قوة الرغبة والحماس ، الطاقة الدافعة التي تعمل تحت الوعي وتحرض أنماط السلوك )، فكيف تكوّن هذا الليبدو الجنسي الثوري ، وكيف وُظف في التسلط والفساد والتمرد والعنف والثورة في طرفي الصراع ؟

من الضروري فهم هذا الدافع وطريقة عمله لفهم النتائج التي تفضي إليها الثورة ، فما ينتصر بنتيجة الثورات عادة ليست الشعارات السياسية التي تتزين بها، بل الدوافع اللاشعورية التي تسكن الليبدو الثوري المحرك لها ، عادة يتوقف قطار الثورة والدافع الثوري عند المحطة التي تحقق هذا الدافع إن كانت زعامة ، أو إمارة ، أو ثروة ، أي عند أول امكانية لإشباع هذا الليبيدو …  لا اتحدث هنا عن القلة التي تطورت عندها الأنا العليا واستطاعت أن توحد بين قيمها وبين سلوكها بغض النظر عن الدوافع اللاشعورية ، فهؤلاء النبلاء القلة قد تحركوا بقناعات إيمانية عن وعي ، وسابق تصور … لكن أتحدث عما دون ذلك عند الأكثرية والعامة الذين تحركوا من دون وعي فردي سياسي واضح ومحدد مسبقا بفكر ونظرية ، بدوافع الحماس للتغيير الناتج عن الكبت الذي ولد الثورة وتوقف عند أول محطة تصريف لهذا الكبت ، حيث احتشد فيها جمهور غفير ممن يُسمَّون اليوم بالانتهازيين والمتسلقين والفاسدين ، دون أن ندرك أن كثيرين غيرهم كان سيفعل فعلهم لو حصّل ما حصّلوه .

في الواقع انفجرت جماهير الربيع العربي ليس بتأثير إيمانهم العميق بشعار الحرية والديموقراطية التي لم ترى النور في المناطق المحررة ، بل بتأثير ليبدو الكبت السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي في معظمه ينبت على جذور الكبت الجنسي ، وتناسب عنف الجماهير واصرارها مع مقدار هذا الكبت وتوزعه الديموغرافي ( فقراء العرب السنة ) ، وشاركت فيه المرأة يدا بيد مع الرجل محطمة نظام الحجاب والفصل ، وأخذ تعبيره السياسي بشعار الحرية التي لم تكن تحمل معناها السياسي (المبهم عند شعوب متخلفة جاهلة لم تخبر السياسة ولم تشارك فيها) ، بل تحمل معناها الاجتماعي المضمر ، في مجتمع معقد متناقض مكبوت تحطم شكلا بمفعول الثورة والحرب ، فعملت قوى الاستبداد السياسي على قمع هذا الربيع (سياسيا) ، في حين عملت القوى المحافظة التي شاركت فيه على قمعه (اجتماعيا) ، وأعادت المناطق المحررة لحظيرة مجتمع الكبت القديم بشكله الأكثر صرامة وتحت تهديد السلاح والحسبة .

وبسبب تفكك نظم الرقابة الاجتماعية التقليدية (بفعل الثورة والحرب )، صار لزاما عليها التشدد أكثر وأكثر في ضبط الدوافع الجنسية المتهيجة . والمزدادة تهيجا بسبب التغيرات التحتية الكبيرة في نمط الحياة وسويتها ، والتي تتهيج  أكثر وأكثر في ظروف الحرب ، خاصة عند المقاتلين الذين يصرّفون توتر تهديد الموت عبر ممارسة الجنس الذي يولد الحياة ، فالقتال واستعمال السلاح هو شكل من أشكال تصريف العنف الجنسي والرغبة في الاقتحام والولوج والسيطرة ، والجنس هو أيضا نوع من المعارك التي تنتهي بالاحتلال والقتل الرمزي ، واقتران الحرب بالجنس بذلك المستوى لا يترك فارقا كبيرا في الدافع الثوري بين ثوار الخنادق وثوار الفنادق فكلاهما يحركه دافع وليبدو واحد تظاهر بشكلين مختلفين ، وأدى هذا الخلاف الغير معلن عنه على المسألة الجنسية لتوقف الربيع العربي عند مفترق طرق طارحا مجموعة أسئلة : هل يمكن للحرية أن تتجزأ سياسيا واجتماعيا وجنسيا ؟ هل يمكن تحقيق تطور ديموقراطي وخدمي ومعاشي من دون التعرض لخطر التحلل ( التحرر ) الجنسي الحرام ؟

نحن هنا لا ندعو لنموذج معين  ولا نختار بينها ، لكننا نوصف الواقع ، ونعتبر أي نظام  (يعمل في الواقع) أفضل من أي نظام (عاجز عن السيطرة عليه)  … نحن نناقش مسائل طرحت نفسها بقوة على الفكر والفلسفة والفقه ، لكنها بقيت في دائرة الممنوع التفكير فيه والتصريح عنه ، تمارس سرا مغطاة بغبار الثورة والحرب وخيام التهجير … تظاهرت على شكل أزمة هائلة طالت معظم الشباب الذين فقدوا مجتمعهم القديم وعجزوا عن انتاج الجديد، لم يستطيعوا ايجاد صيغ تعايش بين معطيات الحضارة وبين الحفاظ على الهوية المتمحورة حول الدين … فدفعوا ثمن ذلك على شكل إعاقة لثورتهم ، وكبت وعقد ومعاناة وفشل اجتماعي وعملي ودراسي ، وارتكابات ( تحررية ) في المخيمات والمعسكرات والفنادق وغيرها … وأحيانا كثيرة ولدت عندهم نزوعاً نحو التطرف و العنف والتشدد والإرهاب .

السؤال هنا كيف عرقلت الأزمة الجنسية مسار ربيع الحرية العربي ؟ وكيف لعب التراث الديني دورا مساندا لأنظمة القمع بالرغم من الصراع العسكري معها ؟ وقبل ذلك لماذا تكوّن هذا المقدار من الكبت الجنسي وتراكم في الليبدو الذي ولد الثورة؟

في الثقافة الفارسية القديمة المرأة تنتمي لممكلة الشر والظلمة والشياطين لذلك يجب حجابها والتحفظ عليها ( زرادشت ) ، وفي الثقافة العربية الشمس مؤنثة والسلطة مؤنثة ، والمرأة سلطة مخيفة يجب حجبها كما نتظلل من أشعة الشمس المحرقة في الصحراء …لأن انطلاق الغريزة الجنسية في هكذا ظروف وفي مجتمعات نشيطة جنسيا (يتناسب نشاطها مع مقدار القرب من خط الإستواء ) من شأنه أن يقوض النظام الاجتماعي القبلي القائم على تقديس رابطة الدم ، والذي يرتبط بنيويا بقيم العفة والشرف والانضباط الجنسي الصارم . بينما توظف الطاقة الناجمة عن كبت الغريزة في تعزيز حالة الغلظة والقسوة والقوة الضرورية للتسلط والدفاع والغزو ، وتتظاهر برموز السيف والفروسية والحرب والكرم والشعر ، والتي تزداد ذكورية بمقدار إخضاع (المرأة كسلطة طبيعية)  وحجابها وتحويلها لظعينة.

فمنذ انتهاء عصر سلطة الأمومة وحتى العصور الحديثة كان ضبط الدافع الجنسي هو عنوان الحضارة والسلم الاجتماعي ، فالجنس ليس هدفه المتعة وفقا للنظم الاجتماعية المطبقة، بل له وظيفة محددة هي الانجاب ، لذلك ارتفعت في هذه النظم سوية التحريم الجنسي لدرجة التابو المقدس الذي يحذف تلقائيا الرغبات المتعلقة بالجنس من ساحة المفكر . ويحصره فقط ضمن مؤسسة الزواج الشرعي القانوني ( المسيحية كانت الأكثر تشددا في هذا المجال ) . مع أن هذا يتناقض مع طبيعة الدوافع الفطرية التي ترتبط بالحاجة الجنسية ومتعتها ، والتي دخلت جملة تحت باب الشيطان والإثم والخطيئة ( لترتبط القداسة والطهارة بالرهبانية والامتناع التام عن الجنس ) وليعاقب العرف والقانون والدين بشكل صارم أي انتهاك لنظام التحريم .

لكن الحاجة الجنسية والرغبات المتعلقة بها مكونة من مزيج متنوع من المورثات : منها ما هو مرتبط بالحب وتشكيل الأسرة (وظيفتها الحفاظ على النوع) ، ومنها ما هو  مرتبط بالرغبة في الوصول لأكبر عدد من الشركاء (وظيفتها تطوير هذا النوع بخلط المورثات ونشر الأفضل)، وهي مرتبطة بالقوة والعنف والشهوة ، والتي كانت جميعها معترف بها وتؤدي وظيفتها بشكل تلقائي حر في مرحلة السيطرة الأمومية ، ثم تعرض معظمها للقمع والإلغاء منذ استقرار الحضارة المدنية وبداية عصر السيطرة الذكورية وصولا للعصر الحديث …

حديثا تطورت الظروف المعاشية كثيرا ، ولم تعد الرفاهية والتفكير بالمتعة واللذة حكرا على النخبة والخاصة التي اتصفت بالمجون عبر التاريخ ، بل صارت متاحة للعامة ، ولم تعد الحياة مجرد لهاث وراء تأمين الحاجات الأساسية للبقاء كما كانت ، بل أصبحت توفر الفائض الذي يُمكّن من البحث عن الرفاهية ومتعها ورغباتها المرافقة لهذه الحاجات ، وبالتالي نشأت فلسفات اجتماعية جديدة تهدف لتحقيق المتعة في الحياة ( فلسفة اللذة ) ، وانتشر نمط من الثقافة الاستهلاكية الممتعة ، حتى في المجتمعات المتخلفة والبيئات الفقيرة ، حيث يزداد مقدار الشعور بالكبت والحرمان ، ويتطور ليبدو التمرد ويتأجج بمقدار تزايد الفقر وتخلف النظم الاجتماعية والسياسية … وهذا ما شكل الظرف الثوري للربيع العربي .

في معظم العالم انتصرت ثقافة التحرر الجنسي والبحث عن اللذة ، ليس فقط بسبب التطور التكنولوجي والخدمي والتنظيمي وانتاجية العمل التي تضاعفت أكثر من مئة مرة خلال قرن ، بل أيضا بسبب تطور نظم الاقتصاد وتراجع دور الأسرة البطريكية ، ونشوء المجتمع المدني ودخول الدولة كضامن للطفولة والأمومة ، وتطور نظم الضبط والمراقبة والمحاسبة ، وانخراط الفرد في علاقة مواطنة مباشرة مع الدولة دون وسيط أهلي . وأيضا بسبب تطور الطب وامكانية فصل المتعة الجنسية عن الانجاب … وأهم من ذلك مطالبة المرأة باستعادة حقوقها ودورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ، وخروجها من نظام الحجاب الذي فرض عليها وحولها في العصور الذكورية لمملوك تابع للرجل ، تباع كعبدة جنسية بثمن وصداق ما يزال يعبر شكلا عن هذه العبودية ( محبس ، طوق من زرد حول العنق ، إسوارة معصم  ، وخلخال قدم ، وحلقة تعلق في الأذن أو الأنف ) ، وكلها أدوات كانت تستعمل لربط العبيد والحيوانات الأليفة ، قبل أن يتطور نظام الزواج كشكل ملطف من هذه العبودية ، حيث علقت عليها القطع الذهبية التي تدل على أن الاستعباد لم يحدث بالعنف بل بالتراضي والبيع المدفوع الثمن ذهبا ، وهكذا أصبحت القيود العبودية الأصل حليا ومصاغا تزين به العروس ويذكّر بالأصل العبودي للرابطة الزوجية.

في أغلب المجتمعات المعاصرة تحررت المرأة تدريجيا من دورها الدوني في المجتمع ، وتراجع النظام القانوني عن مسؤوليته في ضبط ممارسة الجنس ، ولم يعد الزواج عقدا قانونيا حصريا لنكاح المرأة المملوكة للرجل ، بل أصبح عقداً طوعياً تشاركيا لإنشاء أسرة وتنشئة الأطفال ، يمكن ممارسة الحياة الجنسية من خلاله أو بدونه ، وانتشر الطلاق كظاهرة تعبر عن عجز نظام الزواج عن تلبية طلبات المتعة ، وشاعت الخيانة ، والمعاشرة ، وانطلقت بفعل تلك التغيرات الكبيرة رغبة الشراكة الجنسية الواسعة والحرة والمثلية وكسرت تابو التحريم والمنع ، واكتسبت الشرعية القانونية في معظم الدول خلال القرن الماضي … وبقي العالم العربي خصوصا والاسلامي عموما بسبب قوة وتأثير الدين تكوينيا فيه ، يتمسك بالتابو التحريمي القديم السالف ، يرفض الاعتراف بالمتغيرات التحتية الحاصلة بفعل التغير الحضاري الذي اعتبر فسوقا وانحرافا وضلالا عن الدين وتدميرا للمجتمع بالرغم من قوة وتفوق المجتمعات الأخرى عليه …

تجلى ذلك على شكل أزمة جنسية ضخمة طبعت بطابعها معظم السلوك الفردي للذكور والاناث معا الذين يعيشون جسديا واستهلاكيا في هذا العصر ، وثقافيا وقيميا في عصر مضى : ففقد تابو المنع والتحريم الجنسي قدستيه ، وانتشرت قصص الخروقات والتدنيس ، وارتفعت سوية الإثارة والتحريض ، وانطلقت غرائز الجنس ورغباته التي أصبحت بحاجة أكبر وأكبر للكبت ، وصارت حياة الفرد تنقسم لنموذجين ، واحد معلن شرعي يعيش في الموروث شكلا ، وآخر سري معيب لا يمكن التصريح به ، فتنامت مظاهر إرضاء هذه الدوافع بالطرق الرمزية والتعويضية كالاستعراض والتجمل وحب الظهور والتبرج وحب الزعامة والنشاط الثوري … وكلها أشكال تعبير عن رغبة دفينة بممارسة الجنس الحر ، تتظاهر بشكل استعراض جنسي مضمر ومغلف … وأصبح تفكير الجنسين مستقطبا حول رغبات هائجة ومحرضة بشدة ، ممنوعة شكلا وشرعا ، ومتوفرة سرا كخطيئة … فعاشوا في تناقض داخلي مدمر ، تسبب بتشوش وضياع وفشل دراسي وعملي ، وطبعت المجتمع مظاهر الخداع والمراوغة والتناقض بين الممارس فعليا وبين المصرح عنه … وبرز التنافس التناحري بين الجميع والرغبة في مراقبة الآخر والشك به، بل خداعه والاحتيال والعدوان عليه، وانتهاك خصوصيته … وبسبب ارتباط الحاجة الجنسية بالعنف والتحدي صار الكبت الجنسي هو المولد الأساس لليبيدو العنف الثوري ومن ثم الإرهاب الذي تولد فيه عندما عجز عن التصريح بمكنونه التحرري واكتساب الشرعية اللازمة لممارسته .

فالشباب الذي يعرف أنه قد ارتكب الكثير من المخالفات المحرمة التي تودي به بالدرك الأسفل من النار ويهتز لها العرش ، والذي يعرف تماما مدى قوة دوافع نفسه الشيطانية التي تكاد تقهره في كل لحظة … والذي يعيش حالة صراع جدي بين دوافعه المتهيجة وبين ايمانياته المضادة لها … قد لا يجد طريقا للخلاص من هذا التناقض والتوتر من دون طقس التطهر والشهادة … التي تصبح طريق النجاة الوحيد المتوفر في مثل تلك الظروف …

يتظاهر التشدد الاسلامي اليوم برمزين أساسيين هما الحجاب والسيف المستعمل لفرض قيم التحريم الجنسي ، ويوضع الاسلام في مواجهة قاسية مع نمط ثقافة العصر ، ويرفض الاعتراف بضرورة تغيير الأشكال التطبيقية للقيم والمقاصد الأخلاقية والاجتماعية الاسلامية بما فيها المتعلقة بالجنس ، وهذا ما وقف عمليا في وجه الربيع العربي وأحبطه ، وحوله لصراع أهلي (ليس سياسيا بين استبداد وديموقراطية )، بل اجتماعيا بين نمطين فلسفيين ونموذجين للعيش ، وساعد أنظمة القمع على حشد قاعدة شعبية وراءها  فقط لأنها متخوفة من فرض ذلك النموذج القديم على حياتهم الاجتماعية ، والتي اندفعت بشكل مفرط باتجاه الإباحية الرخيصة والمنحطة ، وهكذا برز وجه آخر للصراع جنسي الطابع ، تبنى الاستبداد منظومة قيم اباحية أكثر فأكثر طغت في مناطق سيطرته ، وتمسكت الثورات بمنظومة قيم محافظة أكثر وأكثر فصار الحجاب زيا رسميا ملزما للمرأة في المناطق المحررة ، وفقد شعار الحرية وحدته وانقسم لحرية سياسية مضادة لحرية اجتماعية ، وهذا ما عرقل انتصار ثورات الحرية ،  حيث لعب التراث دورا محبطا لمفهوم الحرية عزز بقاء أو عودة النظم التي ثار عليها الشعب …

لذلك لا نستغرب نجاح الردة عن ثورات الربيع في أغلب الدول التي حدثت فيها ، ولا فرار معظم الثوار لدول اللجوء ، ولا تزايد عزلة الجهاديين الاسلاميين رغم بسالتهم وفدائهم ، والذين يشعرون بخيبة أمل من مجتمع فاسق ، قد يجدوا من الصحيح وصفه بالجاهلي ،  والسبب في ذلك ليس خللا في الإنسان ، بل عدم القدرة على فهمه ، و عدم تأصيل ثورات الحرية ضمن الفكر الاسلامي ، و نزعة التمسك بالشكل على حساب المضمون ، وعدم القدرة على إعادة توظيف الدين في ظروف ومناخ العصر المتغيرة التي يتم رفضها كليا وجملة . وعدم فهم الدين فهما مرنا قابلا للتطبيق بأشكال اجتماعية مختلفة متناسبة مع معطياتها الحضارية المتداخلة التي لا تقبل التراجع … فنمط الحياة الحديث فرض نفسه على كل الشعوب والأمم والثقافات ، وهو أقوى من أن يقاوم لأنه يدخل في تكوين النفس وتحت الشعور . والمسيحية أجبرت على الاستقالة بسببه عندما عجزت هي الأخرى عن التكيف معه ، لكن الإسلام بقي قادراً الصمود ، وقابل لتحقيق هذا الانجاز ، لكي لا تحرم الحداثة من مصدر القيم الأساسي وهو الدين … لكن ذلك يتطلب أن لا نستمر في وضع هويتنا الاسلامية في مواجهة مع العصر ، على الطريقة السلفية ، بل اعادة الاعتبار للمنهج العقلاني الذي افتتحه الإمام أبو حنيفة ، ثم تراجع عنه بقية الأئمة والفقهاء الرسميين ، وهو الوحيد القادر على التقاط مقاصد التشريع والبحث عن طرق وأشكال جديدة سياسية واجتماعية لتحقيقها .

بنتيجة ثورات الربيع  انقسم الاستبداد و الحرية بين الفريقين ، الأول متمسك بالحرية السياسية ومقيد للحرية الاجتماعية ، والآخر متمسك بالاستبداد السياسي مقابل التحلل الجنسي … وأصبح التفاوض بينهما يهدف لإجبارهم على القبول بسلطة مشتركة ، يتخلى فيهما كل طرف عن استبداده ، أي أن ينتصر في النهاية شكل من أشكال الحرية الموحدة بين الجنس و السياسة …

الوحيد الذي التقط ذلك هو دي مستورا الذي شكل فريقا من النساء العصريات المتسربات من نظام الزواج (الذكوري الاستبدادي) ، وأراد من خلالهن أن يقدم صورة السلطة الانتقالية ونمط الحل السياسي المقترح للحرب الأهلية العربية التي تتغذى من ليبدو الجنس وتعبيراته السياسة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.