فيروز مطربة البعث ؟!

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

من بين عدد كبير من الفنانيين السوريين واللبنانيين شكلت فيروز علاقة مميزة مع سوريا لم تنجح في تشكيلها مع لبنان ، كما لم ينجح غيرها من المطربين السوريين ، فهناك سر كامن وراء هذا الارتباط ، حيث كانت فيروز مطربة سوريا بامتياز طيلة العقود الأخيرة من القرن العشرين … فهل كان ذلك بسبب حكم البعث ، وما نوع العلاقة الفنية التي تميزت بها فيروز لتكون مطربته رغم أن أغانيها غير سياسية ….؟

هنا سنوضح الطريقة التي يرتبط بها الفن بالمجتمع وبألوانه الأيديولوجية ، طبعا لا نقصد الفن السياسي الحزبي الرخيص المباشر ، بل الفن الحقيقي الصادق الذي يتفاعل مع وجدان المجتمع و يعبر عنه .

الفن صياغة جمالية حسية اختزالية تحاكي الواقع وتعبر بشكل مكثف وصارخ عن الوجدان ، جمالها بمقدار توافقها مع منطق الأحاسيس وانسجامها مع روح الذكريات الحسية للواقع المعاش ، وأهميتها بقدرتها على تحريك المشاعر والوجدان الذي يرتبط بما نحفظه في وعينا ويكوننا . لذلك لكل شريحة إجتماعية نمط فني معين يعبر عنها … وفيروز بفنها عبرت بامتياز عن تجربة وأحاسيس شريحة كبيرة من السوريين رسموا صورة سوريا في العقود الأخيرة وحتى اندلاع الثورة.

إنهم (جماهير حزب البعث) أبناء الريف الذين هجروه للمدينة : إما بسبب تعليمهم الذي أعطاهم امتيازات تؤهلهم لدخول المدينة ، وتسببت باغترابهم عن بيئتهم ومجتمعهم وتعاليهم عليه ، أو بسبب تزايد فرص التوظيف في أجهزة الدولة المتضخمة خاصة القطاع العام ومؤسسات الأمن والجيش المختلفة … جماهير البعث الذين هاجروا للمدينة التي بدورها لم تعطهم دفء الحياة الانسانية والجمالية التي فقدوها في الريف، مما حول هذا الريف  لصور يحنون إليها دون القدرة على استعادتها إلا فنيا من خلال أغاني وكلمات وألحان وصوت فيروز … وبمقدار تزايد قباحة ووحشية المدينة التي حكمتها علاقات الجشع والاستغلال والاستزلام الحزبي ، وبمقدار قباحة أحياء الصفيح التي سكنوها وزينوها بصور القائد وأعلام الوطن ،  بمقدار ما كانت فيروز هي ملاذهم الوحيد الذي يغذي وجدانهم المجروح المندفع وراء الغرائز المادية ، المحروم من جمال وبساطة القرية والمشاعر الانسانية التي تخلوا عنها طوعا مقابل منافع مادية قبيحة .

فيروز ليست مطربة لبنان ، فيروز مطربة سوريا بامتياز ، حتى مسرحيتها التي منعتها من دخول سوريا ، كانت عن سوريا ( يعيش يعيش ) ، تمثل الشخصية السورية الجدية التي تقف باستعداد عسكري على المسرح ، و تصدح في ورشات العمل ، والاجتماع الصباحي ، صوت فيروز استعمل كصوت صارخ يحاكي السلطة المطلقة الشمولية لأبناء الريف الذين سيطروا على المدن … يبدأ باكرا منذ برنامج (مرحبا يا صباح ) الذي ينتهي بنشرة أخبار السابعة والربع ، بشارتها التقليدية وأخبارها المتكررة عن القائد الواحد ، ويستمر مسموعا في الحافلات الهرمة التي تقل الموظفين لمراكزهم في فروع الأمن و التدريب العسكري و المدارس والجامعات والثكنات والمصانع (كبيئات متشابهة لحد التطابق طبعت وجه سوريا البعث) ، ويدوي دوما من أبواق مكبرات الصوت المعدنية  في ساحات الاجتماع الصباحي والمسائي للطلاب والعساكر والعمال والشبيبة والطلائع … جنبا إلى جنب مع الأغاني القومية الممجدة للقائد الخالد ، أغاني فيروز هي الوحيدة التي كان يسمح باذاعتها  في مراكز الشبيبة والطلائع وباحات المدارس التعليمية والعسكرية ، وفي الكرنفالات الحزبية البعثية الاحتفالية التي تقام باشراف القيادتين القومية والقطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي … ولم يغب صوتها عن مسامعنا في فروع الأمن ومراكز التوقيف والسجون وساحات الذل والتدريب على الطاعة .

السر في السماح بتواجد أغاني فيروز إلى جانب الأغاني القومية ، أنها مطربة جيل البعث الأول الذي حكم سوريا طيلة عقود ، مع أنها لم تكن مطربة الحزب أو السلطة ، وليست بوقها المباشر الذي رفضت أن تكون منه، ورغم ذلك فرضت وجودها القوي في حاضنة السلطة الاجتماعية بشكل لا ينازع في العقود الأخيرة من القرن العشرين، والتي استخدمتها في بناء شموليتها الرمزية والفنية  .

وبمقدار صعود جيل جديد من أبناء هذه الطبقة الحاكمة ، الذي لم يخبر حياة الريف بل نشأ في المدينة المشوهة ، وتربى بين المستخدمين والحجاب والعساكر ، وفي معسكرات الطلائع والشبيبة والتدريب الجامعي ،  تراجعت قيمة فيروز تدريجيا لصالح نوع آخر من الطرب مختلف تماما يتصف بما يليق بهكذا مجتمع منحط بالقيمة والفن والجمال والأدب ، ليصبح هذا الفن بوقا للسلطة والسقاطة في آن واحد … إنهم مطربوا الجيل الجديد ، الذين خلقوا مناخهم الفني الخاص بهم، الذي يمكن وصفه بكلمة واحدة هي القباحة … ومع صعود وسيادة هكذا نوع رديء من الفن ، تم الإعلان عن موت أي شيء له معنى وقيمة في الحياة المادية ثم المعنوية والرمزية والفنية والجمالية حتى التعويضية منها ، وتولدت رغبة عارمة في التدمير عند أغلبية أبناء الشعب، الذين ثاروا أخيرا ضد واقعهم المادي والمعنوي والفني أيضا ، يحركهم الكره والحقد على كل شيء كرس تلك القباحة التي صارت عنوانا وفنا ورمزا لطبقة حاكمة أكملت انحطاطها وتوحشها بكل المقاييس وفي كل الصعد ، والتي أطلقت غرائزها لتفتك بالمجتمع طيلة سنوات الثورة متمسكة بفنها الوحشي الذي هو صورتها …

فيروز ليس لها مكان في الثورة ، فقد غابت تماما مع اندلاعها ، وبقيت فنا لجيل البعث الذي مثلته وعبرت عن وجدانه في مرحلة شبابه المشوه والمتناقض ، ثم فقدت تأثيرها على أجياله الجديدة أجيال التشبيح والجريمة … بقايا فيروز اليوم يحملها بعض المهجرين الذين يحنون لقراهم وأسرهم ودفء الحياة الاجتماعية ، التي فقدوها هذه المرة ليس بسبب هجرهم الطوعي للريف وغزوهم للمدينة بدافع الجشع ، بل بسبب طردهم القسري من أوطانهم مدنا وريفا واضطرارهم لمغادرة وظائفهم وأعمالهم بعد تفكك الدولة واستعار الحرب الأهلية … كما يحملها الشبان كذكريات عن مدارسهم وحياتهم في سوريا ، فيروز اليوم تعيدهم لذكريات الوطن ، وتستعيد شعورهم القديم بالحزن والفقر والضجر والحرمان الذي عاشوا به عندما كانوا في وطنهم.

لا يضير فن فيروز نوع الطبقة أو الشريحة الاجتماعية التي استهلكته ، فهي لم تكن مؤيدة للنظام الذي حكم سوريا ، ولم تحمل يوما معان الوحشية والعنف … فن فيروز ليس فنا مباشرا ، وأي فن يسقط عندما يكون مباشرا ، ويخلد بمقدار تسجيله للحظات انسانية يجردها عن شروط الزمان والمكان ، ويرتفع بها للعالم الافتراضي المعنوي المطلق المتحرر من قيودها ، وهي قد سجلت بنجاح تلك اللحظات السورية التي تتصف بالحزن البارد والحنين للجمال المفقود في عهد السلطة العسكرية المطلقة ، وستبقى جزءا لا يتجزأ من تاريخ ووجدان السوريين يحملونها معهم في ترحالهم ، بل توحدهم كسوريين رغم انقسامهم . وسيتذكر كل الذين عاشوا يوما في سوريا ذلك البلد المنكوب كلما استمعوا لأغاني فيروز …

فيروز مطربة الحنين للريف السوري البسيط والفقير والجاهل ، الذي انتج رغم جماله وبساطته وفقره مصيبتين ضربت سوريا ودمرتها أولها الفكر القومي الثوري الشمولي البعثي ، وثانيها الحركات الجهادية المتشددة السلفية التي هيمنت على الثورة… ستبقى فيروز بامتياز ذلك التجسيد الفني للحنين إلى وطن قتل مرتين بأيدي من يستمعون اليوم لأغانيها ويبكون عليه .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.