يا بابا لا تشيلني …

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

فجرت عبارة قالها طفل سوري أصيب بالقصف الهمجي جدلا حاميا ، بل حربا كادت تتفوق على الحدث ذاته … استغل أحد الكتاب هذا المشهد ليعبر عن اعتراضه على المنظومة الثقافية والدينية الأبوية السلطوية المتعاضدة والتي يفترض مجازا أنها هي المسؤولة عما يحدث ، معتبرا أن هذه الحادثة هي دليل رمزي صارخ على فشلها وسقوطها … لكنه تمادى فوق ذلك للاعتراض على الآلهة التي تسمح بهكذا مصيبة ، والتي يتهمها بالتواطؤ مع هذه السلطة ، محملا المسؤولية للأب والمجتمع والرب … كلهم جميعا … ولا ندري من لا يتحمل المسؤولية بنظره … فبشاعة الحادثة ومأساة الطفل يعتبرها الكاتب إدانة للجميع بمن فيهم الآلهة العاجزة عن ايقاف هذه المجزرة السورية …

الكاتب يريد من الله أن يمنع ذلك ، ليس بالتضرع والدعاء كأي عبد فقير ، بل بالعتب واللوم والتنكر ، يشترط على الله أن يكون جنديا في معارك البشر ، فالعلاقة بين الخالق والمخلوق معكوسة عنده ، (لكي نقبل بوجوده عليه أن يخدمنا ) فالله مجند في خدمة الإنسانية تبعا لمنطقه ، أي أن الإنسانية هي من أنتجت مفهوم الله ، وليس الله من خلق الكون ثم أسكن فيه النفس الإنسانية ليختبرها …

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (سورة البقرة 30)

ذلك بسبب مفهومه الصوري المثالي عن الحياة والخلق ( باعتبار أن الحياة الدنيا هي دار نهائية ودار عدل ) … أي كأن الحياة التي أرادها الله ليس فيها شر وألم وجريمة وأمراض وقتل وظلم وحروب … يعترض على ناموس الخلق لأنه لم يتبنى نظرية اللاعنف … يعترض على الله الذي خلق المرض والكوارث وخلق أيضا ابليس … يريد إعادة خلق الكون بصورة أخرى تناسب مثالياته ورغباته ، مع أنه ليس لديه أي قدرة على فعل شيء حتى لهذا الطفل المسكين ، سوى كتابة المقالات الاستفزازية المستنكرة ، والتي هي في كل الأحوال لن تعيد صناعة الخلق ولن تسعف الطفل ، بل ستزيد من الوحشية والهمجية عبر تحطيم الوازع الديني … صرخة ألم واحتجاج مشوشة الذهن تعبر عن قهر وضعف انقلب لتنكر وجحود ، والتي من الطبيعي توقعها في هذا البلاء الذي ابتلينا وامتحنا فيه ( ليس الجهل والعنف إلا أحد مكوناته ) … وهي ظاهرة ليست فريدة ، الكثيرون من الضحايا وذويهم يصعب عليهم القبول بقدرهم … ويحتجون عليه بوسائل كثيرة …

لم نكن لنتفاجأ بارتفاع حرارة النقاش والجدل ، إلى أن دخل على الخط من سارع لإصدار البيانات وإطلاق التهديدات ، لينتقم لله ، وليذود عنه ، كأي جندي من جنوده ، الذين انتدبوا أنفسهم لتمثيله وفتح سفارته في الأرض … لقد ذكرتهم الحادثة بممارسة السلطة ، سلطتهم التي ربما سهو عنها بسبب نعيم العيش في الفنادق الفاخرة ، أو بسبب تحول كل مواطن لدولة و صعود الأمراء والرؤساء في كل مكان بمفعول الحرب الأهلية … فقدموا بردهم الدليل على ما ذكره وقصده كاتب المقال بالضبط … أي بحسب المثل الشعبي (أراد أن يكحلها فأعماها ).

الكاتب أراد أن يزاود علينا بإنسانيته ليتهجم ويعترض على مشيئة الله ، أما المشايخ فأرادوا أن يزاودوا علينا ، وعلى الله أيضا ، ويصبحوا هم السلطة العليا على الحرية وحق التعبير ، بحجة الدفاع عن الذات الإلهية ، وكأن الله ليس لديه ملائكة وليس الأمر بيده … يحقرون الذات الإلهية ، عندما يعتبروها تابو يجب الدفاع عنه ، وكأنها أصنام لا تجيد الدفاع عن نفسها كتلك التي حطمها ابراهيم …

{ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) } (سورة الأنبياء 59 – 66)

حتى رجال الدين أثبتوا جهلهم بحقيقة الله ، وعدم القدرة على فهم القرآن وبشكل خاص قصة ابراهيم والأصنام ، التي تكشف وهم كل تابو ندافع عنه بالترهيب ونفرض احترامه الكاذب وتقديسه بالإرهاب والخوف . بدل أن يكون الإله مقدسا منزها بوجوده وفعله ، فعال لما يريد ، حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، غني في قدسيته عنا، منزه عن تطاول الصغار الذين أمرنا بالإعراض عنهم .

{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) } (سورة الأَنعام 106 – 108)

المشكلة أن إساءة استخدام حرية التعبير ، كانت فرصة للكثيرين للانقضاض عليها ، وادعاء وصاية علينا ، وبحجة الدفاع عن الله دافعوا عن سلطتهم هم ، بل قاموا بتنصيب أنفسهم أوصياء على العقل والتعبير والإعلام والمجتمع ، وكشفوا أن هذه الحرية هي عدوهم الأول الذي لا يطيقون وجوده وينتهزون الفرص للانقضاض عليه …

الكاتب يحتج على القدر ( بخيره وشره) وهو ركن من أركان الإيمان وهذا ما يحاسب عليه الله … لكن من رد عليه حول الله لصنم وتابو عاجز ، لا يقدس من دون إجبار البشر على ذلك ولو بالقوة ، و أنكر أن الله حي قيوم غني حميد ، واعتبر نفسه مسؤولا عن العباد والكون وعن الدفاع عن الذات الإلهية ( حرس شخصي لله ) … الأول ربما كفر بركن من أركان العقيدة ، لكن الثاني دنس  وأشرك … ومارس الإرهاب الفكري وتدعش …. وهو ما يحاسب عليه القانون .

حان الوقت لننتهي من قصة حزب الله وجنود الله وكهنة الله وخلفاء الله ، لنجعل من أنفسنا ملائكة . فعبد الله هو من يؤمن بالله كحقيقة متجلية ، يختلف عن حرس الله ، الذي يؤمن به كتابو وأسطورة يخشى عليه من الإنكشاف بمجرد انطلاق حرية التعبير … تابو محرم لا يحرس إلا بالترهيب والتجهيل ، فهل الإيمان هو عملية كذب وتكاذب أسطوري متبادل محروس بالترهيب والجهل ، أم هو لمس حقيقي لوجود الحي القيوم ، الذي نطلب منه العون في الكبيرة والصغيرة ، ولا يحتاج لا لعملنا ولا لعبادتنا ، لكي يحفظ الكون ، ولا للدفاع عن ذاته الإلهية عينها ، وماذا لو أراد الله أن يمد الكاتب أو أن يعطيه فرصة التوبة ومعرفة الحق ، من أعطاكم وكالة عنه لتقضوا في شؤونه ؟  في محاكم دوما وباب الهوى … هل نصب نفسه مدعيا في محاكمكم … هل تعتبرون القناعات الدينية ملكية شخصية لا يجوز المساس بها ؟ أم هي ساحة تفاعل فكري تنويري حر . وهل يجوز لشخص أن يدعي على آخر تطرق لقناعته … عن أي قانون تتحدثون ؟

لم ندرك بعد أن ملايين الكتب والمؤلفات المتاحة تنكر الخلق والآلهة ، وأن ثقافات وشعوب كاملة تشمل نصف العالم تفعل ذلك وهي تعيش كغيرها في نعم الله ، وأن كلمة أي شخص أصبحت تستطيع الوصول لكل البشر … الذين تبدو عملية ضبطهم مستحيلة تعفف عنها الله ذاته منذ الخليقة …

كاتب صغير ربما تطاول على الله ، لكن رجالا أصغر منه زاودوا علينا وعلى الله ذاته ، ليمارسوا الإرهاب الذي هو دينهم وسلطتهم … إرهاب العقل وارهاب المجتمع وإرهاب السلطة … التي تذكرنا كم نحن عبدة أصنام وكم نحن متخلفون وبعيدون عن مسار الحرية ، بل كم نحن ارهابيون فعلا وقولا … وهو ما يذكر العالم كله بحادث شار ابدو الذي لا أشك أن الكثير من المسلمين ما زالوا يبررونه ، ولم يتعلموا حتى الآن كيفية القبول بوجود الآخر ، وغير مستعدين لدفع ثمن الحرية ، التي من شأنها أن تحطم أي مقدسات وسلطات قائمة على التجهيل والترهيب ، وليس العقل والحق والحكمة .

أخيرا حان الوقت لاصدار لائحة سوداء تضم كل الشخصيات المحرضة على العنف والجريمة و الداعمة للإرهاب ليتم ملاحقتهم قانونيا في كل العالم ، ومحاسبة مصادر تمويلهم أيضا . فنحن لا نملك سوى هذا الخيار للدفاع عن حرية وكرامة الإنسان … فالدفاع عن حقوق الإنسان هي مسؤوليتنا ، أما حقوق الآلهة فهي في حفظ ملائكة شدادا … أو كما قال عبد المطلب : للبيت رب يحميه .

https://docs.google.com/forms/d/e/1FAIpQLSfIRlyQvpVv6K1SAfyLWDZb5smTKBLDexFWMUIfqDwCFsZGUw/viewform

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.