على ماذا يجري التفاوض الدولي ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

دأب كل من وزيري الخارجية الروسي لافروف ، والأمريكي السابق كيري على التفاوض والتنسيق المشترك لهندسة حل للأزمة السورية على مدى سنوات . وصدر عنهم بيانات بدأت بجنيف 1 وما تبعه من وثائق تتحدث عن حل توافقي يتم التوصل إليه بطريقة التفاوض بين النظام والمعارضة . وتسبب تعسر ذلك المسار المصمم كي يفشل ، بتغييرات عديدة في الصيغ جنيف 1 و 2 وفيينا ، ومن ثم اعلان موسكو ووو ، وفي تركيبة ونوعية وفود المعارضة ومنصاتها ، ثم تسبب في مشاركة الجيش الروسي مباشرة في المعارك إلى جانب النظام لفرض أمر واقع وحالة استسلام على المعارضة ، بتغاضي وتراخي أمريكي لا يخفى على أحد ضمن سياسة استخدام سوريا ساحة استنزاف طويلة الأجل لكل القوى المتدخلة في الصراع ، وتسارعت الجهود الروسية قبيل تسلم الإدارة الأمريكية الجديدة للتوصل لاتفاق يوقف القتال ويفرض كأمر واقع على الإدارة الجديدة ، ولذلك سمحت للنظام باستخدام السلاح الكيميائي مؤخرا لحسم هذه المعركة ، بحجة الحرب على الإرهاب ، ولكن رد الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة الرئيس ترامب كان غير متوقع أو محسوب روسيا ومن قبل النظام ، فتغيرت قواعد اللعبة ، وتغيرت موضوعات التفاوض بشكل جذري ،  فلم يعد مطروحا التوصل لحل سياسي مع نظام الأسد كما حاول المجتمعون في الأستانة مؤخرا فرضه ( اتفاق خفض التصعيد) ، ولم يعد مطروحا أيضا أي دور للمعارضة السورية بشكلها الذي انتهت إليه ، ولم يعد هناك حديث عن مرحلة انتقالية أيضا …

سياسة الاستنزاف أدت لعكس نتائجها فقد تزايد خطر المجموعات المتطرفة السنية والشيعية وتقلص دور المعتدلين ، وتهددت المصالح الأمريكية وهيمن الإيرانيون بدعم روسي … وهذه كلها عوامل أقنعت ادارة ترامب بالتخلي عن تلك السياسة الأوبامية .

الأسد سيذهب وسيغلق ملفه تماما فوجوده على قيد الحياة هو بحد ذاته  مشكلة كبيرة وعائق أمام اعادة السلام ، ومحاكمته ستكون فضيحة شخصية لرجالت ولدول كثيرة ، والمعارضة لن تتسلم السلطة وهي عمليا قد أثبتت فشلها في إدارة أي شيء …

أي أن التفاوض يتم اليوم على خطط للقضاء على داعش ومن ثم لتغيير النظام وفرض نظام جديد خاضع للوصاية الدولية مباشرة ، مكون من بقايا النظام وفتات المعارضة وشخصيات جديدة يتم تداولها ، وفق برنامج متفق عليه ومقبول من قبل كل الأطراف المشاركة في الصراع ، والتي تتقاطع وتتعارض مصالحها ، مما قد يعرقل التقدم أو يضطر البعض لتوجيه رسائل ساخنة للطرف الآخر ، خاصة فيما يتعلق بالتواجد الإيراني في سوريا ودورها ، أو في تكوين كيان كردي ما شبه مستقل ، لكن ما لا خلاف عليه بين الدول هو الآتي  :

  • الحفاظ على أمن اسرائيل ، وتوقيع سلام دائم معها مع أو بدون استعادة الجولان ، أو بترتيبات أمنية واقتصادية تؤجل عملية البت النهائي بمصيرها لفترة زمنية طويلة .
  • الحفاظ على دور مميز للطائفة العلوية والأقلية المسيحية. خاصة في الجيش ومؤسسات الدولة .
  • تحويل صيغة سوريا من دولة مركزية لها هوية لدولة اتحادية بين مكونات .
  • تقاسم المنافع من عملية اعادة بناء سوريا والتنافس على اتباعها اقتصاديا والسيطرة على اقتصادها من خلال ديون كبيرة تتراكم تحت بند عملية اعادة الإعمار والتي تقدر وفقا للاتحاد الأوروبي ب 227 مليار دولار ، وهذا الرقم سيتضاعف أكثر من مرة عندما سنبحث في طريقة ادارة المال وعملية البناء تحت عوامل سوء التقدير والهدر والفساد ترفعه لأكثر من نصف تريليون دولار ، ستعجز سوريا لعقود عن تسديده أو حتى تسديد فوائده … بالمقارنة مع ما حدث في عملية اعادة بناء لبنان والعراق .
  • الحيلولة وبشكل قاطع دون وجود تنظيمات أو ميليشيات اسلامية جهادية .
  • البحث عن صيغة دستورية وقانونية تحقق ذلك بالتعاون بين خبراء وسياسيين سوريين .

يجري حاليا التباحث على إلغاء التفويض الضمني الأمريكي الإسرائيلي لروسيا في الملف السوري ، وتحجيم دور روسيا ، وتقويض نفوذ إيران ، والعودة لتفويض دولة أوروبية في هندسة بناء السلطة الجديدة في سوريا …

فرنسا المنتدبة والتي حاولت ترسيخ نظام برلماني في سوريا  قبل انهاء انتدابها هي المرشح الأقوى بعد أن فشلت روسيا ، وفشلت قبلها بريطانيا التي أشرفت على نظام حافظ الأسد وأدارته منذ الحركة التصحيحية التي كانت عبارة عن استلام وتسليم بين الإشراف الأمريكي الذي بدأ بانقلابات عسكرية قادها الزعيم والشيشكلي ثم عبد الناصر ثم البعث الذي انتهي لقيادة يسارية بعد حرب ال67 سرعان ما جرت اقالتها وتصفيتها ، وتعهيد سوريا للفريق الاستخباراتي البريطاني بحصانه الأسدي ، الذي أدار مرحلة حافظ وتوريثه ، وحاول جاهدا الإبقاء على الأسد الولد ، وهندس عملية الغاء الضربة العسكرية بعد استخدامه الكيماوي في الغوطة ضد ارادة الحكومة ، وبتواطؤ مع ادارة أوباما …

يظهر أن السياسة الفرنسية السابقة في سوريا هي الأقرب للفوز بعقد التعهد ، نظرا لفشل الديكتاتوريات وخطر هيمنة الإسلاميين ، وهي الأقدر على هندسة مشروع يعتمد على الليبراليين المسلمين وعلى الأقليات ، يحفظ نوع من الوحدة فوق حدود سوريا ، لا يسمح بتغيير خريطة سايكس بيكو التي رسمت دول المنطقة ، والتي في حال الشروع في تغييرها ستتعرض المنطقة كلها لعدم استقرار وستفتح بابا لتنازع دولي قد يرقى لحرب عالمية جديدة .

ليس من الصعب ايجاد تسوية ما مع تركيا بشأن صيغة لحكم ذاتي كردي في مناطق محددة في سوريا ، ولا ايجاد ترتيبات تحقق المصالح الروسية في الساحل السوري ، لكن من العسير فعلا إيجاد نقاط لقاء مشتركة مع الميليشيات الإيرانية ، التي لا تمتلك قاعدة اجتماعية إلا في جنوب لبنان ، لذلك فإن الإعاقة الأساسية ستكون ايران ، والمواجهات العسكرية ستنحصر مع داعش وبقية المنظمات التي ستسمى ارهابية ، ومع التواجد العسكري الإيراني إذا لم تخضع إيران للضغوط ، وهذا يحتاج لحلف اقليمي دولي واسع يسعى ترامب في زيارته القادمة للشرق الأوسط تأمينه ، ويسعى وزير خارجيته لاقناع روسيا بحصتها منه مستعينا بجهد اسرائيلي في ذات السياق ، أما في حال اندلاع مواجهة مع ايران فتتحمل دول الخليج العبء العسكري الأكبر لوحدها تقريبا مما سيضعف دول المنطقة كلها ، وقد يمهد لاسقاط النظام الإيراني أيضا .

وعليه بالنسبة للشعب السوري نقول ، لا فائدة من المشاركة في أي جهد تفاوضي مع نظام الأسد بعد الآن فهذا المسار دخل مرحلة الموت ، ولا فائدة من الحفاظ على المؤسسات المعارضة والهيئات التي تشكلت خصيصا لأجله . فموت الرأس يتبعه موت الذنب ، ولا جدوى من التسمر وراء أيديولوجيات دينية متشددة ، بل لا بد من تشجيع شخصيات وطنية على التعاون بين بعضها ومع الدول لهندسة مشروع لسوريا يرضي الدول ولوجزئيا لكنه يحقق إلى حد ما المصلحة العامة للشعب السوري ويحرص على عدم تكرار أخطاء الماضي وعدم بنائها من جديد بطريقة معطوبة ومائلة تؤدي لانهيارها مرة أخرى …

نحتاج لجهد سياسي وفكري وديبلوماسي وتنظيمي لاقناع الدول بشكل وطريقة اعادة بناء سوريا … أي نعتمد على ذكاء أبناء سوريا وعلى حسهم الوطني وتقديرهم للموقف … والذين سيشاركون  بصفتهم الشخصية وبطريقة أو أخرى في المشاورات حول مستقبل وطنهم … الذي سيخضع للانتداب على الأقل لمرحلة انتقالية تبدأ مباشرة بعد اتمام القضاء على داعش في الخريف القادم … حسب الجدول الزمني المشهود حاليا …

لكل رجالات المعارضة والنظام أقول ، من يريد لعب دور في المستقبل عليه الابتعاد عن الأسد ، وعن ايران ، وعن التطرف الإسلامي ، ومن لا يقبل ولا ينسحب من المشهد سيتعرض للملاحقة في كل العالم بما فيها المحاكم الدولية التي ستنطلق كآليات ضغط لاسكات كل صوت يعارض الحل الذي سيفرض ، باستخدام ملفات الفساد والجريمة التي شارك فيها الطرفين وتورط فيها معظم السياسيين السوريين … لأن الحديث الشريف يقول إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا ، وهذه أهم أوراق القوة التي تملكها الدول لفرض الانتداب ، فلو كنتم نزيهين لما دمر وطننا وفقدنا استقلالنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.