نهاية مشروع الإسلام السياسي

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

رغم الخسائر الوطنية الفادحة فقد أنجزت ثورات الربيع العربي ثورتين معا بزمن قياسي ، ثورة على نظم الاستبداد العلمانية ، وثورة على مشاريع الاستبداد الديني الجديد أيضا ، وبذلك تكون قد سبقت الشعب الإيراني الذي يحتاج لثورة جديدة على نظام الملالي ليحصل على الحرية ويدخل الحداثة المعاصرة . وهكذا لا يجوز القول أن هذه الثورات قد هزمت ، بل فقط من هزم هو مشاريع الاستبداد ، وانتصرت مفاهيم الحرية المعاصرة والديمقراطية السياسية ، وبعد ذلك كل مظاهر السيطرة ومحاولات العودة للماضي ، أو فرض النفوذ من قبل الأجنبي، لن تستطيع النجاح في مواجهة تلك الشعوب رغم اهترائها …

يشهد العام الجاري نهاية أحزاب الإسلام السياسي ، أيضا موت بقايا المجموعات الإسلامية المسلحة ، وهذا لا يعود لعامل خارجي بل أساساً لعوامل داخلية بنيوية كامنة في هذا المشروع ، فمنذ أن أطلق الإخوان المسلمون شعار الإسلام هو الحل في ثلاثينات القرن الماضي ، لم ينجح هذا الشعار في إيجاد تطبيقه السياسي العملي إلا في حالتين فقط ، هما: طالبان أفغانستان ، وداعش دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام، اللتين دُمّرتا بفعل التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد ما تسميه الإرهاب الإسلامي ، رغم أن ذلك قد عزز القناعة بوجود حرب على الإسلام وأخفى الضعف البنيوي الذاتي وغطى عليه .

هذا الشعار العريض ( الإسلام هو الحل ) رغم اتساعه وجاذبيته ، بدا أنه ليس فقط جذابا للأعداء المحليين والغريبين ، بل أيضا محدداً لذاته ، وغير قادر على إقامة التحالفات والتعاقدات العملية المنتجة لحالة استقرار سياسي وتشكيل دولة على أساسه ، فقد خاضت تلك المشاريع الاسلامية صراعا مريرا داخلها وفيما بينها ، وأفرزت الكثير من التناقضات الداخلية المدمرة  بدون، وبوجود العدو الخارجي … وما صراعات هيئة تحرير الشام وأحرار الشام اليوم في إدلب ، وقبله بين النصرة وداعش ، وجيش الإسلام وجيش الأمة ، إلا تعبيرا صارخا عن فشل التوافق على الشعار السياسي الإسلامي ، حتى بين أكثر المنظمات تمسكا به وتشابها في التعبير عنه ، ولم ينفع الهجوم الشرس من النظم والصفويين الإيرانيين بدعم من الدول العظمى ، بتوحيد ولو تكتيكي لهذه الفصائل في مواجهته ، مما يؤكد وجود الخلل البنيوي والوظيفي المدمر للذات الذي يحتويه هذا الشعار ، والسبب في ذلك متعدد الجوانب والأشكال والمستويات :

أولا – محاولة إقامة سلطة تنفيذية للدين تحتل مكان السلطات السياسية حولت دوره  من دور قيمي رقابي ذاتي ضميري تولدها النصوص المقدسة والإيمان بالله ، لقوة ارغام خارجية يمثلها الشرطة والجيش المنقاد لشخص يدعي أنه هو خليفة الله في الأرض والممثل الشرعي الوحيد لسلطة المقدس ، وهذا ما لا يمكن التوافق عليه ، بل يولد حالة صراع وتنافس لا تنتهي بين طالبي الزعامة والسلطة من ممتهني الدين ، بعد الأخذ بعين الاعتبار التغييب المقصود لكل  آليات الديموقراطية التي تتهم بالكفر .

ثانيا – غياب النماذج التطبيقية للحكم الإسلامي في التراث الإسلامي و في النصوص الدينية ، خاصة بما يتوافق مع بنية ووظائف الدولة الحديثة ، فدولة المسلمين شورى بينهم وأمورها تحل بالتوافق والتراضي ، وهذا مبدأ عريض لم يراعه أصحاب المشروع ، الذين فتحوا أمام كل من هب ودب باب الخروج عن الأمة وادعاء الخلافة وطلب البيعة وإقامة الأمارة ، مما أدى لإطلاق التنازع بينها وعليها.

ثالثا – نزعة التشدد التي ترافقت مع مثل هكذا شعارات، حيث يتم تبرير قصورها  بنقص التدين واهمال تفاصيل الشريعة ، وليس بعيوب بنيوية فيها يجب إصلاحها . وهذا التشدد بحد ذاته أطلق نزعات التكفير ورمى بكل المسلمين المعتدلين لخندق الكفر والنفاق والزندقة وحولهم لأعداء ، بل أهداف للعدوان والعنف قبل العدو الخارجي ، مما فكك الحاضنة الاجتماعية المفترضة لهكذا مشروع .

في النتيجة حكم مشروع (الإسلام هو الحل)  على نفسه بالفشل والاندثار ، ودخلت الفصائل الإسلامية في صراع مميت فيما بينها ، وهذا ما كنا نحذر منه منذ أن تنطحت هكذا فصائل وشعارات لقيادة الثورات العربية ، وأزاحت بالقوة كل محاولة لا إعادة بناء الدول على أسس ومفاهيم سياسية معاصرة ، وهكذا كان لابد للشعوب العربية المسلمة من المرور بهذه التجربة القاسية لكي تتعلم من مآسيها ، لأنها لا تقرأ التاريخ ولا الحضارات المعاصرة ، ولو كنا نقرأ لقرأنا ما قاله الإمام التابعي الكبير وهب بن منبه – رحمه الله – :

[ وَاللَّه مَا كَانَت للخوارج جمَاعَة قطّ إلا فرقها الله على شَرّ حالاتهم

وَمَا أظهر أحد مِنْهُم قَوْله إلا ضرب الله عُنُقه

وَمَا اجْتمعت الْأمة على رجل قطّ من الْخَوَارِج!

وَلَو أمكن الله الْخَوَارِج من رَأْيهمْ لفسدت الأَرْض وَقطعت السبل وَقطع الْحَج عَن بَيت الله الْحَرَام ، وَإِذنْ لعاد أمْر الاسلام جَاهِلِيَّة حَتَّى يعود النَّاس يستعينون برؤوس الْجبَال كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة .

وَإِذن لقام اكثر من عشرَة اَوْ عشْرين رجلا لَيْسَ مِنْهُم رجل الا وَهُوَ يَدْعُو الى نَفسه بالخلافة

وَمَعَ كل رجل مِنْهُم أَكثر من عشرَة آلَاف يُقَاتل بَعضهم بَعْضًا وَيشْهد بَعضهم على بعض بالْكفْر ….

حَتَّى يصبح الرجل الْمُؤمن خَائفًا على نَفسه وَدينه وَدَمه وَأَهله وَمَاله لَا يدْرِي أَيْن يسْلك اَوْ مَعَ من يكون …]

هكذا كان حال الإسلام السياسي في الماضي وهذا هو حاله في الحاضر ، وكل اسلام سياسي مطروح عمليا مشتق من الإسلام الخارجي منطقا وسلوكا وفقها ، وتهم الجماعات الإسلامية لبعضها بالخروج والكفر صحيحة كلها ومن فهما هي … !!! يكفي أن تقرأ هذه البيانات لتصدقها جميعها فهي شهادتهم ببعضهم … وهكذا قد حان الوقت لنفهم أن الدين شيء آخر غير السياسة ، ونفكر بحلول وشعارات سياسية مفيدة وقابلة لإعادة بناء الأوطان لشعوب قتلت وهجرت ودمرت حياتها،  وتنظر الخلاص الذي لن يقدمه الأجنبي .   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.