قراءة في قراءة محمد شحرور

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

تطورت البشرية في القرن الماضي ما يعادل مئة ضعف ، وتطورت العلوم والتكنولوجيا والمعرفة بشكل مذهل ، كذلك بقي الدين يلعب دوره الحيوي في الثقافات الحية ، وهذا ما أوجد الحاجة لإعادة قراءة التراث الديني والفقه الموروث بالنظر لحجم التغيرات الهائل الذي طرأ على نظم الحياة ، وهكذا تنطح الكثير من المنظرين لنقد التراث الفقهي الذي جمّد فهم وتطبيق الدين تبعا لمتطلبات زمن حضاري قديم ، بل قرأ الدين قراءة أيديولوجية تخص نظاما سياسيا محددا هو الخلافة العباسية وتثبت عنده… وهذا ما قابله د. محمد شحرور بقراء معاصرة للتنزيل الحكيم ينتقد فيها القراءة القديمة المؤدلجة ، ولكنه يستخدم أيضا قراءة مؤدلجة جديدة مستمدة من ظروف الحياة العصرية ، معتمدا فقط على تفسير لغوي مختلف ، مغفلا استخدام العلوم الحديثة المتعلقة في القراءة والدلالة ، وكذلك مغفلا علوم الأديان ذاتها التي تطورت كثيرا ، والتي تشرح تكوين وآلية اشتغال الدين ودور المقدس والمتعالي ، وتحلل تجارب البشر في سعيهم للاتصال بناموس الكون المحتجب والتفاعل معه ، لكونها الأساس في كل تجربة دينية يعيشها المتديون .

فقد أهمل شحرور (بدوافع فلسفية مادية كامنة)  وجود الإله القريب المجيب ( الرحيم كما يعرفه ) الذي يتواصل معه البشر في حياتهم وقراراتهم ويستعينون به ويتدخل في كل تفاصيل حياتهم ( الرزق والعمر والعمل والنجاح والكوارث والإلهام والهداية ) واقتصر في قراءته على مفهوم الرب الذي وضع نظام الكون ( الرحمن كما يعرفه ) ، ونسي أن هذا النظام لا يعمل بدون فاعل محقق يقوم بتجميع العناصر الضرورية لحدوث أي حدث منصوص عنه في النظام لكن كاحتمال ، لا يصبح حقيقة إلا بفعل فاعل ، فكل حدث فلسفيا هو فعل يختار بين امكانيات الواقع ، وينظم حركة عواملها ، وما يحدث معنا ولنا صحيح أنه محكوم بنظام ، ولكنه مشروط أيضا بفعل الفاعل، ومقهور لمشيئة إلهية قاهرة ونافذة ، في كل ما يحدث ، لكنها مبدعة متغيرة بتغير مواقف البشر وسلوكهم ذاته ومتفاعلة معها، حيث لم يتوسع في مفهوم القضاء الذي هو فعل الإله المدبر للكون، وتفاعله وتغير مشيئته تبعا لسلوك وأفعال ونوايا البشر، أي أهمل الجانب الأساسي في الدين ، كعلاقة مع الخالق الحي المتفاعل الذي نعيش في حضرته سلّمنا أم أنكرنا ، وهو ما تهتم به المدرسة الصوفية التي لم يعيرها أي اهتمام ربما بسبب تكويني مادي كامن في عقله .

استخدم شحرور أداةً وحيدة لبناء قراءته الجديدة هي التأويل وتوسيع المجاز وتغيير مدلولات الكلمات عما استخدمه الفقهاء ، والتي صارت تحمل معاني جديدة بعضها صحيح ووارد ، وبعضها لم يتم التوافق عليه ولم يرِد استخدامه بهذا المعنى من قبل ، لا بزمن الرسول ولا الصحابة ( فالنساء مثلا أصبحت ذكورا وإناثا وكذلك الرجال )، وهذا ما يخرج بالنص القرآني عن شكله البشري الذي جاء به ( أي بلغة ولسان ومفاهيم قوم محددين )، ويحوله لرسالة منفصلة عن اللغة والمكان والزمان ، وكأن الرسول محمد قد نطق بما لا يفهم مدلوله ، مع أن كلمة قرآن ذاتها مستمدة من أمر اقرأ باسم ربك ، الذي يطلب من الرسول أن يقرأ بالنيابة عن الله ، لكن بلسانه ولغته وعقله ما كان يوحى إليه من فكر ومعرفة والهام ، وفيما بعد تحولت قراءالرسول لمصحف مسطور ، وكلما أعيدت القراءة فيه يعاد التذكير بأنه باسم الله ، وليس لغة الله ولا كلماته ذاتها ، فكلماته مخلوقات (وفقا للنص ذاته) ، وهو اذا نطق خلق ، أي أن القرآن هو قول الرسول العربي بلغة قريش طبقا للأية :

{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) } (سورة التكوير 19 – 29)

الديانات وفقا لعلومها الحديثة ، هي حصيلة تجارب دينية خاصة عاشها بشر متميزون وصلوا أبعد كثيرا مما يصله البشر العاديون في اتصالهم بالخالق المدبر ، ولاقت عنده استجابة أتبعت وحيا ، وما نتج عنها يؤخذ في هذا السياق كتجارب محكومة بزمانها وشخوصها ، فالكتب الدينية ليست رسالة واحدة مباشرة من الخالق المحتجب للبشر على مر العصور ، وإلا لما تعددت ولما تطورت ، والله غير عاجز عن ارسالها بطريقة أخرى مباشرة لو شاء فعل ذلك .

سعى المذهب الباطني سابقا لابتداع نص جديد ، من خلال التفريق بين الظاهر والباطن المضمر الذي يصبح تأويله أداة لتغيير النص ودلالاته الواضحة المحددة في ظاهره ، وقد كرر شحرور ذلك السعي (بطريقة مختلفة) ، فما أنتجه د. شحرور في مكان ما هو نص جديد ، باستخدام لغة جديدة لم يكن متعارف عليها في حينه ، وفي حديثه عن (الإرث مثلا)  يجعل النساء والذكور متساوين ، وهذا ما لم يرد أي ذكر له في زمن الرسول والصحابة ، فهل كانوا لا يفهمون القرآن ؟ وهل يحق لنا فهمه بغير ما تعارفوا عليه طالما أنه قرأ بلسانهم ؟

إنها الرغبة المفرطة في جعل القرآن نص متعالي خارج عن الزمان والمكان تشبه ما حدث في السابق ، لكنها هذه المرة تحدث بيد من يستخدمون مناهج العقل العلمي المحدد والدقيق ، الذين يقدمون توليفة محدثة  تخدم نزعة توفيق الدين مع الحياة العصرية ، كدافع أيديولوجي وراء البحث، تحمل في بنيتها نفحات مادية يصعب اخفاؤها ، فالقول أن العالم محكوم بنظام ( الضرورة ) ليس مناقضا للنظرية الفلسفية المادية ، لكن تحكم الإله في كل صغيرة وكبيرة وتدخله الدائم في وجود ودوام وأحداث الكون هو ما تنكره وتسميه (الصدفة) التي تعتبرها الفلسفة المثالية فعل الإله الواعي المسؤول ، وهذا هو جوهر الفارق بين المتدين والملحد ، فكلاهما يؤمن بوجود نظم ، لكن الملحد يعتبر حدوثها مجرد مصادفات ، والمؤمن يرى أنها أفعال إلهية حكيمة (فهمها أم عجز عنها ) يجب تقبلها في خيرها وشرها، فمهوم المشيئة والقضاء والقدر عند شحرور طابق النظرية المادية ، عندما اقتصر تركيزه على العقل والفعل من دون الدعاء والتوكل .

ومع ذلك ، كل انتقاد (شحرور ومن سبقه) للفقه القديم ، صحيح وضروري وذكي ومبدع وحيوي ، فقد سعى فقهاء ذلك الزمان لتقييد العقل وتثبيته لتجنب مخاوف انفلات التفاسير وتضاربها ، واندلاع النزاعات الدينية بين وجهات النظر المختلفة في امبراطورية واسعة جدا تقوم أساسا على الدين ، وفي خدمة استقرار حكم أسرة حاكمة ورثت شرعية السلطة بواسطة نسبها للرسول كأي شيء قابل للتوريث ، ولذلك عملوا على ابتداع فكرة النسخ لشطب الآيات المتباينة ولتوحيد الأحكام وتشديدها ، واعتمدوا أيضا فكرة الترادف لتقييد المعاني وإلغاء المجاز وتضييق التأويل ، ورسخوا حرمانية العقل في قراءة النص ، ثم حولوه لنص موسيقي تعبدي ، واستخدموا بدلا عنه الحديث النبوي المختلف في دقته كمصدر للتشريع ، لانتاج شريعة تفصيلية محددة تناسبهم هم ، في زمانهم ودولتهم … وأكدوا على اكتمال الدين والتفكير والعقل والمعرفة ، فقد أغلق الوحي وأغلق التفسير أيضا وأغلق الإبداع والاجتهاد والتغير والتطور، وحل زمن الاتباع والتقليد، والخضوع المطلق لحكم السلطان الذي يحاكي حكم الإله ، فتسرب التخلف والانحطاط وترسخ الاستبداد والجهل والخوف وتحول الدين كما السلطة لأداة ترهيب وقمع بيد تحالف الحكام والمشايخ .

ومع تغير الحياة جذريا بفعل الحضارة المادية التي اقتحمت العالم الإسلامي بجيوشها وسلعها ، ظهر التناقض بين الدين والحداثة ، وصار من الصعب تطبيق الدين المتوارث في الظروف المعاصرة ، بل يبدو تطبيقه نوعا من التقهقر السياسي والاجتماعي ، الذي تظاهر أخيرا في النموذج الذي اعتمدته الحركات السلفية التي تؤمن بذلك ، وهذا ما يلح على ضرورة إعادة النظر في التراث الفقهي جملة ، وأيضا تغيير العقل القارئ الذي امتلك أدوات قراءة ومعرفة متطورة وأكثر رقيا وخبرة … وفي هذه الحدود ( أي نقد القراءات السابقة ) يعتبر ما قام به د. محمد شحرور وقبله الكثير من المنظرين الإسلاميين أكثر من هام وضروري ويستحق التفكير والتطوير . لكن بذات الوقت يجب اعتبار أن هذا الموروث يستحق منا احترام تكوينه وأصالته وهويته ، مع الاحتفاظ بحقنا في التعامل معه بطرق عقلانية جديدة لا تسقط في فخ التاريخانية ولا الآيديولوجية المغرقة في الغائية والقليلة الأمانة للحقيقة والعقل .

لن تنجح في الحصول على التقديس أي من التفاسير المؤدلجة المعصرنة ، ولن يصلح انتاج نبوة جديدة بواسطة تغيير مدلولات النص ، فقد انتهى عصر النبوات وجاء عصر العلماء ، كل ما نستطيع انتاجه هو علم جديد ، وفلسفات جديدة ، وطرق تعامل أيديولوجية مختلفة مع تراثنا الديني الذي لا يجب تحطيم هويته وقداسته بتغيير هويته وتكوينه ، فأي تغيير جدي فيه سيحوله من مقدس متجاوز ومتعالي ومدهش وخلاب لشيء عادي .

في النتيجة لم يكن د. شحرور بحاجة لتمزيق جلد اللغة لو اعتمد على أدوات أخرى مساعدة (عقلية وفلسفية) ولم يقتصر على الأدوات اللغوية فقط رغم نجاحه الملفت في ذلك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.