موت الدولة وبقاء الوطن

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

ما يظهر من نقاشات سياسية عقيمة ، يعود في قسم هام منه لعدم وجود معنى واضح محدد للمصطلح السياسي في الثقافة السائدة ، التي تميل اليوم للإختزال الشديد الذي يزيدها سطحية بسبب اعتماد البوست بدل المقال ، والفيلم بدل الكتاب . فموت الدولة السورية وتفسخها ، يتحول موتا لوطن ملايين السوريين المعذبين والمهجرين ، وكأن انتماءهم هو لدولة الأسد ، وبقاءه رمزا لبقاء وطنهم … وحياتهم في وطنهم مشروطة بالخضوع لنزواته …

لا السلطة ولا الدولة تعني الوطن ، وسوريا التي ماتت  ليست وطننا ، ولم تكُ في يوم من الأيام ، سوريا التي أعرفها وعشت فيها هي دولة قهرية مصطنعة قامت بقرار استعماري عام 1948 على جزء من وطن هو بلاد الشام ، وتحولت لعرين خاص بالأسد ، سجن لغيره ، لذلك فهي غير مأسوف عليها لو ماتت ، بل يجب أن تموت ويموت معها تاريخها الحافل بالجريمة والظلم والتخلف والاضطهاد ، ليست خيانة سوريا ( السجن ) خيانة للوطن كما يوهمونا ، ولا حمل السلاح في مواجهة سلطتها المجرمة مهما كان لون الراية ، فالسلطة والدولة ليست وطننا . وطننا هو الأرض والقوم الذين نشأنا بينهم أو نستمد ثقافتنا وهويتنا منهم ، نحن قد نسكن في دولة أجنبية وقد نحصل على جنسيتها ، لكن وطننا يبقى هناك وكل برامج اعادة التوطين لا تستطيع أن تنتزعنا منه …

لقد لعبت الترجمة السيئة للمصطلحات السياسية من اللغات الغربية للعربية والتي قام بها المترجمون الأوائل من رواد النهضة العربية السيئة الصيت ، دورا كبيرا في تشويه الوعي العربي وافساد حياتهم السياسية ، فقد ترجمت الإجتماعية socialism بالإشتراكية ، وترجمت التعاونية Communism بالشيوعية ، وترجمت اللاكهنوتية laicism / secularity بالعلمانية التي تعني التعصب للعلم ، وترجمت كلمة التابعية ( الإنتماء للدولة  nationality )  بالجنسية ، التي تدل على الأصل العرقي والوطني، فاختلط مفهوم التابعية للدولة ( state, country, nation, polity) بمفهوم الانتماء لوطن وموطن ( Motherland homeland, country, native land ) وتسبب ذلك في عسرة تفاهم سياسي ما يزال يثير النزاعات العبثية في كثير من الأحيان ، بل يحدث تشوشا كبيرا في مدلولات الخطابات السياسية المختلفة عند العامة التي أغرقت في التجهيل ، ناهيك عن عسرة التفاهم مع الديبلوماسيين الأجانب .

بلاد الشام كانت على مدى التاريخ وطناً لعدة شعوب وقوميات وديانات وطوائف ، شكل العرب السنة أغلبيتهم منذ 14 قرن ، وقامت فيها دول عديدة وانهارت ، وبقيت بلاد الشام وطنا لهذه الشعوب التي منها العربي والكردي واليهودي الذي عاد اليها بعد ألفي سنة من تشرده ، ولكنه عاد لإقامة دولته الخاصة على حساب موطنه ، وهذا ما تسبب بمشكلة كبيرة مع شعب فلسطين ، لن تجد حلها الا باعادة الاعتبار لمفهوم الوطن ، الذي يجب أن تخضع له هوية الدولة وطبيعتها .

كل غريب قادم يحمل معه غربته ، كما يحمل المهجر وطنيته ويحتفظ بها ، والأقليات التي تتمسك بالاحتلال الأجنبي أو بدولة القهر وتتغاضى عن شركائها بالوطن مقابل ذلك ، لا تختلف بشيء عن المنظمات الإرهابية التي تريد فرض وصايتها بالترهيب والترويع ، وإيران الفارسية الصفوية التي تحاول اليوم تشريد شعب سوريا خاصة العرب السنة تدرك هذه الحقيقة وتتجاهل أن هذه المنطقة هي وطنهم منذ غابر الزمن ، لتقيم عليها دولتها العظمى المجرمة بالتعاون مع الأقليات والروس ، وهي ككل دولة ذاهبة للزوال ، فما بالك لو كانت دولة احتلال وجريمة واضطهاد لشعبها قبل بقية الشعوب ، بينما تستمر الشعوب في حمل وطنيتها معها وتقوم بتوريثها ، ولن تمر سنوات قبل أن ينشأ جيل جديد تحت الاحتلال وفي المخيمات وبلدان اللجوء يحمل السلاح ويقاتل من أجل وطنه ، ومن فقد وطنه يعرف قيمته وأنه يستحق القتال من أجل استعادته …

في الحروب بين الدول وفي الصراعات السياسية يتم عادة تحيدد مفهوم الوطن ، فيمنع قانون الحرب استهداف المواطنين ويؤكد على حمايتهم حتى تحت الاحتلال ، ويعتبر كل استهداف لهم هو جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية (إذا استهدفت فئة قومية أو عرقية أو مذهبية محددة )  . وما تقوم به روسيا وإيران كدولتين محتلتين هو جريمة حرب موصوفة وجريمة ضد الإنسانية بموجب اتفاقيات جنيف ودستور محكمة الجنايات الدولية ، فمن واجب دول الاحتلال حماية المدنيين وتأمين سلامتهم وعيشهم بأوطانهم ، والصراعات بين الدول والنظم محدودة فيها ولا تشمل المواطنين ، وما يقوم به النظام المجرم الذي استدعاهما لنصرته ضد شعبه يلغي أي أساس للوطن ويقوضه ، ويبطل بالتالي أي شرعية أو امكانية  للتفاوض معه ، وما يقوم به لبنان من اضطهاد وتهجير بحق السوريين يقع أيضا في هذا السياق فهم في وطنهم طالما هم في بلاد الشام … واعتبار دولة لبنان وطنا لا يخص السوريين هو كذبة وخطأ تاريخي وجغرافي ، فلبنان هو أيضا دولة سياسية مصطنعة وفاشلة تحكمها مجموعة عصابات متناحرة .. حال اللاجئين السوريين كحال الفلسطينيين (في دول الشرق الأوسط)  فهم في وطنهم ويجب اعتبارهم كذلك ، والانسان ينتقل في وطنه طوعا وكرها وفقا للظروف ولأسباب عديدة منها الحروب ومنها الاقتصاد ، وهذا لا يجب أن ينتقص من حقوقه وكرامته في موطنه ، وكل سوري مقيم في الشرق الأوسط هو مواطن في وطنه ، وحدود الدول المصطنعة لا تلغي الوطن الجامع التاريخي ، ولا فشل ودمار دولته يلغي وطنيته ،

كذلك كل محاولات التقاسم والتقسيم لن تخلق أوطانا بل كيانات سياسية تناحرية مضادة للوطنية ، تقوم على ترهيب وتهجير واضطهاد الآخر الذي يملك ذات الحق في عموم أرض الوطن ، يمكنهم فقط اقامة دول عدوانية تعتدي على مواطنيها وغيرها لكنها أبدا لن تكون أوطانا لأحد … لا علويستان ولا سلفيستان ولا شيعيستان ولا كرديستان ولا روسيستان ولا بشارستان يمكنها أن تعيش … ما أثبت قدرته على البقاء هو بلاد الشام كوطن لشعوب تثبت علوم الصبغيات أنها هي ذاتها منذ أكثر من 4 آلاف سنة بالمقارنة مع صبغيات الجثث في المقابر القديمة التي يتم العثور عليها …

باختصار سوريا قد ماتت لكن الوطن ليس سوريا ، بل هو بلاد الشام ، والدول التقسيمية القائمة والتي ستقوم هي أمارت حرب تشبه أمارات داعش في الرقة والنصرة في ادلب ، ولن تصبح الدولة محترمة وآمنة ومستقرة ما لم تتطابق مع حدود الوطن وتحترم حقوق المواطنة لكل تنوعه التكويني ، لن توجد دولة ولا وطن وحقوق مواطنة إلا في صيغة اتحادية تجمع بلاد الشام كلها معا ، ومهما حاولوا التقسيم ، ومهما حاولوا تكريس حدود تقسيمية واثارة النزاعات وخلق تباينات فهي عاجلا أم آجلا ذاهبة للفشل وخير مثال عليها سوريا ولبنان وفلسطين واسرائيل وغيرهم أيضا كدول فشلت في أن تكون أوطانا وفقدت استقرارها الأمني والاجتماعي والاقتصادي … الشرق الأوسط يعمه الخراب والظلم والحروب والتخلف والتعصب والإرهاب المتعدد الصيغ بسبب اعتماد مفهوم الدولة بديلا عن مفهوم الوطن … فالدولة تموت لكن الوطن يبقى .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.