د. كمال اللبواني
لقد دأب النظام السوري على الكذب، فوصف الثوار بالمندسين، ثم بالعصابات المسلحة ثم بالإرهابيين، ثم بالتكفيريين القادمين من الخارج، ولكثرة السوريين (المتورطين في حرب التكفير والارهاب) قرر أن ينزع عنهم جنسيتهم لتصدق كذبته … أما في الواقع فقد تطورت ثورة الحرية والديمقراطية التي قامت ضد الاستبداد والفساد، والتي تعرضت لكل أنواع القمع الوحشي، لثورة كرامة مسلحة تقاوم جحافل الجنود والأمن المدارة من قبل الشبيحة. ولم تكن الشعارات الاسلامية أو دور المساجد التقليدي عنصر انحراف عن جوهر الثورة الوطني الأصيل، ولا حتى طغيان الشعارات الاسلامية التقليدية بشكل خاص على العمل العسكري التطوعي، الذي تحول لعمل جهادي وطني ديني بحت بمقدار انهيار وتشتت المجتمع السياسي، وتهافت بناه المدنية والسياسية والعسكرية، لكن تراجع الأقليات عن مشاركتها الهزيلة في بداية الثورة، وانكفائها أمام ترهيب القمع، أو عودتها للتحالف الفعلي مع النظام، باستعمال مبررات تتعلق بانحراف الثورة وتسليحها ثم بأسلمتها ، و تبنيها لشعارات النظام المعادية للشعب وللإسلام، التي تتهمه بالتطرف والارهاب .. هو من حول الصراع كما أراده النظام لمعركة بين كل الأقليات وبين الغالبية، و معركة مع الهوية المركزية ومع وحدة الدولة التي تضمنها الأغلبية، وهذا ما برر المزيد من التشدد والتمركز حول الذات عندها ( أي الأغلبية العربية السنية ).
وعندما دخلت المليشيات المحلية والأجنبية حرب الوجود الطائفية العنصرية، ضد هوية المنطقة التاريخية العربية السنية، وتلقت الدعم الهائل من أعداء الأمة (أصدقاء النظام)، وسط تساهل غريب مريب من قبل الغرب (أصدقاء المعارضة)، أصبح من الطبيعي أن تبحث الأغلبية عن استقلالها و عن تمركزها ووحدتها، وتعيد مركزية تنظيمها حول ذاتها فقط وبما يخدم ذلك، وبالاعتماد على النفس وسط مناخ من العداء المطبق، كأي مدافع يتعرض لحرب تستهدف وجوده، وهذا ما دفع بالأيديولوجيا السلفية الجهادية للواجهة والانتشار ، ثم لقيادة العمل العسكري ومن ثم السياسي دون منازع.
لقد أصبحت الثورة المسلحة ضد النظام وحلفاءه فعلا ذات طابع ديني جهادي سلفي سني، نتيجة اصرار النظام على كذبته، ونتيجة جره مؤسسات الجيش والأمن والمليشيات المختلفة ، ومتطوعين من الأقليات ،و عصابات ومليشيات خارجية مرتزقة … كلهم معا جرهم لخوض حرب ابادة وتطهير غير مسبوقة ضد غالبية السكان، فقتل من قتل وهجر من هجر وأحرق من أحرق وحول مدن العرب السنة و قراهم ومساكنهم لخراب ما بعده خراب … و من بقي في الميدان هو فقط الشديد القوي الذي يقاتل بشعاراته وعقيدته التي لا تلين، ليأتي من يصف هذا التيار السلفي المقاوم الصامد دفاعا عن الشعب بالتطرف والارهاب … ليغطي ويشوش على صموده الرائع الذي خيب فأل جميع من راهن على استسلام هذا الشعب واستكانته، بعد أن تغاضى وتواطأ مع كل هذا العنف والتخريب… وبالفعل إن عظمة الاسلام وقوته تبدت في قدرته على تحصين مجتمعاته ضد الهوان، بسماحه بإمكانية انتاج هذا النوع الفريد من الجيوش الجهادية التي لا تهزم بعون الله…. بالتأكيد هم مجموعات متشددة وغير ديمقراطية، لكنهم محاربون أشداء، والتباكي على الديمقراطية المزعومة هو تباكي على شيء افتراضي لم يكن موجودا في يوم سبق، والتخوف من عزل الأقليات هو تخوف من شيء حاصل، لأن مشاركة الأقليات بالسلطة لم تكن متاحة مع عصابة تحتكر السلطة والثروة، وتمارس كل أشكال الفساد والاستبداد والارهاب الذي لم يكن موجودا بهذا الشكل والمستوى في أي دولة اسلامية سابقة. أما حقوق الانسان والحريات وحقوق الأقليات، فتوضع على التوازي والتساوي مع الحق في الحياة والوطن الذي تحرم منه الأغلبية، من دون أن تجد من يحفظ لها هذا الحق، وإذا هي حاولت تتهم بالتكفير والارهاب، متناسين ارهاب النظام المدعوم من الأقليات.
مارس النظام ارهابه بسياسة ملاحقة وقمع واعتقال عشوائي شامل لكل فئات المجتمع، ثم بمداهمات واختطاف وتعذيب وتصفية منهجية ومبرمجة طائفيا، ثم باجتياحات عسكرية واعدامات ميدانية، ثم بتدمير ممنهج وتطهير وجرائم ضد الانسانية ، وبعدها بقصف عشوائي متكرر بكل صنوف الأسلحة بما فيها أسلحة الدمار الشامل … والنتيجة مئات آلاف القتلى ومثلهم من المشوهين، ومثلهم من المفقودين، وعشرة ملايين مشرد دمرت منازلهم وأعمالهم، كل هذا الارهاب يوضع على التوازي والمساواة مع ردود فعل محدودة جدا لقلة من المجموعات المعارضة، وسلوك فردي منعزل لبعض الضحايا من مقاتليها. والغاية هي تعميم صفة الارهاب على المقاومة الشعبية الاسلامية، وتبرير اكتساب النظام لصفته كطرف يحارب الارهاب التكفيري.
معتمدا في اتهامه على طغيان الطابع السلفي الجهادي على العمل العسكري .. والذي يعتبره الغرب تورما مضادا للجسد الحضاري المدني الذي يدعيه وينشده ، من دون النظر في اسباب استدامة هذه الحالة أو عناصر اضمحلالها، حيث يسعى الغرب بدلا من ذلك للامعان في ارتكاب ذات الأخطاء التي ستدفع بهذا (الورم الحميد) للتحول لسرطان خبيث، وللانتشار بعيدا في كل مكان .. لنرى كيف تفعل سياسات الغرب ذلك ؟
قلنا إن اهمال العالم لمسؤولياته تجاه الشعب السوري، ولحقه في الحماية ، وحقه في تقرير مصيره، واهمال الغرب لمسؤولياته تجاه منع جرائم الحرب، واستعمال الأسلحة المحرمة ، وتدخل المرتزقة والجيوش من دول أخرى. هي من أجبرت الشعب على حمل السلاح، ثم على التشدد والانغلاق، واليوم عندما يطلب منا المجتمع التخلي عن هذه الجماعات الجهادية التي يعتبرها معادية ، ويشترط طردها، فهو يزيد من تشددها وانعزالها عن مجتمعها ومشروعية وجودها ومبرره الأخلاقي، ويبعدها نحو العمل السري ، ويساهم في نشرها في كل المناطق التي جاءت منها، أما الحرب معها والضغط العسكري لتحقيق الانتصار عليها فسوف يحولها لمجموعات متفرقة سرية تخوض حرب عصابات، وإذا ما فقدت مناطقها وجبهاتها وتخلت عن ذويها ومدنييها، ليصبحوا تحت رحمة العدو المجرم الذي يمارس ضدهم ما يمارس، فسوف تنشأ لديهم نزعة لا تقاوم للانتقام من مدنيي النظام ، ومدنيي حلفائه في المنطقة والعالم، ونكون بذلك قد صنعنا فعلا الإرهاب بأشرس أشكاله، ونشرناه بعد أن تمرس بفنون العنف وتغذى بكل عوامل التطرف. هذه هي السياسات الغبية التي يطالبنا بها ويمارسها الغرب، الذي يعجز عن فهم طبيعة السكان وثقافتهم وطرق استجابتهم للظروف التي وضعوا فيها.
إن كل ما يحتاجه التطرف للتفاقم هو الغطرسة والعنف والدماء والعزل، وبدل سياسة حوار وتفهم وزيادة اندماج بالمجتمع، يجري التحريض عليهم لقتالهم ولطردهم، وبالتالي دفعهم لردود فعل متزايدة العنف والتطرف، دون أن نفكر في تغيير الظرف الذي أوجدهم، وبالطريقة التي يمكننا فيها من اعادة دمجهم بالمجتمع ، ومن ثم بالدولة بعد سقوط النظام، ولو فكرنا بطريقة أخرى لوجدنا أن أسلس طريقة لاحتوائهم هي قبول وجودهم ومشاركتهم بالسلطة وفي عملية تفكيك المنظمات وجمع السلاح واعادة بناء مؤسسات الدولة ، لنتخيل أنهم معارضة مسلحة مستبعدة وملاحقة، ونريد تفكيكها وجمع سلاحها كم سنخوض من الحروب؟ قبل أن نستقر بعد كل هذا الخراب… ومن يا ترى سيحفظ وحدة البلاد ويمنع التقسيم والتهجير والتطهير، إنها فقط الغالبية المنتشرة في كل مكان والتي هي الحاضن الاجتماعي لها، ومن سيقود مشروع الدولة التعددية؟ ومن سيحفظ وجود التنوع والأقليات؟ نعم الطريق نحو الحرية والحضارة يمر عبر الاغلبية، وهو ليس طريقا مستقيما، وأدواته ليست تلك التي تعلن عن نفسها منذ البداية، لأن هكذا طرق عادة تسيرها الشعوب بقوى اقتصادية وسياسية مختلفة ومتناوبة متبادلة ، وعادة ما تحقق أي أيديولوجيا غاية أخرى لا تعلن عنها، فالأيدولوجيات مخادعة ومضللة دوما ومن يدعي الديمقراطية هو من صنع الاستبداد ، ومن يدري هؤلاء المتطرفين قد يحملونا لمشروع وحدوي مركزي يهيئ الأرضية للحضارة …. وكذبة الراعي هي من جلبت الذئب، والاصرار على تصديقها هو من سيصنع الارهاب ..