يثب

السلفية والإخوان (الجزء 2).. لماذا أسدل الستار على تنظيم الإخوان؟

د.كمال اللبواني
Kamalكنا قد ذكرنا في الجزء الأول كيف ولماذا ضيع الإخوان الفرصة التاريخية التي سنحت أمامهم بعد أن اعتمدهم الغرب لقيادة الربيع العربي، (والذين صنفوا مؤخرا إرهابيين في مصر وبعض دول الخليج والحبل على الجرار)، والسبب في تصنيفهم هذا أنه ثبت بالممارسة في مصر أنهم مستبدون بل تكفيريون مثلهم مثل القاعدة، مع فارق أنهم يتاجرون بالدين وليسوا متدينين إلا مظهرا أمام الناس، فهم عندما اعتمدوهم نسوا أن سيد قطب منظرهم وكبيرهم هو من كتب كتابه معالم في الطريق الذي يقول في صفحته الأولى إننا نعيش جاهلية أشد وأقسى من جاهلية ما قبل الإسلام، ولذلك يجب أن نهجرها كما هجرها الرسول، أي هو مؤسس فكر (التكفير والهجرة والخروج على المجتمع وتكفيره ومن يبرر التسلط عليه من قبل الجماعة الناجية الخارجية، بعد إهدار حقوقه ودمه ومصادرتها كأي كافر) وثبت أن ممارستهم لا تحيد عن هذا المبدأ قيد أنملة، لكنها تتغلغل كالسرطان صمتة هادئة.. ولذلك كان القرار الدولي بطردهم من السلطة في مصر وغيرها، واستخدام الجيش المصري أجهزة الدولة وبتمويل من دول الخليج، وليس كما يقال انقلابا على الشرعية ولا الديمقراطية بل منعا لتغلل سرطان خطير يحول العالم الإسلامي لحكم ترهيب يشبه الحكم النازي والماوي يمسك برقاب مليار مسلم ولا يمكن هزيمته من دون حرب كونية .. وهذا لا يعني أن السيسي بطل الديمقراطية بل هو عسكري منفذ لمهمة يجب أن يرحل بعد تنفيذها أي نقل السلطة للشعب وإعادة الحياة السياسية لمجراها الآمن.
بينما سنركز هنا على الفرصة المتاحة أمام التيار السلفي إذا استفاد من تجربة الإخوان وابتعد عن الممارسات التكفيرية.. والذي نما بشكل عفوي ومن دون تنظيم تقريبا، فقد تمايز من بين صفوف الثوار من هم أكثر سلفية من غيرهم، وتشكلت مجموعاتهم العسكرية في صميم المعركة ضد النظام.. بالتزامن مع تمادى النظام بالقمع والقتل والتدمير والتهجير، وفشل المجتمع الدولي في رفع المظالم أو تطبيق العدالة.. لقد كان السلفيون هم الأقدر على تبني وجهة نظر ثورية حازمة ضد النظام المجرم الكافر( فهم متدينون ملتزمون) ويكفرون النظام وليس الشعب حتى الآن، واستخدموا عقيدة الجهاد للرد على هذه الوحشية وهذا العنف بشكل صارم وفعال وحافظوا على زخم الثورة. وتوحدوا تحت راية الجهاد في مواجهة التفكك والفوضى التي ضربت صفوف المعارضة العسكرية (الجيش الحر الذي لا يمكن ضبطه من دون مؤسسات ورقابة وقضاء عسكري)، وبدا واضحا لفترة أن السلفيين هم الأقدر على التنظيم والتوحد والانضباط العفوي والجهاد، مع الحفاظ على علاقة جيدة بالحاضنة المجتمعية، التي وجدتهم في محنتها يقفون إلى جانبها، ويقاسمونها الرغيف والقصف والحصار، (وهذا لا يشمل البعض ممن جاء من الخارج أو أراد تنفيذ أجندات خاصة به ويطبقها بالقوة على المجتمع فهم تكفيريون بالممارسة .. وهذا مصدر قلق الجميع من التيار السلفي بأن يتحول بعد إسقاط النظام لمستبد وتكفيري) …
الفارق بين السلفية والإخوان من الناحية النظرية: أن الإخوان هم حركة سياسية توظف الدين في السياسة بطرق تتناسب مع نموذج الدولة الحديث، و هو حزب مدني (لكنه شمولي) يستخدم الدين كأيديولوجيا، لدخول معترك الحياة السياسية الحديثة، على نفس الطريقة التي استخدمت فيها النظرية الماركسية والقومية، ولا يوضح الحدود التي نتعامل فيها كإخوة في الدين، ونختلف أو نتفق عليها كأعضاء في التنظيم السياسي، أي لم يوضح العلاقة والفارق بين الانتماء الديني (الأخوية الدينية)، وبين الانتماء السياسي الأيديولوجي (الزمالة في التنظيم)، رغم أنه يتبنى نظام الدولة المدنية الحديثة ويدعي الديمقراطية.
بينما السلفية كتيار سياسي ديني كان صادقا مع نفسه ولم يفصل السياسة عن الدين، بل يعتبرها منتجا طبيعيا من منتجاته عبر نظام الأمامة (الخلافة) الإسلامي التقليدي، الذي لا يصح الإسلام من دونه بحسب وجهة نظره. فليس هناك حياة سياسية حديثة ولا حياة حزبية وسياسية خارج وصاية الدين والعقيدة، وحدود أي تباين سياسي هو احترام النص والشريعة والسنة النبوية، والمرجعية السياسية هي الخليفة أو أمير المؤمنين، الذي يمارس السلطة الدينية والسياسية معا.
وكما لكل أيديولوجيا حاضنة تناسبها، لا تستمر ولا تستقر من دونها حتى لو توفر المال والدعم.. كذلك للسلفية الجهادية حاضنة تزداد وتترسخ بشكل طبيعي في ظروف الحرب، وتبعا لظروف المعركة ولسلوك المجتمع الدولي، وليس فقط لتوفر الدعم الموجه الذي نشكك فيه أصلا. والتجربة أثبتت أن المال السياسي لا يصنع كيانات راسخة في الأرض بل ولاءات واتحادات مؤقتة وهشة.
لذلك ومع استمرار الظروف الراهنة… ومع استمرار حالة الحرب: كل المؤشرات ذاهبة نحو نمو تيار سلفي كبير يصبح هو الحامل الأساس للمشروع الثوري العسكري، لإسقاط نظام الجريمة، وترسيخ الأمن .. وبعد عودة السلم نتوقع حصول تناقضات بينه وبين حاضنته إذا لم يتفاعل مع تغير الظروف، وذلك بسبب جمود وتخلف مفاهيمه التقليدية عن الحياة السياسية، وتنكره للحداثة والعصرية التي لا تصح الدول الحديثة بإمكاناتها الجبارة من دونها …فحالة السلم تختلف كثيرا عن حالة الحرب، وما كان صالحا وناجحا وكافيا في زمن الحرب قد لا يكون في ظروف السلم.. لذلك كنا سنتوقع أن يلعب الإخوان دور المعارض للتيار السلفي، و أن يحاولوا الاستفادة من ظرف السلم بعد أن خسروا في ظرف الحرب… لكن الدول العربية استبقتنا للقضاء على ما تبقى من هذا التنظيم قضاء مبرما ينهي حياته السياسية بشكل جدي وحاسم وبلا هوادة، عندما قاموا بوضعه على قائمة التطرف والإرهاب بكامل فروعه وتلوناته، وملاحقته واجتثاثه في ظل انحسار شعبي كبير عنه.
وبنفس الوقت تنطحت دول صديقة وداعمة لمنع انتصار السلفيين، خاصة بعد أن أثبتوا ميلهم الشديد نحو التشدد والتطرف والإرهاب، وهي تفضل النظام عليهم. مما يهدد الثورة بالخسارة فيما لو لم نتدارك الأمر، ونعيد ترتيب المجموعات العسكرية تحت غطاء سياسي وطني أو إسلامي معتدل لا يهدد بالانحراف نحو التكفير والخروج.
ونتوقع ظهور أحزاب إسلامية تؤمن بالديمقراطية السياسية، وتؤصل لها في الثقافة الإسلامية، أكثر انفتاحا بكثير من فكر الإخوان – الذين يعود فكرهم للمرحلة الشمولية في منتصف القرن الماضي –نتوقع بعد انتهاء الحرب أن تسدل الستار على حزب قديم محافظ شمولي، أدواته التجديدية في تطبيق الدين محدودة جدا وغير فعالة، ومنهجه شمولي نخبوي غير جماهيري… وبالتالي نتوقع أفول نجم الإخوانية من سماء الساحة السياسية الإسلامية، بشكل مضطرد وعدم قدرتها على تجديد نفسها أو دورها، رغم الحجم اللوجستي الكبير الذي تملكه، والذي يحافظ على وجودها كمؤسسة عالمية مالية دينية، ولكن ليس كحزب سياسي جماهيري بعد الآن.
وستتقاسم هذه الساحة الجماهيرية نزعتان نزعة سلفية شمولية ترى الأصل في الماضي، وبين نزعة انفتاحيه ديمقراطية تجديدية، تستند لحاجات المستقبل وضرورات العيش العصري التي لا تقاوم، والتي ستكون أقرب للمنهج الصوفي الذي يرى الأصل في الجوهر والمعنى العميق وليس في الشكل، (والمثال البسيط الذي يوضح الفارق هو مثلا حد السرقة، حيث يتم التوسع بدرئها بالشبهات ليصبح قطع يد السارق يكون بمنع الحاجة إذا سرق عن جوع، وبتحسين ظروف الأسرة إذا سرق عن سوء تربية، وهكذا مما يحول الحد لمجاز مقصود منه عدم التسامح مع السرقة ومحاربة جذورها وليس شكليات القطع التي تبدو وحشية وغير مقبولة في ظروف اليوم عمليا).
بينما تضمحل الحركات التي تقع بينهما تلقائيا لضياع حدود الاختيار ولعدم إمكانية توحيد العقل المختلط بين فهمين للنص، ولخروجها من ساحة المجابهة… ونتوقع أن يشتد التنافس بينهما خاصة بعد انتهاء حالة الحرب، وأن تصعد شعبية النزعة الانفتاحية التي تحاول أن تجعل الإسلام أكثر تواؤما مع نمط الحضارة والحياة السياسية العصرية، وقد تستطيع أن تطلق هذه النزعة ثورة ديمقراطية إسلامية تجديدية في وجه السلفية الرجعية الشمولية إذا أغلقت هذه الأخيرة باب التغيير والتداول السياسي وانكفأت للتكفير والقمع، لكن أبدا لن يستطيع الإخوان المحافظون التقليديون الذين ينتمون للمرحلة الشمولية أن يكونوا من أبطالها أو من الفاعلين في المستقبل السياسي … فهم ليس لهم حظ في مرحلة الحرب ولن يكون لهم حظ في مرحلة السلم التي بعدها، حيث ستتقدمهم حركات إسلامية أخرى أكثر فعالية ومصداقية وتناسبا مع المتغيرات … والقادم من التيارات الإسلامية إما سلفي أو منفتح والصراع سيشتد بينهما … لكن حركة الإخوان المسلمين قد دخلت فعلا متحف التحنيط السياسي وأصبحت من التاريخ، بسبب تغير الظروف والأزمان والدول وهي سنة الحياة، ولأن كل مولود فانٍ… وسبحان الدائم على الدوام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.