العهد المملوكي في سورية




د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني
الدكتور كمال اللبواني

تميّز حكم المماليك في سورية بإنجازين تاريخيين، هما دحر هجمات التتار والقضاء على جيوب الغزو الصليبي، ويشهد حي ركن الدين (الظاهر بيبرس)*، العريق في دمشق إلى جانب حي الشيخ محي الدين بن عربي في سفوح قاسيون على عمق تأثيرهم في تاريخ المنطقة. العهد المملوكي

والسؤال الذي نريد الجواب عليه في هذا المقال هو:  لماذا وصل المماليك للسلطة، وتمكّنوا من حكم منطقة ذات هوية ممعنة في التاريخ، بالرغم من أنّهم غرباء قد اختطفوا وهم أطفال صغار من مناطق بعيدة وبيعوا في أسواق النخاسة، في حين فشل قادة المكوّنات المحليّة العريقة في تأسيس دولة قويّة؟، ولماذا كانوا هم المخرج الوحيد للأمة في زمن مضطرب له سمتين: تحلّل الخلافة العباسية بالرغم من نسبها وتاريخها، وتكالب الطامعين على بلاد الشام؟.

يُختطَف المملوك وهو طفل صغير من بلده فيكاد لا يذكر عنها شيئاً، وتشتري الدول يومها هؤلاء الأطفال من سوق النخاسة لتعمل على تنشئتهم منذ الصغر على الطاعة والقتال، ولتعتمد عليهم فيما بعد بسبب أحادية ولائهم لها، وعدم ارتباطهم بمكونات المجتمع المتصارعة على السلطة، كذلك بسبب تفوّقهم العسكري والتنظيمي على الجند المتطوعين من أهالي البلد الأصليين الذين لديهم حياة أسريّة ومجتمعيّة غنيّة تقيّدهم وتشتّت ولاءهم للسلطة، هذا النظام (الجيوش المملوكية) الذي نشأ في نهاية الخلافة العباسية وانتهى لحكمها، ميّز أيضاً المرحلة العثمانية فيما بعد (الانكشاريّة) وأمّن استقرار سلطانها، وتفوّقها الدائم على معظم جيوش الدول التي حاربتها. والتي لم تنهار إلا بعد أن تخلّت عن الرقّ المصدر الأساسي للمماليك. العهد المملوكي

المملوك ليس لديه أي انتماء لغير المؤسّسة التي ترعرع فيها، فهو منتمٍ لمجتمع السلطة التي ربّته ولا يعرف أهلاً غيرها، لذلك هو يقف على مسافة واحدة من كلّ المكونات المجتمعية المتصارعة في الدولة وعلى السلطة، من دون أن يحمل هويّة أصليّة خاصة به ذات جذور تنافسهم، فهو أشبه بماكينة مختصّة بالحكم والسلطة فوق الصراعات الأهليّة، لذلك امتلك القدرة على أن يكون (الحكم القوي) بينها في زمن التفكّك والصراعات الأهليّة، وأصبح حكمه ضرورة مطلقة عندما تعرّضت هذه الدول المفككة والمجتمعات المتصارعة لغزوٍ خارجي لا يرحم كالغزو التتري والصليبي، هكذا كان حكم المماليك، الحلّ الوحيد في ذلك الزمن الصعب، وهم من أنقذ الوجود العربي الإسلامي في الشّرق الأوسط، حيث اضطر المجتمع المتفكّك والمتصارع إلى تسويد المماليك العبيد منقطعي النسب ملوكاً على السادة والأحرار والأشراف، لأنّهم فشلوا في الاتّفاق على تشكيل دولة قادرة، وتناحروا حتّى هانوا على الأعداء والمتربّصين.

ما يزال الكثير من بقايا هذه الأسر المملوكيّة يعيشون في هذه البلدان من دون شعورهم بتميّز قومي أو طائفي متجذّر عندهم وموروث عن أسلافهم، وما زالوا يرون أنفسهم أولاداً للدولة وأداة للسلطة. وقد جدّدوا حكمهم لمصر الحديثة أيام محمد علي باشا، وكادوا أن يصبحوا ورثة الدولة العثمانيّة، التي حصلت على دعم بريطاني فرنسي قوي لتقويض حكم الخديوي واحتوائه، ثمّ لتفكيك الدولة العثمانية واحتلال معظم ولاياتها تباعاً، وهكذا وبعد الاستقلال عادت بلاد الشام للصراع الأهلي، وعادت شعوبها لتتصارع بشكل مرير ومدمر على السلطة، ولم يعد هناك أمل لعودة الاستقرار من دون تدخل جيوش الاحتلال مجدداً، واعتماد المماليك حكّاماً لها، لكن تحت مسمّى جديد هو التكنوقراط الأمني والعسكري، اللامنتمي سياسياً وثقافياً ودينياً (لا لون ولا طعم ولا رائحة له)، والذي لا أهل له ولا هوية سوى سلطة الدولة، ولا وطن له سوى مصالحه الضيقة، وهم من يطفون على السطح اليوم في السلطة والمعارضة بدعم دولي وبدافعة أرخميدس التي تعوّم خفاف الوزن النوعي. العهد المملوكي

يقصد عادة بمصطلح الدولة المدنية (الذي لا تعريف سياسي له) لأنّ الدولة هي سياسية حتماً. والمدني الحضري هو مقابل البدوي القبلي، يقصد باستعماله حكم من لا انتماء لهم (لا أهلي ولا أيديولوجي)، بيتهم الدولة وولاؤهم للسلطة، أي (مماليك) تحت اسم مستعار هو التكنوقراط. الذين سيهيئون السلطة لهيمنة اقتصاديين مهتمين ببرامج اقتصاديّة تحقق نوعاً جديداً من الهيمنة لا يعتمد عصا القمع بل جزرة الاقتصاد، لحكم الشعوب والسيطرة عليها، وهذا ما سوف يعتمد في مرحلة إعادة البناء في سورية من قبل الدول النافذة، وما مهمة “علي مملوك”* سوى إنهاء الصراع المسلّح وتفكيك القوى العسكريّة، ونقل السلطة للتكنوقراط الاقتصاديين الذي يتدرّبون ويتحضرون ويعدّون الخطط الاقتصادية منذ بداية ورشة التدمير المركزي التي انطلقت في سورية بقوّة جيشها وشعبها وبمساعدة منظّمات ومليشيات محليّة واقليمية وجيوش دول عظمى، كلّها كانت تجد المبررات لتدمير أكبر قدر ممكن من سورية، تمهيداً لإعادة بنائها بطريقة تخدم مصالح منظومات مالية محفلية محلية مرتبطة بمحافل دولية بقيادة تكنوقراط من أمثال عبد الله الدردري، وهذا موضوع آخر سنتطرّق إليه.

هوامش:

*الملك الظاهر ركن الدين بيبرس العلائي البُنْدُقْدارِي الصالحي النجمي لقب بـأبي الفتوح. سلطان مصر والشام ورابع سلاطين الدولة المملوكية ومؤسسها الحقيقي، بدأ مملوكاً يباع في أسواق بغداد والشام وانتهى به الأمر أحد أعظم السلاطين في العصر الإسلامي الوسيط. لقّبه الملك الصالح أيوب في دمشق بـ”ركن الدين”، وبعد وصوله للحكم لقب نفسه بالملك الظاهر. ولد بيبرس نحو عام 620 هـ/1223م، حقّق خلال حياته العديد من الانتصارات ضدّ الصليبيين وخانات المغول ابتداءً من معركة المنصورة سنة 1250 ومعركة عين جالوت انتهاءً بمعركة الأبلستين ضدّ المغول سنة 1277. وقد قضى أثناء حكمه على الحشاشين واستولى أيضا على إمارة أنطاكية الصليبية. العهد المملوكي

حكم بيبرس مصر بعد رجوعه من معركة عين جالوت واغتيال السلطان سيف الدين قطز من سنة 1260 حيث خطب له بالمساجد يوم الجمعة 6 ذي الحجة 658 هـ/11 نوفمبر 1260 م وتوفي يوم الخميس 27 محرم 676 هـ/2 مايو 1277 م (عمر 54 سنة) بعد رجوعه من معركة الأبلستين ضدّ خانات المغول سنة 1277. أحيا خلال حكمه الخلافة العباسية في القاهرة بعد ما قضى عليها المغول في بغداد، وأنشأ نظُماً إداريّةً جديدة في الدولة. اشتهر بيبرس بذكائه العسكري والدبلوماسي، وكان له دور كبير في تغيير الخريطة السياسية والعسكرية في منطقة البحر المتوسط.

*علي مملوك من أسرة مملوكيّة سكنت دمشق قادمة من أنطاكيا، ذو أصول شركسية على الأغلب، عمل خادماً مطيعاً لسلطة الأسد وتربّى فيها وعليها في أهم الفروع الأمنية (الجويّة ثم أمن الدولة)، لا يصرّح بانتمائه لأي من المكوّنات الأهلية والطائفية والسياسية المتصارعة بما فيها حزب البعث العربي الإشتراكي، ليس له أتباع أو محسوبون عليه من المجتمع الأهلي، بل فقط مندوبون ومخبرون زرعهم في كل مكان ليتجسسوا على كل شيء.

معتمد من معظم الدول كتكنوقراط أمني سياسي يمثّل الدولة السورية العميقة، عمل مع كل الدول النافذة والمحتلة بما فيها الإيراني والروسي والأمريكي والأوروبي والتركي والعربي، ما يزال يتمتّع بحق السفر ولقاء كبار المسؤولين في كل مكان بالرغم من الحظر ومن العقوبات والتّهم الجنائيّة.

أخيراً، وجدت فيه الدول المتنافسة على سورية بحسّها العفوي أداةً نموذجيّة لتحقيق الانتقال السياسي الآمن للسلطة في سورية بحيث تنهي الصراع المسلّح وتكرّس مصالحها الاقتصادية معاً، وهذا ما لم يعد بمقدور الأسد فعله بعد أن كان أداة القتل والتدمير الأساسيّة، وهكذا يتكرّر التاريخ ويتحوّل المملوك لملك، والملك لمتشرّد ملاحق ومنفي، ويصبح مماليك الأمس  أسياد المستقبل في الشرق الأوسط المحكوم بالتنازع وعدم الاستقرار.



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.