المهاجرون في الثورة السورية: جدلية الدولة والنصرة

في سنتها الثانية بدأت تتحول الثورة السورية إلى صراع موسع إقليميا وآيديولوجيا, نتيجة عنف النظام المفرط واعتماده خطاباً وردّاً ذا طابع طائفي تجلى، عدا عن بنيته الأمنية الطائفية، في المجازر الوحشية ضمن المناطق ذات الحساسية الطائفية, واتكائه على الحلف الشيعي الإقليمي الذي يتمحور حول طهران، ويقوم على الدعم السياسي والاقتصادي على جسر إمداد عسكري دائم من المقاتلين العراقيين واللبنانيين الشيعة الذين أضحوا عماداً رئيساً لمعظم معارك النظام السوري بعد تآكل بنيته الأمنية والعسكرية المحلية, يُضاف إلى ذلك تشجيع المجتمع الدولي والنظام العربي على ديمومية الصراع في سوريا وحرصه على عدم حسم المعركة لأي طرف, مع ما أتاحه ذلك له من فرصة لتشجيع تحول الساحة السورية إلى بؤرة استقطاب للتيار الجهادي العالمي ليستطيع اكتشافه وجصره في مكان واحد وإجهاده في حرب قد تشكل محرقة للقيادات الجهادية, الساحة التي اعتبرها التيار الجهادي العالمي أيضاً فرصة تاريخية له, لكسب خبرات وتجارب جديدة, ولتوسعة مناطق السيطرة والتأثير والإمداد.
ساهمت هذه العوامل المتداخلة في تنامي ظاهرة المهاجرين ضمن الثورة السورية, والتي نتناولها في هذا المقال من منظور علاقتها مع الفصائل المحلية والواقع السوري.
المهاجرون إلى الحرب: الآيديولوجيا والميدان
لا شك أن قدراً من العقيدة القتالية ضروري لدى الوافدين إلى سوريا من الخارج, ما تشغله مقولة الأمة من حيز مركزي في خطاب التعبئة كقيمة جامعة مع الثوار السوريين ويمكنها أن تتجاوز البعد المحلي للصراع, ومع مركزية التوصيف الطائفي للصراع بالنظر إلى تعيّنه الواقعي لدى النظام بالتوازي مع توظيفه الناجح ضمن آيديولوجيا الحشد والتعبئة, في اختلاف مع المقاتل المحلي الذي يمكنه أن يقاتل دون آيديولوجيا إلا واقع التضامن والتراحم والدفاع عن المجتمع المحلي, ولا شك أن السلفية الجهادية باعتبارها أكثر الخطابات الجهادية تحقيقاً للعالمية كانت الأقدر على توفير حاضن فكري لهؤلاء المهاجرين إضافة للمقاتلين السوريين طبعاً, مع اختلاف تيارات السلفية الجهادية فيما بينها.
عدا هذا التمايز من حيث الآيديولوجيا, ثمة تمايز ميداني سمحت به الخبرات الوافدة من ساحات الجهاد السابقة, مع ما تحمله من تكتيكات عسكرية وتقنيات تفجير لم تتوافر لدى المقاتلين المحليين, عدا عن “الاستشهاديين” الذين أضحوا عاملاً مؤثراً وحاسماً في الاقتحامات والمعارك الكبرى, حيث يغلب على الاستشهاديين كونهم من المهاجرين.
كما أن انتشار “المهاجرين” الجغرافي في الجبهات يعتمد على عاملين: القرب من الحدود الشمالية, ومدى انتشار المجموعات السلفية, فيما نلاحظ كثافة العامل الإقليمي والآيديولوجي للصراع بشكل مكثف في الشمال, نلحظ “المحلية” المكثفة له في الجنوب.
أربعة أنماط من العلاقة
يمكن تمييز أربعة أنماط من علاقة المهاجرين بـ”المسألة” السورية, يقع أقصاها في الهيمنة المطلقة إلى الاندماج ما بين البعدين المحلي والمعولم إلى “النصرة” المستقلة عن الطموح السياسي إلى الشراكة ضمن الأفق والمشروع المحلي.
1- طموح الدولة: الهيمنة وإلغاء المحلي
لا يشكل إلغاء البعد المحلي للمجتمعات وتهميشه فكرة غريبة عن التيار السلفي الجهادي, بل بقيت هذه المسألة محل تنازع وصراع بين التيارات, بدءاً من أيام الجهاد الأفغاني, حيث كان يدعو الشيخ عبدالله عزام إلى عدم التدخل في الشؤون المحلية للأفغان بينما كان هناك من يدعو للمشاركة في الصراعات المحلية, وبعيداً عن تمظهر هذه النزعة في الصراع ما بين الجماعات, فإنها تظهر في عمق تصور الدولة الإسلامية أيضاً, والتي يصبح إلغاء الحدود فيها إلغاءً لما تتضمنه هذه الحدود من ثقافات أو من سكان ذوي إرادة أو مرجعية في الحكم أيضاً, فيُبنى تصور لشكل ما من الدولة والتدين المنتميين لثقافة الجماعة الجهادية لتعمّم وتعتبر التصور الأمثل والوحيد, وهذه حالة تشهد تكراراً, وإن كانت تجلت في الحالة السورية مع تنظيم دولة العراق والشام (داعش).
تشكل مصادمة البعد المحلي ومحاولة تهميشه أو تذويبه خاصة ضمن المناطق التي قامت فيها الثورة بناءً على هذا البعد المحلي وما يتضمنه من قيم التراحم و”الفزعة” العشائرية والريفية, إعادة لموضعة “المهاجرين” في هذه الجماعة كسلطة غريبة مقابلة للمجتمع ومعادية له بالضرورة, هذا يمتد إلى نمط التدين الذي يشهد صراعاً على السلطة الرمزية موازياً للصراع على السلطة الميدانية.
ويمكن في هذا السياق تفهم عدم قدرة التنظيم على التمدد لفترة طويلة ضمن المناطق ذات النسيج العشائري الصلب “والمسلح”, وقدرته على الاستقرار أكثر ضمن مراكز المدن التي تعتاد وجود السلطة كجسد غريب عن المجتمع المفكك بطبيعته.
ولئن كان التجلي النهائي لهذا النمط من العلاقة كان مع تنظيم الدولة, فإنه لا يمكن اختزال وجود هذه النزعة للتعامل مع الحالة السورية فيه, حيث يمكن أن نلاحظ تيارا ضمن المنظرين الجهاديين العرب في محاولة تهميش هذا البعد المحلي وإبراز الأولوية للعنصر المهاجر والبعد الأممي للدولة اللاقطرية التي عليها أن تقوم.
2- اندماج الأبعاد
تمثل جبهة النصرة مثالاً نموذجيّاً على ما يدعوه الباحث حسن أبو هنية “اندماج الأبعاد” التي تمثل حسب رأيه الولادة الثالثة للقاعدة, حيث يندمج هنا البعدان المحلي والمعولم ضمن الحركة نفسها, والتي تشهد نوعاً من الشراكة “العضوية” على مستوى القيادات والمدربين والمقاتلين ما بين المهاجرين والسوريين, و وعي هذين البعدين في بنية الحركة وخطابها ولكن ضمن مشروعها الميداني “الوطني” –مرحليّاً- حيث تتصالح هنا المرجعية القاعدية العالمية مع التحالف المكثف مع الكتائب السلفية المحلية, كما يتصالح الانتماء المحقق لمشروع الجهاد العالمي مع المشاركة في نقاشات المسقتبل السياسي للدولة السورية.
ويسهم التمايز الايديولوجي عن تنظيم الدولة ومساحة من المرونة الشرعية والتقدير للواقع أو “للمصلحة” في هذا التمايز في طبيعة التمدد والانتشار والمشروع المستقبلي.
3- النصرة المستقلة
وفرت الساحة الجهادية العالمية مسارات متعددة إلى جانب القاعدة تاريخيّا, ويمكن قراءة هذا الحضور للسلفية الجهادي ذات البعد المعولم والذي لم يبايع القاعدة أو هو مختلف فكريّاً معها –كما مع تنظيم الدولة- ضمن الحالة السورية, حيث يلاحظ وجود مجموعات للمهاجرين ابتعدت عن الانخراط في أي نقاش سياسي أو إداري مكتفيةً بدورها الميداني في المعارك ومساهمتها في تدريب المقاتلين, نلحظ هذا التمايز بين الاكتفاء بالدفاع وبين الطموح لحق الحكم, بين المقاتلين الشيشان مثلاً الذين انقسموا ما بين عمر الشيشاني الذي انحاز إلى طرف تنظيم الدولة, وما بين صلاح الدين الشيشاني الذي أعلن انشقاقه في تشرين الثاني 2013م مع كتلة كبيرة من “جيش المهاجرين والأنصار” بعد مبايعة عمر الشيشاني, لتنحاز المرجعية الرسمية للمقاتلين القوقاز إلى “صلاح الدين الشيشاني” معلنةً أن هدف المقاتلين “الدفاع عن المسلمين” وليس لإقامة إمارة عليهم.
تمثل جند الأقصى وأميرها أبو عبدالعزيز القطري أحد الأمثلة الأهم لهذا النمط من العلاقة, حيث شارك أبو عبد العزيز القطري في تدريب الكثير من الكتائب الإسلامية السورية, ومن ضمنها أحرار الشام وجبهة النصرة أيضاً, عدا عن استشهاد ابنه “تراب” في المعارك في سوريا من قبل, كما شاركت جند الأقصى في معارك ريف حماة وريف إدلب, قبيل اختفاء قائد جند الأقصى بعد أيام من القتال مع تنظيم الدولة, حيث اتهم وقتها جمال معروف قائد جبهة ثوار سوريا باغتياله, الاتهام الذي نفاه جمال معروف بدوره.
وكان الإعلان عن استشهاد “أبو عبد العزيز القطري” ثم إعلان جند الأقصى عن عدم التأكد من استشهاده, قد أثار موجة واسعة من الحزن والمراثي داخل التيار الجهادي والمجموعات السلفية التي عبر كثير من قياداتها عما يدينون به للشيخ “محمد يوسف العثمان” الشخصية الجهادية الملهمة لهم, والتي لها تاريخ طويل في التيار الجهادي, عدا عن مساهمته في تدريب العناصر من المجموعات المختلفة, فيما استغل تنظيم الدولة الحادثة ليؤكد من جديد أن المستهدف من الحرب عليه هو “المهاجرون” عامة.
وفي كانون الثاني 2014 أعلن “تحالف المهاجرين والأنصار” الذي يضم إلى جانب جند الأقصى لواء الأمة ولواء الحق في إدلب ولواء عمر, فيما يظهر تعاوناً بين المهاجرين والسوريين لتجاوز الاحتقان الذي سببه القتال مع داعش, وفي عودة إلى نمط جبهة النصرة القريب من هذا النمط.
كما يمكن تتبع تحولات مجموعات مثل الكتيبة الخضراء وصقور العز وشام الإسلام, وعلاقاتها بالكتائب المحلية والقاعدة ورؤيتها لمشاركتها في السلطة كنماذج لهذه العلاقة, (وإن كانت كثير منها انتقلت إلى جبهة النصرة).
4- المشاركة ضمن أفق المحلي
شارك المهاجرون كشرعين ومدربين ومقاتلين مع كتائب الجيش الحر ذات التوجه الإسلامي, والتي انتقلت إلى مجموعات ذات ايديولوجيا إسلامية واضحة مع تطور الحرب, وتمثل الجبهة الإسلامية وفصائلها المثال النموذجي لهذه العلاقة, حيث يشارك المهاجرون ضمن المشاريع ذات الطابع المحلي دون مصادمتها أو إلغاء الطابع المحلي لها, في شكل آخر “للنصرة” ولكن بالانضواء في مشروع محلي وليس بالاستقلال عنه, حيث لا يحضر الشعور بالإشكال أوالجدل في هذه العلاقة المتفاهم فيها على طيبعة المشروع وحدوده وطبيعة الدعم اللازم له, والتي يسهم التقارب و”الاعتدال” الآيديولوجي أكثر في مرونتها.
ومع الحرب التي نشبت ضد تنظيم الدولة في 3 كانون الثاني 2014م, ومحاولة تنظيم الدولة تصوير الحرب كحرب ضد المهاجرين لكسبهم إلى صفوفها, حرصت الجبهة الإسلامية من خلال بياناتها الأولى على إظهار حرصها على المهاجرين وتكفلها بحمايتهم, وعلى إظهار وجود القيادات والشرعيين في صفوفها من بينهم, كما أطلقت حملة بعنوان “أنا مجاهد مع الجبهة الإسلامية” أظهرت فيها عشرات المقاتلين من جنسيات مختلفة موجودين بين صفوفها.
خلاصة
أظهرت الحرب مع تنظيم الدولة تجاذبات العلاقة مع المهاجرين والتيارات المختلفة داخل المهاجرين أنفسهم, وطبيعة التمايزات الآيديولوجية داخل التيار الجهادي العالمي عامة, و”مجتمع المهاجرين” خاصة, كما أظهرت إمكانية اللعب على هذا الوتر في إذكاء الاستقطابات من الناحيتين, وأن كلّ محاولة لإلغاء البعد المحلي للصراع والمجتمع في سوريا ومحاولة تجاوزه تؤسس لصراع مشابه للصراع مع سلطة الأسد كنظام احتلال أيضاً, كما أن رفض وجود المهاجرين “السنة” في سوريا بالمطلق يتجاوز عن واقع الصراع الإقليمي الموسع في سوريا, مع التهميش المتعمد والمستمر من قبل المجتمع الدولي ومراكز الدراسات الغربية والإعلام العالمي لدور جسر الإمداد الشيعي الإقليمي المساند لنظام الأسد.
ومع التأكيد على تأثير “المهاجرين” الإيجابي بالنسبة للثوار في كثير من المعارك, فإن استقراء أنماط العلاقة المختلفة بين المهاجرين والبعد المحلي (الاجتماعي -السياسي) في سوريا, تؤكد على إمكانية تحول هذه العلاقة إلى محرقة مشتركة عند تهميش هذا البعد ومحاولة تجاوزه على المستوى الميداني أو الآيديولوجي من خلال مصادمة وتجريم أنماط التدين السائدة شعبيّاً, وأن ترسيم العلاقة بحيث تكون “النصرة” (بالمعنى الواسع وليس المقصود جبهة النصرة) والانتماء إلى “الأمة” هي القيم الجامعة والتي ترسم حدود العلاقة ومجالاتها وأولوياتها, يمكن أن تشكل صمام أمان مستقبليّاً ضد حدوث استقطاب أو تراكم احتقان يمكن أن يؤدي إلى صدامات ميدانية أو آيديولوجية مؤثرة –بشكل إيجابي بالنسبة للأسد وسلبي بالنسبة للثوار- على الصراع الأساس والطويل والأعنف في سوريا التي تكرّس دوليّاً وإقليميّاً لتكون محرقة مستدامة.
زمان الوصل 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.