الإخوان السوريون والدور المرتبك

فاجأت الثورة السورية الإخوان المسلمين كما فاجأت سواهم، من الإسلاميين خاصة والسوريين عامة, وارتبكت ردود فعل الإخوان المسلمين إزاء هذا الحراك الشعبي منذ البداية، بسبب تآكل الجماعة وضعفها مع طول لبثها في المنافي وتقديمها مبادرات عدة للتفاوض مع النظام أو إعادة العلاقات معه مُنيت جميعاً بالفشل، وبسبب انقطاعها بحكم المنفى عن بناء قاعدة شعبية موجّهة لرأي الجماعة أو موجّهة به ضمن المجتمع السوري، عدا عن الخلافات الداخلية التي أحالت الإخوان إلى عدة جماعات مناطقية محدودة العدد وغير متجددة الدماء عبر سنين طويلة.
ومن ناحية أخرى امتلك الإخوان أوراق قوة تتمثل في ضعف المعارضة السياسية السورية عامة, وكونها الجسد السياسي الأكثر تنظيماً وتماسكاً نسبيّاً، إضافة إلى تقديمها مشروعاً سياسيا متقدّماً عام 2006م يتبنى مفاهيم الدولة المدنية والديمقراطية والتعددية, ما أتاح إمكانية التعامل معه من قبل العلمانيين أو الغرب وكونهم الإسلاميين الوحيدين الممتلكين لخطاب سياسي ناجز في الساحة السورية, عدا عن المظلومية التاريخية التي أتاحت لهم قدراً من التعاطف الشعبي العام.
وأمام كثرة الأقوال عن دور الإخوان السوريين في الثورة السورية، مع إعادة إنتاج سردية الثورة أيديولوجيّاً باستمرار، يتكلم المقال عن دور الإخوان السوريين في الثورة السورية عامة، والثورة المسلحة خاصة.
السلاح والدعم القلق
رغم إنكار الإخوان المسلمين المعلن لمسؤوليتهم عن أي حركة مقاتلة، إلا أن طغيان الطابع المسلح على الثورة السورية وكونه أضحى يمثل شرعيتها الميدانية الأولى، لم يكن ممكناً لأي جماعة تريد التأثير والتمثيل في الثورة أن تعزل نفسها عن الحراك المسلح.
مع سعيهم السياسي الدؤوب ضمن المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني ثم بتأسيس حزب “وعد”، حاول الإخوان المسلمون عدم الدخول في الحراك المسلح بشكل معلن, ونلحظ نتيجة ذلك ارتباكاً في التعامل مع هذا الحراك، فمن ناحية يعي الإخوان عدم انفصال السياسي عما هو عسكري في حالة الحرب, ومن ناحية أخرى يتخوفون من خطورة تحمل مسؤولية حراك مسلح، وأضاف إلى هذا الارتباك التمدد السلفي الطاغي داخل المجموعات المسلحة ما يهدد شرعية الإخوان السياسية والميدانية والقاعدة الشعبية التي يرجون تأييدها مستقبلاً، هذا الارتباك يظهر من خلال اختلاف أشكال حضور الإخوان ضمن الحراك المسلح, على ثلاثة مستويات:
أولاً: أجساد عسكرية ساهم الإخوان في تأسيسها منذ البداية (نلحظ حضور قيادات الجماعة في إعلان التأسيس) لتظهر كذراع مسلح للجماعة ضمنياً مع إنكار الجماعة والأجساد العسكرية المشترك لوجود أي علاقة تنظيمية إلزامية بينهما، العلاقة التي يبدو أن الجماعة لم تستطع أو لم تحاول تأسيسها كذلك، وهذا ينطبق على:
                 هيئة حماية المدنيين: كانت الهيئة ضمن التحالفات العسكرية الأولى في الثورة السورية والتي طمحت إلى انتشار “وطني” لا محض محلي مناطقي وإن كان وجودها تركز في حمص والشمال, وتأسست في 15 كانون الأول 2011 بحضور قيادات الجماعة، وظهر اسم المؤسس د.هيثم رحمة كمنسق عام للهيئة، وأظهرت الهيئة طرحاً متقدماً في وقته بتبنيها أهدافاً ومهمات إغاثية ومدنية إضافة لمشروعها العسكري القائم على ضباط منشقين والطامح لمنع فوضى السلاح و”الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية”، وتأكيدها كونها جزءاً من الجيش الحر، مع نفي الهيئة والإخوان المشترك لوجود علاقة تنظيمية أو تمثيلية بينهما، ويبدو أن علاقة الهيئة مع الإخوان المسلمين قد مرت بمراحل من الخلافات والضعف ازدادت مع الوقت.
وفي آذار الحالي أعلن عن تشكيل “فيلق الشام” الذي ضم الكثير من التشكيلات التي كانت منضوية تحت اسم “هيئة حماية المدنيين”.
-هيئة دروع الثورة: تأسست الهيئة في 21 كانون الأول 2012, برئاسة العميد أركان أحمد سامي حمزة, وبحضور المراقب العام للإخوان أحمد رياض الشقفة ونائبه فاروق طيفور الذي صرح وقتها إن الهيئة ذراع مسلح للجماعة، لم يلبث الشقفة أن استدرك هذه “الهفوة” بتصريح ينفي فيه تبعية الهيئة للجماعة, وكونها هيئة مستقلة عن الجماعة ولكن الكثير من قادة كتائبها ينتمون إلى مدرسة الإخوان ومشروعهم, الانتماء الذي أكدت عليه بيانات الهيئة نفسها التي ترى في مدرسة الإخوان المسلمين أنها أفضل مدرسة فكرية يمكن أن تنهض بسوريا وتحافظ على فسيفسائها وتنوعها. ويمكن القول إنها تستقي رؤاها لمستقبل سوريا من فكر هذه المدرسة، فيما يبدو أن هذه العلاقة مع الجماعة كانت أوثق من هيئة حماية المدنيين على المستوى المعلن, وإن كانت الكتائب وعناصرها ميدانيّاً قد يكون لديهم نوع من المرونة الايديولوجية مقابل الأولوية الميدانية في تلقي الدعم العسكري.
وفي الهيئتين نلحظ سمات مشتركة، في الخطاب السياسي الذي يتبنى الطرح الوطني الديمقراطي بمرجعية الإسلام المعتدل, وفي البنية العسكرية التي تعتمد على ضباط منشقين وتؤكد انتماءها إلى الجيش الحر وتأييدها للمجالس السياسية للمعارضة، ولكننا نلحظ في الوقت نفسه عدم التبعية التنظيمية للجماعة، وضعف الانتماء الايديولوجي الصلب لفكرها ميدانيّاً مقابل التأكيد الظاهري لهذا الانتماء.
ويندرج في هذا الخط بعض الكتائب التي أسسها قياديون إخوانيون عادوا خلال الثورة لهذا الغرض، مثل لواء شهداء اليرموك في درعا.
ثانياً: حضور مدرسة الإخوان كمرجعية فكرية ورمزية لدى مجموعات مقاتلة بمعزل عن انتمائها أو تنسيقها لجماعة الإخوان السياسية بالضرورة، مع التأكيد أن وصف مجموعات مقاتلة في بعض المناطق بكونها من الإخوان قد يتأتى من قبل الآخرين، بسبب تبنيها خطاباً إسلاميا –غير سلفي- في معظم الأحيان, نلحظ هذا الحضور في الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، و”كتائب شباب الهدى” منه خاصة, مع ارتباط هذا التصنيف بالاستقطاب الفكري (والذي قد يصبح ميدانياً أحياناً) ما بين طرفي القوة في ريف دمشق: جيش الإسلام والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام.
ثالثاً: دعم الجماعة لمجموعات محلية أقرب لنمط التدين الشعبي ولا تمتلك خطاباً أيديولوجيا ناجزاً, وإن كانت تعتمد السمت الإسلامي المتمايز عن التيار السلفي، مثل لواء التوحيد وجيش المجاهدين في حلب ولواء المعتز في درعا وكثير من المجموعات المحلية التي تعاملت معها الجماعة، مع ملاحظة تلقي هذه المجموعات دعماً متعدد الجهات، وأن التحالفات الميدانية لها دور محوري في قرب هذه المجموعات من الإخوان أو بعدها عنهم، باعتبار “مرونة الايديولوجي مقابل أولوية الميداني” الملاحظة لدى المجموعات المحلية، المرونة التي تتأثر بطبيعة الحال بمدى اعتماد المجموعات الأخرى على الخطاب الايديولوجي أيضاً، ما يصنع “سوق تنافس ايديولوجي” يزداد المشتركون فيه باستمرار مع الوقت.
ايديولوجيات الجهاد: الخطاب الغائب
مع تطور الثورة السورية إلى حرب مسلحة طويلة, وطغيان الطابع المسلح عليها، ازداد الطلب على الخطابات الجهادية الأقدر على توفير حاضن فكري ورمزي للمقاتلين في حرب مغلقة الأفق ومفتوحة على احتمالات الموت العنيف، وكان إجهاض ثورة الإخوان في الثمانينيات قد استتبع من قبل السلطة وأد الإسلام الحركي عامة، وترسيم العلاقة مع المؤسسة الدينية بأن تقتصر على الإسلام الشعائري, وكان إنكار الإخوان المسلمين لمسؤوليتهم عن تجربة الطليعة المقاتلة إجهاضاً ذاتيّاً لإنتاج هذا الخطاب الجهادي, مع سيطرة الخطاب السياسي على الإخوان حتى ما قبل الثورة، وما بعدها.
نتيجة ذلك كانت السلفية التيار الوحيد الذي قدم خطاباً جهاديّاً، في ظل غياب خطاب الإخوان الجهادي ومحاولتهم إنكار دخولهم في العمل المسلح للحفاظ على علاقاتهم الدبلوماسية محض سياسية بعيدة عن الاتهامات، وغياب خطاب المؤسسة الدينية التقليدية رغم مشاركة رموز منها في هذه الثورة المسلحة.
ومع عدم سعي الإخوان المسلمين لامتلاك ذراع مسلح معلن وصريح في انتمائه للجماعة، وعدم تركيزهم على الجانب الفكري والتنظيري لتبني خطاب جهادي في مقابل الغرق في السياسي وتبني خطابات أكثر ليبرالية مما يسمح واقع المعركة, فإن الحضور الميداني –والحقيقي- لمشروع الجماعة وخطابها سيبقى غائباً عن التأثير أو التنافس مع الخطابات الايديولوجية الفاعلة, والسلفية في غالبها.
ونتيجة هذا الارتباك، إضافة لبيئة الثورة السورية ومأساتها التي تشجع على انتشار اتهامات الخيانة والتسبب بالهزائم، يبدو أن الإخوان المسلمين لم يخسروا التعاطف الشعبي وحسب، بقدر ما بدؤوا يخسرون أوراقهم على المستوى السياسي كذلك, دون تحقيق انتشار/انتصار ثابت ومعلن باسمهم على المستوى الميداني، فيما يبدو أن القاعدة الشعبية التي كان يمكن لها أن تحمل مشروع الجماعة في انحسار متزايد رغم محاولات الإنعاش على السطح والتي لم تنطلق من داخل الواقع المسلح والميداني وضروراته النظرية قبل العملية.
زمان الوصل 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.