تعقيباً على مقال السفير الهولندي فان دام حول الحل في سوريا

د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني
الدكتور كمال اللبواني

في مقال للسفير الهولندي السابق في عدة دول عربية، ومنها سوريا، نشرته صحيفة الدستور الأردنية

يقدّم السفير رؤيته للحل في سوريا، والتي تقول ضمناً إنه يجب الاعتراف بانتصار الأسد والعودة للحوار معه، وهو ما تتبناه الدول العربية، وتعزّز وجهة نظرها برأي هذا السفير المخضرم، الذي يجيد اللغة العربية، وسبق له أن ألف كتاباً عن الصراع على سوريا.

نحب هنا أن نناقش بعض الأفكار التي بنى عليها مقاله، والتي من وجهة نظرنا تشكل المنظور الغربي والدولي الذي تبنته الأنظمة العربية والمجتمع الدولي، في مقاربة الحل في سوريا، عبر القفز فوق جرائم النظام، وكأن شيئاً لم يحدث.

ولكي يبرر السفير جرائم النظام يبدأ حديثه عن جرائم حرب حدثت بسبب حصول هذه الحرب في أماكن تواجد المدنيين، والتي كان من الواجب توقع حدوثها، وقد ارتكبتها كل الأطراف المتحاربة على السواء، بينما يتحمل مسؤوليتها أساساً من شنّ الحرب، ومن اختار المدن كساحة لها، وفي النهاية من خسر هذه الحرب، ليصبح المنتصر فيها بريئاً من كل الجرائم ويجب الاعتراف به كمنتصر بريء من المسؤولية التي تقع فقط على من قرر التمرد على النظام السوري وأطلق هذا التمرد في المدن والحاضرات، دون حساب للتكلفة الباهظة التي سوف يدفعها المدنيون، في حين أن النظام من الطبيعي أن يدافع عن نفسه في وجه المتمردين عليه وأن يستخدم الآلة العسكرية لسحق التمرد، وهكذا لا يمكن تحميله المسؤولية عن جرائم الحرب التي ارتكبت، والتي لا يجب أن تعيق الحوار والتقارب والتطبيع معه.

وفي هذا السياق، أورد ما سبق وكتبه الكاتب الأمريكي توماس فريدمان عام ١٩٨٩ في كتابه من بيروت إلى القدس عن أحداث حماة.
في كتابه، من بيروت إلى القدس، الذي نُشر عام 1989، قال الصحفي الأمريكي توماس فريدمان إن “مذبحة حماة يمكن تبريرها لأنه يجب أن يُنظر إليها على أنها رد فعل طبيعي لشخصية سياسية تطمح إلى التحديث في دولة قومية جديدة نسبياً”. وأوضح فريدمان أن “الرئيس حافظ الأسد، والد بشار، كان يحاول درء العناصر الرجعية التي تهدف إلى تقويض كل ما حققه على طريق بناء سوريا لتكون جمهورية علمانية في القرن العشرين. لهذا السبب أيضاً، لو أن شخصاً ما قد تمكن من إجراء استطلاع موضوعي للرأي في سوريا بعد مذبحة حماة، فمن المحتمل أن تعامل الأسد مع التمرد كان سيحظى بموافقة كبيرة، حتى بين العديد من المسلمين. ربما قالوا: شهر حماة أفضل من أربعة عشر عاماً من الحرب الأهلية مثل لبنان”.

ثم يعلق قائلاً: “بعد أربعة عقود، يحكم العديد من الغربيين على سوريا بشكل مختلف تماماً. هذه المرة، أدينت المجزرة التي تماثل تلك التي وقعت في حماة بحزم. أحد أوجه التشابه بين انتفاضة الإخوان المسلمين في حماة عام 1982 وانتفاضة 2011، هو أن قوى المعارضة في كلتا الحالتين أرادت الإطاحة بنظام الأسد لكنها لم تتمكن من ذلك. الفرق الرئيسي بين الاثنتين هو أنه في عام 2011 لم تكن الانتفاضة السورية محصورة في مدينة واحدة أو مجموعة سياسية واحدة. إذ سرعان ما انتشرت في كل منطقة من مناطق البلاد، واتسع نطاق قوى المعارضة”.

ثم يضيف: “في حالة سوريا، كان من الأفضل عدم التدخل على الإطلاق. لولا التدخل العسكري الأجنبي، لكان النظام على الأرجح سيضيق الخناق على قوى المعارضة بنفس القسوة التي مارسها. لكن عدد الضحايا سيكون أقل بكثير. ربما قُتل ما بين 10 آلاف إلى 50 ألف سوري بدلاً من 500 ألف. ومن المؤكد أن عدد اللاجئين سيكون أقل، وكان من الممكن أن تنجو البلاد من مثل هذا الدمار الواسع النطاق. كان من الأفضل أن يبقى نظام الأسد في السلطة مع سقوط 10.000-50.000 قتيل، بدلاً من أن يخوض أكثر من عشر سنوات من الحرب مع سقوط أكثر من 500.000 قتيل، والبلاد في حالة خراب، و10 ملايين لاجئ، وما زال الأسد في السلطة. يجب دائماً أن يكون العدد المتوقع للضحايا جزءاً مهماً من المعادلة”.

بالعودة إلى كلمات توماس فريدمان، التي نقلتها آنفاً: «شهر حماة أفضل من أربعة عشر عاماً من الحرب الأهلية مثل لبنان». يجب أن تقرأ هذه الكلمات عند تطبيقها على سوريا الحالية كما يلي: «عام من الصراع الدموي الشديد أفضل من عشر سنوات من الحرب الدامية مع عدم وجود حل سياسي في الأفق». كلما طال الصراع، زادت صعوبة رؤية المخرج أو الحل. فالحلول التي كانت عمليةً بعد عام من اندلاع الثورة السورية، لم تعد عمليةً فيما بعد. مع تصاعد حدّة العنف وتفاقم الدمار في المجتمع السوري، تضاءلت فرص وقف الحرب.

ويختتم: “في الختام، وكما يقول المثل القديم: لا تبدأ حرباً إلا إذا كنت قادراً على الفوز بها. هذا ينطبق بشكل خاصّ على الحرب التي تنطوي على مخاطر عالية لسفك الدماء على نطاق واسع، كما كان متوقعاً في الحالة السورية. إن الجانب الذي فشل في تحقيق أهدافه -مهما كانت مثالية وإيجابية- يتحمل مسؤولية النتائج الدموية، تماماً مثل الجانب الذي أحبط الثورة. في النهاية، المهم هو النتائج لا ما يسمى بالنوايا الحسنة التي أدّت إلى تلك النتائج. كان ينبغي حساب تكاليف الهزيمة جيداً قبل الانخراط عسكرياً في الصراع، لا سيما مع احتمال وقوع الآلاف من جرائم الحرب. إن قول هذا أسهل من فعله بالطبع. يجب الاستنتاج أن جميع الأطراف الرئيسة في الحرب السورية مسؤولة عن جرائم حرب، بعضها بالوكالة، وبعضها بشكل مباشر، وبعضها أكثر من البعض الآخر. في سوريا على وجه التحديد، يعد ارتكاب جرائم الحرب مسؤولية مشتركة”.

هكذا نرى كيف ينكر هذا العقل حق الشعب السوري في اختيار نظامه، وفي مقاومة الاستبداد، ويتم التغاضي كاملاً عن ثورة الشعب في حاراته ومدنه ضد الطغيان والقهر والتسلّط، ويعتبر ذلك مجرد شنّ حرب طائشة في مناطق المدنيين قام بها تنظيم الإخوان المسلمين (وينسى أنهم بشكل ما صنيعة الغرب ذاته)، متناسياً أن هؤلاء المدنيين هم من أطلق الثورة وأصرّ على مقاومة البطش، بينما لا يتطرق لقيام السلطة والجيش والأمن بخرق أبسط واجباتهم في حماية الشعب وتحولهم لقوة بطش شنّت حربها على المدن والحاضرات وقتلت وشردت نصف سكان سوريا ودمرتها ، يصبح الشعب في نظره هو من يتحمل مسؤولية جرائم الحرب التي وقعت بحقه من قبل سلطة غاشمة.

في أوربا حادث تعذيب واحد يتسبب بسقوط السلطة، بينما في العالم الإسلامي قتل وتعذيب وتشريد نصف السكان، أمر عادي ويجب توقعه إذا أرادوا إسقاط نظام أقلوي طائفي اعتمده الغرب بدلاً عن جيوش الاستعمار، ولا يجوز أن يسقط.

إنه العقل التاريخي الصليبي المعادي للإسلام والمحتقر للعنصر الآخر، والفوقية الاستعمارية ذاتها، التي تخفي عنصرية مترقية أصبحت قريبة من استلام السلطة في معظم أوروبا، وهو التبرير الكافي لكل منظمات العنف والتطرف الإسلامي لشن هجماتها الحاقدة على الغرب.. إن هذا العقل هو الوجه الآخر للقاعدة وداعش، وهو المسؤول عن وجودها.

شكراً “نيكولاس فان دام” على هذا المقال الذي نعتبره وثيقة تاريخية ستحاكم عليها في يوم قادم، إن شاء الله.



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.