في العلاقة الملتبسة بين دمشق وحزب «البعث»..

مرت الذكرى لميلاد «حزب البعث» هذا العام، لتتكشف أكثر مكنونات العلاقة الملتبسة التي تجمع هذا الحزب مع مدينة دمشق. فبعد ثلاث سنوات من القصف والتهجير والتدمير لبعض أحياء دمشق وريفها، يظهر جلياً عجز منظومة الحكم العسكرية والأمنية في الإستحواذ على روح المدينة وكينونتها، رغم تعاطيها الهمجي مع الفضاء المدني خلال مسيرة نصف قرن من الحكم. 

المدينة التي يفترض أنها عاصمة «البعثيين»، والمتميزة ببعض فئاتها الإجتماعية «المحافظة»، كانت أكثر ثراء وحيوية من الايديولوجية البعثية المنغلقة والمنفعلة، ذلك أن «البعث» ومنذ إنقلابه العسكري والاستحواذ على السلطة عام ، افتقد لمشروع الدولة المنسجمة مع مكوناتها المختلفة، حيث اقتصر مشروعه الحقيقي على الاستثمار في السلطة ومركزيتها، والاهتمام بسياسة إدارة الخضوع، عبر الاحتفاظ بالبنى الأهلية وتناقضاتها. سياسة انعكست على دمشق بظهور التمايز الطائفي والعرقي لكل حي. المزة وعش الورور«علوية»، ركن دين وجبل الرز «كردية»، جرمانا وصحنايا «درزية»، دويلعة وباب توما « مسيحية».

تلك الجغرافيا الطائفية حرمت المدينة من زخمها المدني، وبالتالي تحولها إلى قاعدة مجتمع سياسي فاعل، فعلى الرغم من سنوات الإستقرار الأمني الظاهر لحكم البعثيين لمدينة دمشق، إلا أن هواجس عدم الاستقرار والطمأنينة كانت تجد طريقها إلى كينونة المدينة ومستقبلها، فـ»البعث» كان يركز وبشكل مستمر على آنية دولته «القطرية» وزوالها، لصالح دولة الوحدة المستقبلية، مغيباً بذلك الحاضر وكل استحقاقاته عن أجندة «رسالته الخالدة»، مثلما كان نهج المصادرة والإستملاك يلعب دوراً مهما في هذا الاتجاه، بكونه أحد خيارات البعث في قضم المدينة وأطرافها، إذ تحولت الكثير من الأملاك والمزارع والمساكن إلى رجالات النظام وأعوانه، تحت يافطة «المصلحة العامة» و»التحول الاشتراكي»!

كانت سياسة البعث مع دمشق، تختصر في تشريد المكان عن كينونته، وتجريد المدينة من آليات التراكم الحضاري والمدني، بتحويلها إلى قرية كبيرة، تنصاع في جوهرها لسلطة المال وللمنطق الذهني في الاستحواذ عليها كغنيمة، حيث الوعي الريفي وقيمه المرافقة هي الركيزة الأقوى في البقاء على مستوى التواتر والإنفعال المذهبي. 

تاريخيا، كان تعامل «البعث» مع دمشق، يشوبه الكثير من الاحتقار، والقليل من الاحترام. فالمدينة لم تستقبل انقلابهم العسكري عام 1963 استقبال الفاتحين الأبطال، بل أن مقاطعة الدمشقيين لهذا الحزب، أدت في عام 1964 – حيث لم يتجاوز عدد الدمشقيين الـ عضوا من اصل عضو «بالحرس القومي البعثي» في العاصمة – إلى توقف نشاطات الحزب في المدينة. ولم يستدرك هذا الاستعصاء إلا مع بداية عام 1965 ، حين قررت «القيادة القطرية السورية» لحزب «البعث» استبدال ثلاثة أعضاء «ريفيين» من قيادة «فرع دمشق» بآخرين من سكان دمشق.

منذ السنوات الأولى لحكمهم، صبغ «البعثيون» عاصمة الأمويين بألوانهم الباهتة، وذائقتهم العسكرية، واحتلوا العديد من الأبنية التراثية القديمة بالقرب من الساحات العامة، وأقاموا فيها العديد من المراكز والإدارات العسكرية، للتذكير دوماً بطبيعة السلطة وقبضتها الأمنية. 

تلك الطبيعة سيطرت على المخططات التنظيمية لدمشق، ففي بداية السبعينات من القرن الماضي، شقت الكثير من الطرق الواسعة والمتقاطعة في قلب المدينة وحولها، انطلاقا من رؤية أمنية، تمكن اللآليات العسكرية من التدخل السريع إلى وسط المدينة في حال حدوث أي طارئ أمني، ترافق ذلك مع رغبة النظام في تمتين ركائزه الاجتماعية في العاصمة، بتشجيع هجرة ابناء الأرياف الموالية إلى المدينة، مشكلين العامود الفقري في الجهاز البيروقراطي للدولة.

في نهاية الثمانينات، انعكس تحالف سلطتي الأمن والمال على واقع دمشق، بظهور الفساد كأحد آليات الاستبداد وركائزه، بعد تفريغ البرجوازية «الوطنية» من قواها الذاتية، وارتقاء الموظفين الفاسدين الكبار، وسارقي المال العام و»السماسرة الامنيون» و»رجالات العسكر»، إلى متنفذين ومشرعين للقوانين، كان أهمها قانون الاستثمار رقم / 10/ لعام 1991، الذي زاد من فاعلية القطاع الخاص (رجالات النظام) على حساب القطاع العام (الدولة)، وصولا إلى «اقتصاد السوق الاجتماعي» عام 2005 الذي سيجيز لرجالات النظام احتكار الساحة الاقتصادية، برعاية عائلية. 

عكست الاستثمارات «الحديثة» التي نفذها النظام في دمشق، الطبيعة الاستغلالية لعلاقة النظام مع عاصمته، فأغلب هذه الاستثمارات اقتصرت على مجال العقارات والفنادق والمطاعم، أملا في الحصول على الربح السريع، إلى جانب بعض المشاريع «الاعلامية» و»الأهلية» التي تغطي على نمطية الاقتصاد «المافيوي» وصفقات الفساد وغسيل الاموال.

ما يمكن قوله إن البعثيين ونظامهم، لم يضيفوا على مخطط المصمم الفرنسي لمدينة دمشق / ميشيل إيكوشار/ عام 1936، إلا العشوائيات باعتبارها تحقق أهدافاً سياسية، كرشوة اجتماعية لابناء الريف القادمين إلى المدينة. أولئك الذين دفعهم احساس الاغتراب، النابع من هواجس طائفية (سواء العلوية أو السنية)، أمام وحشة المدينة «النيوليبرالية» الهجينة، إلى النكوص، وقد لفظتهم الفئات المدنية لعدم توفر الفضاء المدني العام، القادر على إحداث الإختلاط والتجانس مع عجز الدولة في إعادة انتاج ذاتها اجتماعياً.

عسكت حالة دمشق وريفها خلال السنوات الأخيرة، طبيعة التناقض الذي تعيشه سوريا، حيث قوة الاستبداد الكفيلة باحتواء التناقضات الاجتماعية والاقتصادية وحتى المذهبية، فمن جهة تبتلع الدولة «البعثية» بعض الفئات وتذيبها في جوفها الاقتصادي الوحشي، وفي المقابل تلفظ بعض الفئات إلى الهامش وتستثمر في رأس مالهم الديني، وتجعل منهم وقودا في استغلالها السياسي لكل ما يتعلق بالارهاب ومكافحته في المنطقة، بينما تبقى الغالبية تبحث عن طريق يوصلها إلى الحياة الكريمة. لذا لم يكن مستغرباً خروج مظاهرات كبيرة من تلك الأحياء مطالبة بالحرية والكرامة، كذلك خروج بعض المتطرفين والأصوليين، بينما أخرجت أحياء فقيرة أخرى أفواجاً من «الشبيحة» لقمع التظاهرات، من منطلق إيماني عميق بدورهم الوظيفي في قمع أي تحرك يطالب بتغيير النظام أو قلبه. 

جاء ذلك نتيجة ارتهان الواقع المعيشي ومعه الرؤية الاقتصادية، لنوازع وهواجس أمنية بشكل واضح، تحكمها مصالح رجالات العسكر والمخابرات كأقطاعيين جدد، بدت دمشق خلالها، وكأنها تعيش من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، على إيقاع الاستغلال والاستلاب على يد أبناء المسؤولين، كأقلية اقتصادية تتحكم بالمال والمصائر، حيث الإنشغال الأكبر بعوالم السلطة وبنيتها، وقد ألحقت بنفسها طبقات هشة، من برجوازية هجينة شكلتها سنوات الحكم البعثي، و»طبقة تجار» متحالفة مع العسكر والقوى الأمنية، وفقراء طائفيين مستلبي الإرادة والمصير، طبقات تتناسب وتناسب حالة الإفساد العام، بربط ميكانيكية تطورها وتحركاتها مع النظام بشكل وثيق، فتحولت في زمن الثورة وتداخلت مصالحها لتشكل |طبقة السلطة العمياء|.

لكن، ومع كل ما لاقته دمشق على يد حكامها، إلا أن العابرين بافكارهم ووجدانهم للطوائف، والروابط التقليدية لمجتمعاتهم المنغلقة في كل المحافظات، وجدوا في الهامش الدمشقي المدني روح تجددهم والفسحة الأكبر للتعبير الوطني والإنساني. من وسط هؤلاء إنساب الحراك الثوري الذي أكد على أن سيطرة النظام و»بعثه» على دمشق اقتصرت على إناس يشبهون رجالات السلطة في الجشع والابتزاز، وأن دمشق اليوم تتجدد بحكايتها مع الثورة وما تبعها.

عماد مفرح مصطفى – المستقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.