في أيديولوجيا البوط العسكري

1982في التسعينات دخل رجل أعمال لبناني ثري، طامح إلى النيابة، إلى مكتب رئيس المخابرات السورية العاملة في لبنان، غازي كنعان، متلعثماً، مرتبكاً، ذليلاً، متزلفاً.. فعاجله غازي كنعان بأن رفع رجله إلى سوية حافة المكتب بوجه الطامح، قائلاً له: «ولك.. شو عم بيقولوا، صابغ شعرك على لون صباطي؟ قرّب راسك لشوف». كان غازي كنعان يريد بكل بساطة إفهام «ضيفه» أن كل نائب لبناني يساوي حذاءه.

والولع بالأحذية، خصوصاً «البوط» العسكري، سمة بارزة في مخيلة النظام السوري. وهو لا يقترح على مؤيديه والخاضعين له إلا أن يكونوا «صبابيط»، أن تكون رؤوسهم مجرد أحذية. فإن لم يكونوا هكذا فهم «يفكرون» أو أن رؤوسهم تترسب فيها بعض اعتبارات الكرامة وعزة النفس. هذا ما لا يطيقه ولا يقبله. مرتبة الطاعة والخضوع يجب أن تصل إلى مستوى النعل.. الإنبطاح على التراب والإنمحاق حتى الوحل. كل من يأبى ذلك هو مشروع خائن ومنشق وعميل يستحق المعس .. بالصباط طبعاً.

يمكن القول أن بنية النظام قائمة بأكملها على ترتيب حذائيّ. ففي «سوريا الأسد» الجيش هو ثلاثة أرباع الدولة وميزانيتها، ومحور الحياة العامة من الشارع إلى المدرسة إلى السلطة، بل هو المؤسسة الوحيدة فعلياً في المجتمع. هذا الجيش يعتنق عقيدة عسكرية موروثة عن الستالينية (بعد إضافة تشويهات «بعثية» عليها): كل جندي هو مجرد حذاء في قدم الضابط، وحياته لا تساوي حبة بطاطا، أو سعر رصاصة. الضابط نفسه سرعان ما يتحول إلى حذاء في قدم ضابط أعلى رتبة منه. وهذا الأخير بدوره هو حذاء في قدم ضابط من المخابرات، الذي يكون أيضاً حذاء في قدم ضابط آخر.. إلى آخر السلسلة. من يجرؤ على رفض هذا المصير يكون عقابه الموت. غازي كنعان بذاته، عندما رفض أن يكون حذاء ينتعله بشار الأسد، تم تدبير «انتحاره» على عجل. 

في وقائع خروج الشعب السوري على نظامه، أن الشبيحة ورجال المخابرات، غالباً ما عمدوا إلى «التعذيب» بضرب المعتقلين بالجزمات العسكرية رداً على مطلب الحرية. يمددونهم على الأرض ويقفزون على أجسادهم دعساً صارخين: «بدك حرية؟ هاي هي الحرية» أي المعس بالجزمة العسكرية. كأن الصراع في سوريا يمكن اختصاره بين اقتراحين: أفق الحرية وأفق البوط العسكري. لا حل ثالثاً يقبل به هذا النظام.

حين انتشرت هذه الوقائع المصورة، وبظننا أن هذا «يفضح» النظام ويحرجه، عمد النظام إلى التأكيد على تلك الوقائع، بل شجع على نشرها على أوسع نطاق، بل إنه احتفل بصفته هذه كمعتنق لأيديولوجيا الحذاء. رفع النظام البوط العسكري إلى سوية «رمز الدولة»، وحوله إلى «أيقونة السلطة». 

هكذا، انتشر بين الجماعات الموالية له شعار البوط العسكري تعبيراً عن الولاء، وتعبيراً عن أن مستقبل سوريا، حسب إرادة هذا النظام، إما التدمير التام وإزالتها من الوجود وإما ليس فقط الخضوع لهذا البوط.. بل أن يقبل السوريون أن تكون رؤوسهم مجرد أحذية. من أجل ذلك، وبعد أن رأينا أولاً جموع الموالين يسجدون على الأرض، يقبّلون صورة بشار الأسد.. صرنا نرى تلك الجموع تضع بوطاً عسكرياً على رأسها وتقبّله، بكل رضى وعن طيب خاطر.

ارتفع البوط نصباً تذكارياً (كما توضح الصورة) بمناسبة «ميلاد حزب البعث العربي الإشتراكي». أي بمعنى آخر، تم الإعلان رسمياً عن اختزال الحزب الحاكم، بل واختزال صورة السلطة والسياسة كلها في هذا النصب التذكاري. فبعد تحطيم وإسقاط تماثيل حافظ الأسد وصور بشار الأسد، يبدو أن النظام وجد بديلاً لها في تنصيب الأحذية، ربما تجنباً للإهانة التي قد تتعرض لها تماثيل الأب وصور الإبن، وبالتأكيد من أجل رد تلك الإهانات، التي لحقت بالأنصاب سابقة، بإهانات مضاعفة للشعب السوري بأسره: وضع البوط العسكري فوق سوريا كلها. 

وإذا وسعنا مجال الرؤية، يتضح أن منظومة «الممانعة» برمتها شغوفة بأيديولوجيا الأحذية، إذ درجت منذ العام 2006 بين صفوف الموالين لـ «حزب الله» عبارة «صرماية السيد» (حسن نصرالله). وهؤلاء يرددون دوماً أنهم فداء لتلك الصرماية، بأرواحهم وبأرواح أبنائهم وأموالهم وأملاكهم. وقسموا اللبنانيين قسمتين: من جهة، الذين يرتضون افتداء أنفسهم وافتداء البلد كله لصرماية السيد، وهم «أشرف الناس». ومن جهة ثانية، الذين يرفضون ذلك، وهم الخونة والعملاء والمتخاذلين.

تبعاً لهذه القناعة، تكون «الممانعة»، التي طالما ادعت أنها منذورة لـ «صون كرامة الأمة وشرفها»، قد عبرت خير تعبير عن مفهومها للكرامة. لذا، على الأرجح، في «الإنتخابات» الرئاسية السورية المقبلة، سيضاف إلى تقليد الإقتراع بالدم، شعيرة رفع البوط العسكري بوصفه هو الرئيس الأوحد لـ»سوريا الأسد». وهكذا، تكون «الممانعة» قد أضافت إلى تاريخ الإستبداد بعداً جديداً يتخطى «عبادة الشخص» إلى «عبادة الحذاء».

يوسف بزي – المستقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.