يثب

المثقف بين الحكاية والواقع

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يفوت الكثيرين أن المثقفين السوريين  تنطحوا للشأن السياسي العام نظرا لغياب طبقة السياسيين بسبب اقفال الحياة السياسية التاريخي فيها ، لذلك تجد المثقف ، والشيخ والعسكري والأكاديمي ، ورجل الأعمال كلهم يخبصون في السياسة ، ويمارسونها بنفس منطقهم وعقلهم الذي يتبع خبراتهم ، فرجل الأعمال يحولها لبزنس ، والأكاديمي يحولها لدرس وتثقيف ، والعسكري يحولها لأوامر وتوجيهات ، ورجل الدين لخطبة وعظة ، أما المثقف فيحولها لحكاية ولوحة فنية … ولكن السياسة كسياسة هي شيء غير موجود في المعارضة السورية بحسب تقرير منظمة الأزمات العالمية التي عنونت تقريرها عن المعارضة السورية ( كل شيء ما عدا السياسة )

كنت أستمع لمقابلة الاستاذ ميشيل كيلو على برنامج الذاكرة السياسية في العربية مساء 13/6/2014، فشعرت أنني أسمع حكاية عاطفية قيمية فيها مزيج فني لطيف بين السياسة والانسان والتاريخ ..  وبحضور والقاء الأستاذ ميشيل كانت بكل تأكيد أمتع من البرامج الأخرى الخشبية الصفة ..

لكن ما استوقفني موضوع مهم قد يفوت المتلقي  .. هو الفارق بين القصة والحقيقية ..  القصة هي سرد مبرمج ومنظم وفني لأحداث منطقية وليست حقيقية بذاتها،  ولا بحجومها ونسبها ، بل بغاياتها وحكمتها . ففي المشهد الافتراضي التخيلي الفني يتحرك الزمان بحرية ، والمكان أيضا ، والفاعلين يتغيرون . وكل ذلك ليس بهدف تزييف الحقيقة، بل توظيفها واختزالها بالحكمة وتسهيل نقلها لعقل وضمير المتلقي … فالحقيقة بذاتها ليست مهمة بقدر الحقيقة لذاتها ، أي توظيفها في نظام الوعي والسلوك .

وفي القرآن الكريم وردت كلمة القصص بوصف ( أحسن  وليس أصدق) :

  • (( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ))   يوسف (3)  –

فقصص القرآن الكريم ليست تاريخا ولا توثيقا ، بل هي من المتشابه ، لا تؤخذ بحرفها وحقيقتها ولكن بعبرتها وغايتها .. ولا يجوز قراءتها بهذه الطريقة  :

  • ((سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا ))  الكهف (22)  –

فنحن لا نحكم على قصة بصحيحة أو غير صحيحة ، ولا نكذب القصاص ، ولا الراوي أو الصوفي عندما يشطح ، بل نستمتع ونستفيد أو لا نستمتع ولا نستفيد ، من فنتازيا تاريخية سياسية أدبية شعرية درامية .. لا تفهم كحقيقة علمية تاريخية ..

تعليقلكن هذا المثقف عندما يوظف القصة في السياسة ،  كمن يوظف  الأدب في العلم ، هو يدخل موضوعين مختلفين في المنهج ، ويشوش المعرفة ويضلل المتلقي . وهو ما يحصل عادة عندما نستعير منطق مخصص لحقل معرفي في حقل مختلف ، فيفشل المنطق ويفشل الرجل المستعار ، وهذه سمة طاغية في المعارضة السورية وفي النظام قبلها ، الذي كان يستحضر السياسيين من الجامعات ومن الجيش …

ما لاحظته في حديث الصديق اللدود ميشيل هو سرد قصصي بامتياز … فيه استعمال قصص عن السجن وردت على لسان آخرين أيضا نسبوها اليهم ، فكأن السجن ( في الواقع) واحد كما هو في المفهوم ، وكأن كل السجناء ينزلون في زنزانة واحدة هي الزنزانة ، وأن كل السجانين في كل السجون متعاطفين مع المعارضة وعذبوا أقرباءهم ، وكأن كل سجين قديم يشاهدونه من ثقب الباب هو رياض الترك ( السجين الرمز )، الذي شاهده الكثيرون أيضا من ثقوبهم … مع أنه كان معزولا باسم سري في قبو سري عسكري ، وهو بحسب روايته لم يلتق أو يشاهد أحدا ، ولم يتعرض للتعذيب ولم يسأل ولا سؤال ولم يحاكم ، طيلة سجنه عند حافظ الأسد ،فقصص التعذيب هذه حدثت له على أيام جمال عبد الناصر أيام الوحدة السورية المصرية ..

ولم لا فالسجن هو السجن ، والسجين هو السجين ، والقصص تصلح لتجمع معا وترمز في حكاية رمزية ، فهذه هي طريقة صناعة الأساطير والشخصيات الأسطورية التاريخية ..  فالمعارض السوري الأسطوري الرمز يحق له ترميز وأسطرة معاناة المعارضة .  و هذا حلم كل عظماء المعارضة السورية الذين يظنون أن كلامهم يكفي ليرسم صورتهم الأسطورية التي هي الحلم الذي يعوضون به عذاباتهم ومعاناتهم ..

في القصص لا أهمية للفرق بين سجن المزة وفرع التحقيق وصيدنايا، ولا بين قصة سمعناها حدثت في الزنزانة لشخص ما عندما كنا نتسامر في المهجع الجماعي ، وبين تجربتنا الشخصية ..  ولا أهمية للفرق بين ما كان من المفضل أن نقوله للضباط لتكتمل كتابة قصة  البطولة ، وبين وما قلناه فعلا وندفنه في مقبرة النسيان ، أو ما نردده في كل لقاء معهم خارج السجن .. من مجاملات معهودة ، كجزء من الدماثة التي يتمتع بها القاص .

كما أن كل السجانين وكل رموز السلطة الأمنية تجتمع في مفهوم واحد ، وتجتمع في مكان وزمان واحد عند وجودنا في السجن ، وبذلك نطلع منها على أسرار الدولة لأنها كانت تمارس عملها من هناك ، لتحدث بوجودنا كل الأحداث السياسية الهامة والمفاصل التاريخية  التي سمعنا عنها فيما بعد ، لكن علينا توظيفها في سردنا لضرورة الحبكة ، فالحبكة تتطلب اجتماعهم معا ضمن كادر واحد وبشخوص قليلة كي نركز على الفكرة ، ونقتطف الحكمة والغاية ، ونقدمها للمتلقي .. الذي هو بمجرد فعل التلقي يتحول لأنثى يجب عليها أن تستوعب فكرة الذكر وتحبل بها دون تردد ولا ممانعة ..  ومن الذي سيتحقق من واقعية حدوث القصة ، طالما أن غايته الاستمتاع بها ، وطالما أن السجن مكان مظلم سري مغلق .. والسجين فيه مهما كان عاقلا يخلط فعلا بين الواقع والخيال .

كل ما سبق ظريف وجيد وممتع وإن كان فيه ادعاء بطولة ومديح للذات .. لأن الفخر من صفة الشعراء .

لكن ميشيل  رسم صورة عائلية بين المعارضة والسلطة ، فهي بحسب السرد  متداخلة أسريا واجتماعيا وشخصيا ومتشابهة التفكير والقيم ، و لم يوضح لنا ما هي الخلفية الحقيقية للمعارضة ، هل هي سياسية أم رمزية .. لم يوضح أي عامل يولد المعارضة ، سوى الرغبة المحبطة في المشاركة في السلطة ، وهذه سمة عامة أيضا في المعارضة السورية ..

لكن أن ندخل في السرد ما نسمعه  من ضباط المخابرات عن قصة تسميم حافظ الأسد من قبل الإخوان ، وكيف اعترف بذلك مسؤول عملياتهم لشخص ميشيل ، وأن الأسد قوي بدرجة استثنائية ومذهلة لدرجة مقاومة السم الذي يقتل الجمل .. فهو توظيف غير موفق ، لأنه يأتي في سياق تأليه حافظ وتبرير قمعه للمعارضة ، ولأن القوة لا تقاوم السموم ، بل الأطفال أكبر حظا بالنجاة لفعالية أجهزتهم ، ولأن مرض حافظ في الثمانينات لم يكن بسبب السم ، بل سرطان الدم الذي اكتشف فجأة وأحدث ذهولا وانهيارا عصبيا ونفسيا عند المدعو .. واضطره لجلب الخبراء ولتناول جرعات كيماوية ،وقد عاش في هذا المرض فترة طويلة لأنه كان من نوع الابيضاض النقوي المزمن ، الذي يستجيب جيدا للعلاج الكيميائي ، لكنه يتسبب في الهزالة والضعف ويحتاج لعناية طبية خاصة وهو ما استمر به حافظ حتى عُجّل له في عام 2000 ،

كما أنه ليس علينا أن نصدق أن من ارتكب فعل التسميم يدخل على حافظ اللئيم ويروي القصة له عن تسميمه ، ويخرج من عنده سالما وكأنه سمم قطة .. لأن حافظا قد أعطاه العهد ( فهو صاحب عهد ) ..  فذلك يجعل هدف القصة هو تأليه ومديح لم نعهده في حافظ الحاقد اللئيم ، الذي رد على أهالي دمشق الذين جاؤوا يشتكون تعثر الاقتصاد بسبب سياساته ( هل اشتغلت نساؤكم خدامات )  إنه  يستعمل ذات منطق عاطف نجيب ابن شقيقته، لكن الفارق هو أن سكان دمشق كانوا قد خلعوا الشماخ قبل زمن طويل من حكم حافظ ..

 فعذرا من المستمع الذي قد يفوته ضرورة التمييز بين القصة والحقيقة ، وعذرا من الأديب والفنان والكاتب والصديق ميشيل كيلو .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.