يثب

ليس … دفاعا عن ابن تيمية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

قرأت للأستاذ الشيخ محمد حبش في كلنا شركاء مقالا أخلاقيا وانسانيا  عن فتاوى التكفير ، وقد استعرض فيه مجموعة من هذه الفتاوى المختلفة المصادر والتي تبيح القتل على المذهب، وارتكاب جرائم ضد الانسانية، واعترض عليها كلها وبقوة، لكن دون أن يشرح لنا ماهي الأسباب التي دفعت بشيخ مثل ابن تيمية ليفتي بمثل تلك الفتوى الرهيبة، ومن دون أن يشرح لنا كيف تصدر مثل هذه الفتاوى، وما هي الظروف التي تحيط بصدورها، وما مدى شرعية وأحقية من يصدرها، ولا إن كانت تعتبر من الدين الواجب الاتباع (هي بالذات، أو كل فتوى بشكل عام )…

وهل يكفي أن نحكم على شيء بأنه خير أو شر، و صحيح أو خاطئ، دون أن نسأل لماذا وكيف وما نسبة الصحة وما نسبة الخطأ، وهل يوجد شر مطلق وخير مطلق … ؟؟  من صفات العقل الدوغمائي الذي يستخدم مبدأ واحدا من مبادئ العقل وهو التناقض، أن يشيطن شيء ليشرعن ويقدس نقيضه، فنحن علينا اليوم أن نشيطن داعش كرمى لعيون الكثيرين .. وحتى أن نجرم ابن تيمية تقربا بهم، و كذلك علينا أحيانا أن نشيطن اليهود لإثبات الوطنية… أما الجهاديون فيشيطنون أمريكا والديمقراطية والعلويين والشيعة ويلعنون صليب عذاب الحياة الدنيا، بل والحياة كلها …  فينغمس طرفي الصراع الدوغمائي في صراع أعمى لا نهاية له، ويضيعون فرصة المقاربة العقلية الموضوعية التي تجعلهم قادرين على تجاوز أسباب هذا الصراع، لأن هزيمة أي عدو تبدأ بهزيمة قناعته بنفسه، فهل يظن من يحاربون ( الارهاب ) اليوم أن هؤلاء الشبان الذين يذهبون للموت ليسوا ضحية ظروف قاهرة وصعبة، و ليس لديهم من المبررات ما يتوجب سماعها …

لذلك ومن أجل ألا ننغمس في المزيد من الدوغمائية المتضادة القاتلة … أحببت أن نسير معا في بعض التحليل النقدي الذي يجعل القارئ أقرب للفهم الذي يسبق الادانة القادرة على التغيير… التغيير المتبادل الذي يشمل الذات والآخر معا .. ( رابط مقال د. محمد حبش )         http://www.all4syria.info/Archive/162775

1-      في التاريخ

بداية القرن الرابع عشر   1303 اجتاحت جيوش تيمور لنك مرة أخرى مدن سوريا التي كانت تحت حكم المماليك مقلدا جده هولاكو، وكان في هذه المرة يدّعي أنه يمثل الاسلام الشيعي، وجند معه الطوائف من أهل المنطقة، والذين كانوا يشكلون غالبية جيشه، واستخدمهم لاجتياح شريط مدن السنة واستباحتها تباعا من حلب حتى القدس وغزة…. وهكذا يذكر التاريخ أن دمشق بعد أن سلمت له نفسها… كعادتها ! ( أي بخيانة زعمائها) وهي التي لم تتعود أن تسفك دما ضد أي غاز وقف على أسوارها ، بل فتحت أبوابها لهم جميعا بطريقة أو بأخرى منذ أيام الآشوريين الذين سموها (حميريشو إميريشو ) أي أمارة الحمير لكثرة ما وجدوا فيها من حمير صغيرة تجوب حاراتها الضيقة .. وصولا لاستقبالها الجيش الفرنسي بقيادة غورو من قبل تجار دمشق ومشايخها استقبال الفاتحين.

ومع ذلك وبعد أن سلمت فيما عدا قلعتها لجيش تيمور المسلم بقيادة غازان، استبيحت دمشق كلها بأهلها ودمائها ونسائها وأطفالها وأموالها وبيوتها … فقتل من قتل وفر من فر حتى خلت على عروشها… ولم يعد يوقد فيها موقدا لأشهر. وعندما تجمع المجاهدون من عموم ريف دمشق (المقاتل كعادته).. والذي يبقى تاريخيا رمز عزة هذه المدينة، رغم فقره ورغم غناها ، وأعادوا تحريرها بقيادة الشيخ ابن تيمية (وهو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية) الذي قضى جل عمره  مضطهدا في سجون الحكام الجبناء، عندها أصدر هذا الشيخ المجاهد فتواه الشهيرة بتطبيق حد الحرابة بحق كل من هاجم المدينة، واستباح دماء المسلمين، وهتك أعراضهم بطريقة شنيعة ومشهودة لم تسلم منه فتاة ولا امرأة  … لدرجة أن لُقّب اهل دمشق فيما بعد ببناديق التيمور لنك (يقصد بالبندوق الابن غير الشرعي من الاغتصاب والزنا )… وعلى هذا مات الشيخ وهو مسجونا في سجن قلعة دمشق التي جاهد لتحريرها.

لقد تصرف ابن تيمية كقائد عسكري وليس كرجل دين، وفتواه تنطبق تاريخيا بمبرراتها وأسبابها على من قام بهذه الفعلة الشنيعة… وليست مذهبا يعبر التاريخ لينطبق على أحفادهم إلى يوم الدين… وهذا  يشبه شكلا ما قام به الرسول الكريم في المدينة المنورة بعد أن خانت قبائل من اليهود العهد معه، أثناء حصار المدينة من قبل ائتلاف قريش والقبائل يوم الخندق، وكادت أن تسقط المدينة وتستباح بسبب الخيانة لولا التدخل الالهي … حينها  طبق عليهم الرسول قواعد الحرب التي يقرون بها، وقبلوا بتحكيم أقرب أصدقائهم، ولم يطبق عليهم تعاليم الدين التي أوصت خيرا بأهل الكتاب والذمة. فهو لم يقتل رجالهم القادرين على القتال ويهجر غيرهم بسبب دينهم ( الذي عاهدهم وحالفهم وسالمهم بسببه)، لكن بسبب خيانتهم وجرمهم العسكري كحليف حرب… فطبق عليهم قانون الحرب القاسي…

لكن منظري جماعة الاخوان المسلمين في سوريا في السبعينات، وكعادتهم في توظيف الدين في السياسة، وطريقتهم في شرعنة الارهاب والحرابة والاغتيال والتصفية، سحبوا فتوى ابن تيمية العسكرية من تاريخيتها وقطعوها عن سبب وجوبها، وحولوها لفتوى دينية مطلقة الزمان والمكان، وغير مشروطة بجريمة محددة وقصاص محدد بشخوص مرتكبيه، واستعملوها بعد مئات السنين كأنها جزء من الدين والمذهب… بل كفّروا من لا يقر بها ويطبقها، لتبرير قتل من يريدون، من (الطائفة العلوية) وغيرها ومن السنة أيضا، وهو ما استفاد منه النظام الطائفي الحقير الذي قام بارتكاب المجازر وممارسة القمع الرهيب… الذي سينفجر لاحقا على شكل ثورة عارمة في وجهه، استطاع أن يحولها لحرب طائفية بسب ممارساته الطائفية المشهودة التي تلاقت مع شعارات الاخوان الذين اندسوا في الثورة ورفعوا فوقها شعاراتهم، حتى صارت سوريا كلها ساحة لكل من يريد ممارسة القمع والجريمة والارهاب والتكفير و ارتكاب المجازر ضد الانسانية، بفضل النظام الطائفي الكافر بكل القيم، ومذهب الإخوان التحديثي في تسييس الدين و تبرير التكفير.

عادة، و بسبب عدم وجود قضاء مشترك متفق عليه بين المتحاربين… لا يقام القضاء الشخصي في الحروب، لتجري محاكمة كل شخص بشخصه و ادانته بمقدار مشاركته بالجرم، بل يتم التعامل مع المجموعات المحاربة ككل متحد، شارك بطريقة أو أخرى ضمن مجموعة في ارتكاب ما ارتكب (والمشترك تقع عليه عقوبة الفاعل)، لذلك تقع العقوبة على القبيلة والدولة والشعب والطائفة ككل بالتكافل والتضامن، والتي تصرفت مجتمعة وحاربت كمجموعة، دونما انقسام ظاهر وتبرؤ واضح قبل أو أثناء الفعل. وهذا العقاب الجماعي لا يعتبر جريمة ضد الانسانية، فتفكيك العنصرية النازية ومؤسساتها واعدام رموزها كان ضرورة لفتح الباب لعودة المجتمع الألماني للعيش بسلام مع ضحاياه… و كذا الحال مع الكثير من التنظيمات السياسية العسكرية (القاعدة، الحزب الشيوعي، جماعة الاخوان، حزب البعث، مؤسسات الأمن)، وحتى مع الدول (الامبراطورية النمساوية، والعثمانية، والاتحاد السوفييتي، والامبراطورية اليابانية) كلها جرى تفكيكها والغاء وجودها، لصالح تركيبات أخرى عندما هزمت، منعا لاندلاع الحروب مرة أخرى. وكم من شعوب هجرت وشردت لهذه الغاية. وكم من القبائل سبي نساؤها لمنعها من التكاثر والحرب ثانية. وكل ذلك يعتبر من قوانين الحرب القاسية والظالمة. لكن البادئ أظلم، ودفع الشر الأكبر بالشر الأصغر وارد شرعا وعرفا.

وأي مجموعة عليها أن تبعد مبررات الجريمة عن هويتها ومعتقدها، والا اعتبر هذا المعتقد هو بحد ذاته دافع للجريمة، ولذلك فأي طائفة لا تعلن عن مذهبها وتشرحه وتلتزم به، لا تعتبر طائفة بل جماعة سرية… يفهم من سلوكها أنه تعبير عن مبدئها، ولا ينطبق عليها مبدأ التسامح الديني حتى تعلن عن دينها قولا وفعلا… لذلك فتسمية الطائفة العلوية غير دقيقة، والأصح هي القبائل النصيرية. وهذا ينطبق على الشيعة والسنة الذين عليهم أن يثبتوا للعالم بالفعل أن دينهم لا يحرض على الارهاب والعنف والقمع وانتهاك حقوق الانسان خاصة المرأة … ولا يكفي القاء الخطب الرنانة عن التسامح ولا تدبيج المقالات المتبرئة من الفتاوى ..

وعقد السلم العالمي هو الضامن الوحيد ضد هذه الوحشية التي تتصف بها الحروب. والذي إذا دان له الناس سلموا من شرور بعضهم، لذلك كان الدين عند الله هو الاسلام… بصفته عقدا عالميا للسلم محروسا بالحقوق المتساوية والقضاء العادل، يتجاوز القبيلة والقوم والعرق والحدود، متاح للجميع ويحصّل بالقبول والشهادة التي تنص على الدخول به صراحة (كل المسلم على المسلم حرام…) فإذا نكص بعهد السلم وباشر الحرابة خرج لدار الحرب من جديد. ومن يريد دخول هذا العقد يسلم… وهذا هو فحوى الرسالة التي أرسلها رسول الاسلام لقيصر الروم (أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين) ، فالدعوة للإسلام ليست لإلغاء الآخر وتمايزه وحريته وحقه في الاعتقاد، بل هي دعوة لعقد حلف السلم معه (تعالوا لكلمة سواء بيننا)  … وهذا شيء مختلف عن العقيدة التي تبقى حرة يحاسب عليها الله وحده.

فدخول عقد السلم كشرط لوقف الحرب المتكررة وقانونها الوحشي، هو أحد الحلول التاريخية الانسانية المقترحة والممكنة، فالأعراب قد أنهت بسبب الاسلام حالة النزاع الوحشي بينها ودخلت في عقد السلم قبل بكثير من انتشار العقيدة والإيمان فيها.

(قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)

وعقد الاسلام سمح باستقرار امبراطوريات ودول كبيرة (الخلافة الأموية والعباسية ثم السلطنة العثمانية)، وحافظ على صيغ العيش المشترك والتنوع فيها. وهو حق لم ينكره ابن تيمية على هذه الفئات، لتسلم من الانتقام بعد أن حاربت وقتلت واستباحت واضطهدت مرة بعد مرة كما سنرى:

في التاريخ  وقفت القبائل النصيرية، وهم ليسوا طائفة أو مذهب بالمعنى المعروف، في القرن الرابع الهجري مع حركة القرامطة الفوضوية التي امتدت بين الساحل السوري والخليج الفارسي، والتي أيدها الحمدانيون وساندوها، وكان من شعرائها أبو الطيب المتنبي… المتقرمط الذي مدح أحد مجرميها بأبيات شهيرة تمجد جرائمه وقطعه للرؤوس:

حدق يذم من القواتل غيرها       بدر بن عمار بن إسماعيلَ

أمعفر الليث الهزبر بسوطه      لمن ادخرت الصارم المصقولَ

وقعت على الأردن منه بلية      نضدت بها هام الرفاق تلولا

ورد إذا ورد البحيرة شاربا              ورد الفرات زئيره والنيلَ

في وحدة الرهبان إلا أنه        لا يعرف التحريم والتحليلَ

وقد قتل المتنبي لاحقا في الرمادي بسبب أشعاره تلك، التي وضع بها نفسه وممدوحيه في مراتب النبوة (ومنها جاء لقبه المتنبي). وحتى لا تكون من بعده سنة بين الناس (عندما سأله قاتله : ألست القائل … ؟؟ ) …  ليجري بعدها تشويه صورة قاتليه كما شوهت سيرة ابن تيمية.

ثم استضاف النصيريون الغزاة الصليبيين و سكنت جيوشهم بسلام فترة طويلة من الزمن في ديارهم وقلاعهم حتى ما بعد تحرير القدس من الصليبيين وهزيمة المغول وانتهاء حكم الأيوبيين وظهور المماليك ، لدرجة أنهم لقبوا بالألمان لشيوع زرقة العين في أبنائهم بعدها،(واليوم يوجد في المانيا تيار عنصري نازي يدعوا لحمايتهم باعتبارهم بقايا صليبيين) ثم ومع نهاية الوجود الصليبي انقلبوا لمساندة المغول والتتار، وساهموا معهم في استباحة المدن، وبعدهم تحالفوا مع الفاطميين، ومن بعدهم تحالفوا مع الصفويين الغازين من بلاد الشرق، وتعرضوا بالمقابل للاضطهاد المستمر من قبل المماليك والسلاجقة والترك (العدو اللدود للصفويين) طيلة سيادتهم الطويلة على المنطقة ..  وهو ما اختزن في ثقافتهم وخرج للعلن مرة أخرى بعد سقوط الامبراطورية العثمانية، وترجم على شكل تعاون مع الأجنبي المستعمر لاستبعاد أهل السنة عن السلطة، خوفا من تجديد اضطهادهم… ثم سيطرتهم على السلطة بالانقلاب العسكري وباستخدام الفكر القومي العنصري على الطريقة النازية كمقدس جديد بديل للدين، ونهبهم للمدن عبر السياسات الاشتراكية التي قوضت الطبقة البرجوازية السنية، وما رافقها من سياسات افقار وتمييز، ثم قمع وحشي لئيم كانت ذروته في الثمانينيات، و ما تبعها من فساد منهجي نقل مركز الثروة خارج مكانها الطبيعي التاريخي ووضعها في جيوب قلة منهم، جرى ذلك تحت خيمة التحالف والتعاون مع اسرائيل والغرب… وصولا لمحاولتهم أخيرا سحق الثورة السورية بالتحالف مع ايران الصفوية، والقيام بكل ما يقوم به المرعوب الفاقد للوعي والادراك والسيطرة على النفس … بما فيها استخدام أسلحة الدمار الشامل والتسبب بقتل نصف مليون انسان وتهجير عشرة ملايين أخرى…

ومرة أخرى نقول أن هذا الطابع العام لسلوك مجموعة عرقية أو دينية لا ينطبق على كل فرد في هذه المجموعة القبلية، لكن هذا لا يعفيها من المسؤولية في غياب أي حركة جدية داخلية للاعتراض… ولن يعفيها بالمستقبل إذا لم يحدث فيها حركة تجديد عقيدي وقيمي ومراجعات جدية وجوهرية… ومع ذلك نحن نعتبر أن هذا السلوك السياسي العسكري ليس من الدين ولا من العقائد (هذا إن وجدت عقائد ومذاهب أصلا)، و معظم الجرائم التي عايشناها كانت بأوامر من السلطة التي تحتوي السفلة من كل المكونات، مع احتفاظها بطائفيتها المميزة لها، ولم تصدر عن المؤسسة الدينية العلوية (إن وجدت)، بل هو نزاع وحشي على البقاء وعلى السلطة والثروة وتنافس وتعارض بين أنماط العيش وشروطه المختلفة… وهو ما يفترض أن ينتهي بانتهاء شخوصه وظروفه، ويدفن معها. ولا يجوز توريثه وتخليده، بتحويله لجزء ثابت من العقيدة والثقافة المتوارثة التي يجب اعادة النظر فيها باستمرار تبعا للتجارب التاريخية. أو هكذا كنت أحب أن اسمع من الأستاذ الشيخ محمد حبش كمفكر وباحث اسلامي عريق. كائنا ما كانت الفتوى ومطلقها… أما أن نظلم الشيخ ابن تيمية المدافع عن شعبه وعقيدته، ونعتبره منظر لداعش… فهو تسطيح للعقل وتشويه للحقائق والتاريخ…كان من الممكن تجنبه لو وضعت الأحداث في سياقها الموضوعي، ونوقشت بعقلانية غير مسيسة… والتي هي وحدها من يستطيع إخراجنا مما نحن فيه.

قبل الثورة دعا شاب علوي صديقه السني في الجامعة للذهاب معه للضيعة في عطلة الأسبوع، وقبل أن يصلوا إلى جهينة ( ضيعة كريم الشيباني) تذكر مشكلة سيقع فيها وهي أن اسم صديقه عمر، لكنه خجل أن يطلب من زميله ادعاء اسم آخر، فذهب لأمه هناك وبدأ يشرح لها كيف أن عمر بن الخطاب رجل صالح وتقي ونصر الاسلام وتزوج ابنة علي بن أبي طالب ذاته … وكل ذلك كمقدمة لتعريفها باسم صديقه الظريف الذي حظي بالترحيب كما يحدث لكل ضيف في كل ضيعة سورية، لكن والدته فاجأته بقولها ( ميمتي إذا كان عمر هالقد منيح … قرد ليش سموه عمر لكن!! ) وبعد الثورة لقي عمر مصير كل من دخل سجون فرع الأمن العسكري 215. ولا ندري كم يعاني صديقه أيضا ،لأن جيل كامل من شباب سوريا شطب من الاحصاء.

فشيطنة الاسم، وتنميط المجموعات، وتبسيط القضايا والحكم عليها وفقا لمنطق واحد يعتمد مبدأ التضاد ( أبيض /أسود ، خير/ شر ) هي أحد أهم أسباب تسطح التفكير وعجزه عن مقاربة أي موضوع مقاربة عقلية محيطة متعددة الجوانب… هي الوحيدة القادرة على إخراجنا مما نحن فيه.

2-      في التحليل

نحن لا ندري ما هي ظروف فتاوى الشيعة بحق الناصبة، ولا ندري إن كانت شرعية أم عسكرية هي الأخرى.. ولا نستطيع أن ننكر اضطهادهم المتكرر، كونهم من فلاحي العراق الذين دخلوا الاسلام، وأرادوا أن يتمايزوا داخله بما يتناسب مع طبيعة حياتهم وعملهم واجتماعهم حول زعيم ديني اقتصادي سياسي (رأس  كنيس)، فنصب أهل السنة والجماعة (الناصبة) أنفسهم أوصياء على الاسلام والوحي والسلطة، فاضطهدوهم وفرضوا عليهم الخراج رغم اسلامهم (على اعتبار أن دجلة والفرات أنهار خراجية، فاستمر الولاة باستعمال دهاقنة كسرى ذاتهم، واستمر فرض ذات الخراج الذي تجاوز الثلث) كما ورد في كتاب الخراج لأبي يوسف القاضي والموجه لهارون الرشيد، في حين أعطي المال لأهل الكوفة المهاجرين من نجد وأغلبهم من المرتدين سابقا، والذين تخلوا عن كل وسيلة عيش غير رواتب الأمير وصاروا دائمي التمرد عليه (حتى أرسل لهم الخليفة الأموي واليا هو الحجاج بن يوسف ليضع حدا لتمردهم الذي لا ينتهي والذي خطب فيهم خطبته الشهيرة)….

لقد وجد الفلاحون في التشيع لعلي وآل البيت، و في قصة خلافهم مع أبناء عمومتهم الأمويين… وسيلة لمنازعة العرب البدو على الشرعية والسلطة التي احتكروها بينهم كفاتحين، وليس كأخوة في العقيدة (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، فقاموا بنقل رموز القداسة وزرعوها في ديارهم وأرضهم، عن طريق تقديس دماء وأضرحة ومقامات آل البيت، و أعادوا بناء ثقافتهم واجتماعهم التي تتمحور حول تقديس المكان والارتباط به ككل فلاح يزرع الأرض، لكن ضمن إطار العقيدة الاسلامية، متمايزين عن البدو الذين يعيشون الكلمة ويحملونها معهم في ترحالهم، فالميل لتقديس شكل القرآن ونطقه عند البدو، استبدل بالميل لتقديس الضريح والمكان الخاص بأهل الوحي عند الفلاحين المتشيعين، الذين جعلوا للقرآن ظاهر وباطن، ليتاح لهم فسحة في التباين والتمايز…

وكلها رموز استعملت في التعبد والتوحد الرمزي حول المقدس. تختلف هذه الرموز باختلاف الثقافات، التي تختلف باختلاف وسائل العيش والانتاج المجتمعي. فحيث وجدت الزراعة انتشر التشيع بين الناس، وحيث البداوة أو التجارة سننوا… بينما لجأ فقراء وفلاحي المدن السنية للتصوف والتجمع حول تكاياهم وقبور أوليائهم، وأعادوا القدسية للمكان من دون تشيع لعلي، وباستخدام أولياء محليين ومغمورين، وباستخدام قيم الزهد بكل ما يطمع به غيرهم، خاصة وأن مسألة السلطة والثروة في المدن محسومة سلفا لمثلث السلطة السنية التي تقوم على (تجارها المتحالفين مع مستبديها وظلامها برعاية شيوخ التوافق والتبرير)، فحالت الصوفية دون تمدد التشيع في كل المجتمعات الزراعية التي نمت بسرعة مع استقرار السياسة (شمال العراق وسوريا وتركيا ودلتا النيل والمغرب) وهو ما ساهم في تقويض الخلافة الفاطمية. كان هذا قبل أن يحدث التشدد والغلو الشيعي على يد الصفويين بعد هزيمتهم وعزلتهم في بلاد فارس التي صبغوها بصبغتهم بالحديد والنار والتطهير، ونقلوا المرجعية من النجف إلى قم التي لا تحتوي أيا من رفات آل البيت ، ولا يزال التنازع بين المرجعيتين جدي وجذري حتى الآن، ( اقرأ في هذا الصدد كتاب علي شريعتي الذي صفاه الخميني : اسلام علوي اسلام صفوي ). حدث هذا التشدد والغلو الصفوي الذي وصل حد عصمة الولي، وتأليه الفقيه، بالتزامن مع انطلاق الحركة الوهابية ( البدوية ) التي عارضت وبقوة كل ما يجسد به المجرد والمعنوي المتعالي، ورغبت في تدمير كل المقامات، تماشيا مع طبيعة الصحراء التي تقوض كل شيء فلا تبقى الا الكلمة، والتي جعلت من العروبة أمة لغة، ومن تاريخ العرب مجرد قول على قول …

وهكذا نستطيع أن نرسم التوزع الطائفي والمذهبي تبعا للجغرافيا والاقتصاد ونمط الانتاج، فحيث وجدت الزراعة وجد التشيع (بمن فيهم فلاحي المدينة المنورة)، أو التصوف فيما بعد، وحيث وجدت البداوة والتجارة والمدنية وجد التسنن حتى في ايران التي بقيت سنية حتى مرحلة قريبة (مرحلة التشدد والغلو الصفوي بعد هزيمتهم على يد العثمانيين) ، وعلى طرق القوافل بين المدن توزعت القرى السنية… وهو ما نشهده على طريق دمشق حمص القديم الذي يسير مع الأنهر عبر نهر بردى ثم سردا ثم العاصي، أو طريق دمشق صيدا صور عكا عبر مزراب البقاع ونهر الليطاني، أو طريق اللاذقية حلب عبر الحفة وصلنفة .. وكل مدن الساحل السوري اللبناني سنية، بعكس قراها… وهذا المبدأ بالتوزيع بقي صحيحا قبل أن تنهار التركيبة التقليدية وتنزاح مجموعات السكان بين الريف والمدينة في هجرات جماعية متبادلة بفعل الصناعة والرأسمالية والحداثة.

بعد هذا التحليل التاريخي المختصر نرى أن الأجدر بالنقد هو فكرة الفتوى ذاتها، أي عملية تحويل السياسي لديني عقيدي موروث. وتحويل الاسلام الذي يدعو لعقد سلم عالمي ينهي حالة الوحشية والطواغيت، تحويله لمجرد طائفة سياسية تناحر غيرها وتوظف الدين الذي هو لله، في السياسة والحرب والمصالح الجزئية، ثم تستخدم المذهبية المزعومة (وهي ترجمة لاختلاف اقتصادي) في تبرير المجازر والجرائم ضد الانسانية، وفي التشجيع على ارتكاب البشاعات باسم الدين الذي أرسله الله رحمة بالعالمين كافة.

السؤال الذي يطرح نفسه والذي لم يوضحه لنا الأستاذ محمد حبش مدير معهد النور للدراسات الاسلامية سابقا: ما هو حكم الفتوى شرعا، وهل يجوز اتخاذ قرارات سياسية واعتبارها كجزء من الدين، لمجرد أن شيخا معمما أطلقها، ولماذا كل هذه الاضافات المسيسة على الدين ..؟

الشيعة عادة وبسبب نمط تنظيمهم الاجتماعي (كومون ديني اقتصادي سياسي .. يشبه الكنيس المسيحي التاريخي الذي له أب روحي، والذي جمع كل من لا تربطهم روابط الدم البطريركية في أخويات دينية اقتصادية اجتماعية كنسية) لا يفصلون بين سلطة الدين وسلطة المجتمع والسياسة والاقتصاد … فتقليد الامام ، وولاية الفقيه  هي شكل اجتماعهم التقليدي في العصر الاقطاعي، والسلطات موحدة بشخص متّبع … هو رمز وحدة الجماعة، ضمن نظام بطريركي لا يعتمد أخوة الدم القبيلة بل أخوة الايمان، فنمط الاقطاع عندهم هو نمط الإقطاع الديني السابق للعصر الرأسمالي، وهو موجود ذاته عند الصوفية بطرقها المختلفة و النقشبندية تحديدا، وبقي سائدا حتى قيام المجتمع المدني والنظام الطبقي والدول الحديثة التي تربط كل مواطن مباشرة بها، وتقلص دور الترابط الأهلي لصالح الترابط المدني والمؤسساتي …

(الفارق بين الأهلي والمدني هو أن الانتماء الأهلي يحدث رغم ارادة الانسان ومفروض عليه كهوية تربطه بعرق وقبيلة ومكان وحي وأسرة ودين وطائفة … بينما الانتماء المدني يبنى على روابط العمل والفكر والمصلحة والمؤسسات النقابية والحزبية والثقافية والفنية. وما ينتج عنها من مؤسسات الدولة السياسية القانونية وهي في أغلبها اختيارية وقابلة للتغيير.) وضحت ذلك لأن أغلب السياسيين المتزعمين اليوم يستخدمون مصطلح المجتمع المدني والدولة المدنية من دون فهم .. لأن معنى الدولة المدنية هو أن تقوم الدولة على الروابط المدنية (المواطنة) وليس الأهلية أي دولة (القبيلة والعرق والطائفة والمحاصصات) ومع ذلك يبنون الائتلاف والمجلس الوطني  على محاصصات طائفية وعرقية وعشائرية … تحت شعار الدولة المدنية الذي يشهد على العته المعرفي السائد عندهم .

بينما السنة الذين هم على الأغلب بدو لديهم نظامهم القبلي الذي يحفظ لهم تمايزهم ضمن الدولة، أو تجارا في مدن يعتمدون على سلطة ملك المدينة ذاتها أو سلطانها … فهم يفصلون عادة بين سلطة الملك الذي يعتمد في ملكه على القوة الغير مستقرة أساسا (ابن خلدون) ، وبين سلطة الدين الذي يهتم بالشأن الاجتماعي والأخلاقي، وبين النشاط الاقتصادي وسلطة المال المتحررة من كل ذلك، وبالتالي لا يقبلون بهذا التداخل في السلطات، الذي يستخدمه الحاكم ليعطي لقراراته السياسية طابعا مقدسا ويشرعن الاستيلاء على الثروة، متحولا لطاغوت يفسد حياة مدينته التي كانت بسبب نظامها المتمايز هذا، هي النظام الأرقى الذي جعلها تقود الحضارة قبل العصر الرأسمالي. فمسألة العلمنة غير مطروحة عند السنّة لغياب الدين عن ساحة السياسة في كل التاريخ السني منذ معاوية. والذي استمر حتى بعد التحول الرأسمالي الحديث…

حتى ظهر علينا الاخوان الذين أعادوا ادخال الدين في السياسة باسم تحديث الدين، فولدوا الأرضية للدولة الحديثة الدينية المستبدة، الذي استفادت منه السلفية الجهادية وطبقته داعش التي أتحفتنا بخلافتها المشهودة، وهكذا قدموا جميعا الاسلام كنمط متجدد للوحشية والهمجية.

في حين ستحتاج أوروبا الاقطاعية لثورة اقتصادية وسياسية وثقافية كي تحطم المجتمع الأهلي الاقطاعي الكنسي المتداخل مع الدين، وتبني المجتمع المدني الطبقي على حسابه ، والذي يشترط ابعاد رجال الدين عن السياسة … وهو ما أتاح لهم تحقيق قفزة سياسية واقتصادية وعقلية جعلتهم، في مقدمة الحضارة بعد أن بقيت بيد المدن السنية طول العصور الوسطى كأرقى اجتماع انساني في عصره.

فرجل الدين عند السنة تاريخيا منفصل عن السلطة (الماجنة عادة)، فهو رجل مجتهد عارف ومدرس لطرق الايمان ومعرفة الله وتهذيب الضمير والسلوك(وهو ما طبقه شيوخ الصوفية بامتياز الذين ابتعدوا عن السلطة والمال)… وليس له سلطة تنفيذية غير النصح والمشورة… فما له اليوم وما للشأن السياسي الذي تطبقه الشرطة، ولماذا هذا الدمج الأرعن بين الديني والسياسي عبر ظاهرة الافتاء المبتدعة التي تقلد الشيعة… والتي تهدف لإدخال القرارات والمصالح السياسية في صلب العقيدة، وهو من فعل العقل الديني التحديثي لسيد قطب وسعيد حوى… لكي تستعمل كأنها استمرار للوحي الذي انقطع واختتم…

ولهذا نرى اليوم أن ألد أعداء الاسلاميين (وليس المسلمين) الطامحين بشدة للسلطة الدنيوية باسم الدين… هو العلمانية التي تحرم رجال الدين من أي سلطة سياسية وتفصل بينهما، وهو ما ميز المذهب السني المديني تاريخيا، والمسيحي الشرقي أيضا .. عملا بقول المسيح : أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله… فالإسلاميون الجدد يربطون العلمانية والدولة المدنية التي هي تاريخية بالكفر بالله، وليس ممانعة سلطة مشايخهم المحدثة!!. مع أنها تحرر الانسان في علاقته مع ربه من سياسات الحكام ومصالح الفقهاء المنتفعين على موائدهم، وتعطي لكل متدين الحق في التعبير عن دينه بخياراته السياسية الحرة ..  أنظر كم هو مقذذ منظر (مفاتي أو مفتيي مصر وهوانمها أو بطارنتها يرقصون معا و يطبلون ويزمرون في عرس الديكتاتورية المتجددة) . والأنكى منهم  مفاتي سوريا وعلمائها وهم يبررون للقاتل ما يفعله ويصفونه بالجهاد ( جهاد البراميل ) وهو ما ذكره الأستاذ محمد حبش الذي كان يعمل ضمن مؤسساتهم بالتفصيل في مقاله موضوع البحث …

فهل تبقى شيء يحترم في أي فتوى تصدر عن أي شيخ… قديما كان أو حديثا..؟؟   ولماذا إن  تكلم الجربا أو هادي أو كيلو فهي تقع في باب الرأي السياسي مع الهامها وانتمائها لثقافة الثقافة، وإن تكلم البغدادي والجولاني وزهران وأبو عيسى والشقفة مرشد الاخوان فهي فتوى شرعية، وماذا عن جمال معروف هل هو مفتي أم قائد ؟! … وهل يوجد في ديار المسلمين مفتي يفتي دون الرجوع للمخابرات الذين يكتبون له خطبة كل جمعة…

وطالما أن الله لم يفرط في الكتاب من شيء، وطالما أننا نملك العقل ونعرف اللغة ونستطيع الوصول لأي معلومة عبر النت … فلماذا كثرة الكلام وحشر الأنوف واصدار الفتاوى التي تخص الشأن السياسي جوازا وبطلانا … أليس هذا لمصادرة حق الناس في التفكر والاختيار الحر باسم العلم الذي يتحول لوسيلة استبداد… ويحرم الناس من حقهم في اختيار سياسييهم وسياسات دولهم ومحاسبتهم… ألا يجعل هذا من العلمانية شرطا للديمقراطية، وليس كما يُدعى مرادفا للكفر… وما لنا وما قاله فلان وعلتان، فهو حر يقول ما يريد، ونحن أحرار نسمع ما نريد، ثم نطبق ما نرى أنه الصحيح بمسؤولية تتبع الحرية كشرط لازم بها ولها، لذلك نرى أن كل عالم (رجل دين) هو مجتهد يقدم رأيا وشهادة ولا يجوز أن تسمى فتوى… لكي لا يتم دمجها بالحديث والكتاب وتصبح جزءا من الدين، بل تبقى رأي شخصي يتحمل من يتبعه مسؤولية اتباعه، ولا يشفع له أمام الله والقانون أحد… حيث لا تزر وازرة وزر أخرى.

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ  )

إن ادخال الدين في السياسة كمن يدخل المربع بالمدور، والثابت بالمتغير، والأخلاقي المتعالي بالمدنس الشهواني، وأهم طريقة لهذا الخلط هي أخذ السياسة من فم الفقهاء كفتاوى، فالمفتي هو أداة الديكتاتور ولسان التزييف وبوابة لدخول النار .. لأن (أجرأكم على الفتوى أجرأكم على النار .. ) وكل حقيقة سياسية هي حقيقة احصائية، وليست معرفية ولا تجريبية .

فتسمية فقيه توافق تسمية ديكتاتور … ومن ذا الذي يعطي شهادات العصمة والعلم ؟؟ وهو يعلم أن فوق كل ذي علم عليم …

ومن يحكم على نزاهته بعد أن غلف نفسه بألبسة الدين، وزين كلماته بنصوص مجتزأة مقطوعة عن سياقها ومقاصدها … وكما قال أحدهم في وصف رجال الدين : قمصانهم بيضاء لكن قلوبهم وأيديهم سوداء … فمصيبة شعوبنا أنها عطلت عقلها وسلمت أمرها لمشايخها وعلمائها فباعوها للسلطان الرجيم والثري الجشع، واليوم للأجنبي السيد… حتى لنستطيع أن نقول بشرك من عطل عقله واتبع، والغى مسؤوليته التي استخلفه الله عليها وأهمل الأمانة التي أشفقت منها الجبال، وهي أمانة العقل والحرية، وباع نفسه في سوق النخاسة، وتحول من حر لا يعبد الا الله، إلى إمعة لغيره من البشر، لأنه كسول في طلب الحق وتحمل المسؤولية والجهاد، فطلب العلم والنصيحة شيء لا يلغي الحرية، بل هو جزء منها، أما الاتباع دون تبصر فهو ضدها ونقيضها…

حتى نقول أنه لا مخرج اليوم مما نحن فيه من تجديد للبؤس والتخلف والقمع والوحشية… إلا بسحب الشرعية عن مهنة الفقه، وتجريد رجال الدين من أي سلطة مقدسة تتجاوز حق التعبير بالتي هي أحسن (الكلمة)، أما إعطاء هذه الكلمة قوة تنفيذية وسلطة عبر الافتاء ومؤسساته، فهو تخليد للعبودية والاستبداد عبر الاتباع الملزم المتسبب بالتخلف أولا، ثم في اتهام الدين بأنه هو سبب ودافع من يمارس الارهاب والوحشية، ويسيء لهذا الدين الذي هو رحمة وهدى للعالمين.

لذلك أقول أن كل هذا التحشيد الاعلامي والفقهي الذي يستخدم من كل الأطراف في الحرب الأهلية الاقليمية الدائرة اليوم، هو ليس من الدين في شيء. بل هو صراع سياسي وصراع مصالح على السلطة والثروة، وتوظيف للدين بهدف تحويل الصراع القائم بين الشعوب و بين الحكام والنخب على السلطة والثروة والحقوق، إلى صراع مثالي ديني مذهبي قومي بين الشعوب والمكونات لا يمكن حسمه، خدمة لبقاء السلاطين والمستبدين الممتدين من ايران و خليج العربان إلى شمال افريقيا وعموم خلافة اسلام ستان في العراق والشام. فأي وجه قدمنا به ديننا أيها الفقهاء… ومع ذلك تتبرؤون من المسؤولية… إن ظاهرة الشحن الطائفي والاستبداد والارهاب وتدهور الدول نحو الحرب الأهلية والفشل التي تسود عالمنا الاسلامي، لهي تعبير واضح وصريح لفشل فقهي كامل يستدعي إقالة الجميع.

فالدين إيمان وعقيدة لا تدخل القلب بقوة السيف، والله أرسل لعباده الكتب وليس الجيوش، وتنافس الأديان هو تنافس عقلي فلسفي قيمي وليس عسكري… كما أن الله يمكن أن يعبد بطريقة أخرى غير القتل والسلب والتهجير والجريمة ضد الانسانية المحرض عليها بالفتوى الدينية… ولن يكون صعبا إيجاد شيخ يفتي بأي شيء تريده في كل زمان ومكان… فكيف إذا امتلكت أدوات الشيطان (السلطة، والعسكر، والمال ؟؟؟ ) … أي السياسة. فمن يدخل الدين في السياسة أملا في تديين السياسة ورفع سويتها الأخلاقية، سيقع في العكس وهو تسييس الدين وافراغه من  مضمونه الانساني والقيمي المتعالي، ونزوله لمستوى الصراع الأعمى على المصالح المباشرة…

أي باختصار نحن نعترض على الفتوى كمبدأ يكرس تسييس الدين، و بالتالي نعترض على نقدها أيضا… لأنهما جاءا من مؤسسة واحدة هي بحد ذاتها مشكلة وأداة تخلف واستبداد… أقصد هيئات العلماء ودور الافتاء التابعة لشعبة الأمن السياسي قسم الأديان… أو للسي أي إي وال إم أي سيكس…لا فرق … فأكثر مهنة مجزية ومريحة فيها المال والجاه والعز والرفاه وطيب الطعام، هي مهنة الشيخ رجل الدين، الذي يحتكر الدين والدنيا ويترك لغيره اما الاتباع والطاعة أو تهمة الكفر…

فهل الدين مهنة ..؟  أم هو فرض عين .. وهل يوجد إنسان ليس له دين حتى لو كان ملحدا… أليس الدين هو أساس وجود المجتمعات الانسانية، فكيف يتم اختصاره في شيخ ورجل دون غيره… أعتقد أن كل مبررات القيام بثورة على الهيئة الدينية المتعفنة وصلاحياتها وأدواتها أصبحت متواجدة، وهو ما سبق حدوثه في أوروبا وسمح لها بالانتقال من التخلف نحو الحضارة، فأطلق طاقات الابداع لدى البشر الأحرار، وتركتهم أحرار في دينهم فصار الصدق أساس حياتهم العادية البسيطة، وليس النفاق والشقاق الذي نتعلمه من مشايخنا، الذين يكذبون علينا ونكذب عليهم في ثقافة التكاذب التي تميزنا عن غيرنا من الأمم.

{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا{

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.