يثب

رسالة الإرهاب

د. كمال اللبواني

المكان الرقة … الزمان 27/ آب / 2014   http://youtu.be/hHPz9PKVelg

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

أول أمس كانت هناك حفلة تخرج لدفعة جديدة من مقاتلي داعش في الرقة، وكان مشروع التخرج هو ذبح أسرى جنود المطار الذين اقتيدوا في ألبستهم الداخلية ليقدموا على مذبح الخلافة الاسلامية في حفل تخريج إرهابيين من الطراز الأول، عُمّدوا بالطقوس التي تليق بكل معنى كلمة وحشية… وهذه القصة ستبقى عبر التاريخ حكاية تحكى، بينما ستنسى حكايات موت جماعي أبشع وأوسع لأنها لا تمتلك تلك المحسنات الفنية والرمزية التي تخلدها، وتحولها لتراجيديا  مؤسطرة… من مثيل عملية تصفية الجرحى في القصير على يد مليشيا حزب الله، أو ابادة قرى كما حصل في ريف حمص الغربي وريف دمشق. أو بسبب ازدواج المعايير والانتقائية حسب جنس القتيل وهوية القاتل و نوع سلاحه، وهو ما يقوي ويعزز أيديولوجيا الارهاب التي تفترض مؤامرة غربية تنفذ بأدوات محلية ( بالأمس برر أوباما تدخله العسكري الفوري لحماية سنجار واربيل، مع أنه لم يتدخل لحماية حمص وحلب ، أو عندما باشر النظام حرب ابادة في غوطة دمشق، طلب من الأسد تغيير السلاح فقط من الغاز للجوع والبراميل.. الذبح بالسلاح الأبيض إرهاب، بينما السكود والبراميل عمل عسكري… وأزمة)

نعم منظر سوق الأسرى الذين استسلموا للموت كما النعاج منظر بشع ومقزز ومخالف لكل قوانين الحرب، والذي ذكرنا بما يمارسه النظام مع معتقليه، مما ألب الرأي العام الذي سبق وتعرض أغلبه للاعتقال وللهتاف للقائد تحت التعذيب. لكن أيضا لا يمكن نسيان ما فعله الجنود في المدن والقرى.. عندما كانوا يمطرونها بالبراميل المتفجرة… فهم لم يساقوا من منازلهم كما كان يساق المعتقلون على يد جنود النظام، بل من ساحات المعارك التي خسروها، ولو ربحوها لفعلوا ذات الشيء بقاتليهم. طبعا سيقولون جندي وعبد مأمور، ونقول أنه حر لكنه باع نفسه وخان قسمه في حماية الشعب. واشترك في جرائم حرب تبرر محاكمته والحكم عليه. فالدولة الحديثة أوجدت مؤسساتها لخدمة المجتمع وليس للتغول عليه، والدولة لخدمة الانسان وليس الانسان عبدا لماكينات الدولة التي يملكها الارهابي بشار أو البغدادي.

 وكل ما أخشاه أن تكون سورية سائرة بسبب هذه العقلية التي تخلي مسؤولية الفرد عن سلوكه ضمن الجماعة والمؤسسة والمنظمة والطائفة، لمزيد من حمامات الدم ومذابح التطهير، والتي ستفوق كل ما جرى حتى الآن حجما وخطورة، بسبب استمرار التهرب من حل الأزمة السورية، الذي هو عنوان السياسة الأمريكية حتى الآن.

نعم جرى تدريب المقاتلين على قتل كل مشاعر الانسانية والرحمة في داخلهم، وعلى أداء ما لا يستطيعون عليه تلقائيا لولا هذا التدريب القاسي والتحضير المضني على الوحشية التي هي تعاكس فطرتهم، فتغيير طبيعة الانسان يحتاج للكثير جدا من الجهد، وبالأصح للظروف القاهرة، حيث أن صبغيات البشر متشابهة كثيرا، لكن ظروفهم هي ما تختلف وتفرق بينهم… فالإرهابي مصنوع بطريقة معقدة وليس نتاج مجتمعي طبيعي.

إذا قلنا هذا عن الارهابي الذي ينفذ فعل الوحشية بيديه هو وبكل ما يصحب ذلك من توتر وشقاء، فماذا نقول عن الارهابي الذي يصدر قرار القتل والتعذيب والابادة كأي أمر عادي، ضمن صلاحياته اليومية التي وضعها له نظامه الذي صنع نفسه بنفسه ولنفسه، أقصد المسؤول الذي يصدر الأمر بإلقاء البراميل، وإطلاق الصواريخ وقذائف المدفعية على المدن والقرى، أو فتح أسطوانات الغاز القاتل… فهو يقوم بعمل وظيفي روتيني من مكتب فاخر وبدم بارد، ثم يتمتع و ينام مع زوجته وأولاده مطمئن الضمير، ولا يشعر بأي مشكلة نفسية أو تعب جسدي، فهو يمثل الشرعية التي يحق لها ممارسة الارهاب…. ولأنه بعيد عن ساحة التنفيذ، و بعيد حسيا عن التلامس مع نتائج أفعاله، ولا يحدق في عيون ضحاياه وهي تلفظ أنفاس الموت كما يحدث للإرهابي الذي يستعمل السلاح الأبيض، عليه أن يستمع لرجاء ضحيته الأخير قبل حشرجته وارتعاشه بين يديه، فيتعرض لتجربة قاسية تقتل عنده عادة وبشكل نهائي كل حب للحياة وتجعله دائم التفكير بالموت وفقط الموت، الذي لا ينتظر سواه، وربما يصبح ميالا للتسريع به حبا بالخلاص من العذاب والشقاء …

المقارنة القانونية بين هذا وذاك تقول أن الارهابي الذي يقوم بهذا الفعل القاسي بيديه، هو حتما تحت ظرف استثنائي وربما قاهر، وليس أمام خيار طبيعي اختاره من بين خيارات أخرى كما يفعل المسؤول عن اعدام 200 الف معتقل في السجون وبأبشع طرق التعذيب (الضرب العنيف الحرق البطيء الجوع التعفن الخنق تمزيق الجلد وتقطيع الأعضاء… ) كأمثال جميل حسن ومحمد ناصيف وحافظ مخلوف ورستم غزالة من موظفي الأسد وايران … لكن الفارق بينهم وبين ارهابيي البغدادي الانتحاريين ..  أن الإرهابي الانتحاري يصور فعلته ويتقصد بشاعتها، ويهتم بنشر صورها لأنها بالنسبة له هي رسالة رمزية غير مقصودة بذاتها ولذاتها، فهو لا يقصد الفعل الشنيع بذاته كما يفعل المسؤول الأمني، الذي يتستر على أفعاله، بل يقصد الارهابي من عرض هذا المسرح التراجيدي استثارة الرأي العام وتحريضه، واجباره على الاستماع  لصوته والشعور بمعاناته ومراجعة الذات، أو يقصد اظهار تحدي القوة ورفض الخنوع لذلك الجبان المستتر وراء مؤسسات القتل الجماعي التي تسمى دولا وأنظمة وتحرك جيوشا ومؤسسات، لكن من دون قيم ولا معايير.

بالتأكيد الإرهاب رسالة رمزية اعلامية، وهو رسالة مؤثرة جدا بقدر شيوع وسائل الاعلام والاتصال، ولن تكون من دونها، وهدف هذه الرسالة ما تحدثه اعلاميا من أثر عند المجتمع المستهدف، فليس المقصود منها الفعل ذاته أو شخص الضحية، بل التأثير على دول وشعوب ومنظومات تعمل معا بالتكامل والتكافل والتضامن، فالإرهاب  يستهدف مواطني هذه الدول بشكل عشوائي عمدا، لكي لا يشعر أي منهم أنه بمأمن من هذا النوع من العنف، المقصود به أن يكون وحشيا وبأبشع ما يمكن،  وهو بقدر ما يكون وحشيا وبقدر ما يكون عشوائيا وبقدر ما يكون بشعا، يخدم وظيفته أكثر، و يؤثر في صميم مشاعر الناس المتعاطفين مع الضحية التي تشبههم، والذين من الممكن أن يكونوا بديلها، لكي يصبحوا ملزمين بالتعاطف وتبادل المشاعر معها، لذلك رسالة الإرهاب تدخل كل هوية وثقافة كل مجموعة وكل نفس وتنقل المعركة لكل بيت، وترهب العامة وتقض مضاجعهم وتنغص حياتهم وتجعلهم يعيشون في قلب المعركة التي يظنون أنفسهم بعيدين عنها، عندما يستخدموا الوسائل الخبيثة والمتحايلة والمتحكم بها عن بعد، في صراعات وحروب وكوارث واستبداد وارهاب رسمي ومؤسسي يتحالفون معه بصفتهم (دول ذات مصالح، وليس عليها مسؤوليات) ليجعلوا من أنفسهم طرفا غير مسؤول عن القتل والدمار والحروب التي يغذوها لكي يحفظوا مصالحهم المعادية وجوديا لأمة الاسلام، التي يجب عن تعلن وجودها بشكل صارخ ومسموع عبر رسائل الإرهاب (الدولة الاسلامية باقية)… ( طبعا هذا حسب وجهة نظر أيديولوجيا الارهاب).

أي أنالإرهاب في هذا الصعيد ترجيع للعنف والخوف وتعميم للألم، وتعبير رمزي صارخ عن العذاب، ورد فعل الضعيف ضد غطرسة القوي المتبلّد، الذي يقتل لكن بالطائرات والدبابات ويحرق جثث ضحاياه ويبددها بأسلحته الفتاكة..  لتتحول لأرقام في خبر لا قيمة نفسية وسياسية له، بينما رسالة الارهاب بما تحتويه من فن تراجيدي رهيب ومؤثر، تمتلك من القوة والأثر في هذا الصعيد، أكثر بكثير مما تمتلكه الأسلحة الفتاكة والصواريخ الذكية .. فالإرهاب حرب اعلامية ورمزية ومسرحية و نفسية، أدواتها مسرح ملحمي يشبه السيرك الروماني المنقول لكل الناس، ومحاولة لإظهار التحدي والقوة والقدرة على ترجيع العنف والتباري به … لكن القيمة الافتراضية للإرهاب تفوق كثيرا قيمته وقدرته الواقعية.

قبل حادثة11/9 الارهابية التي هزت العالم بأيام ثلاثة، وفي فجر 8 أيلول 2001 طرق بابي بصفتي طبيب من يطلب الذهاب معه لإسعاف مريض، فخدمة الاسعاف غير متوفرة في بلادنا، وكنا قبلها بيومين قد اعدنا افتتاح منتدى الحوار الوطني في دمشق من دون ترخيص، ومع أنني كنت أتوقع الاعتقال، ركبت معه على الفور في سيارته الخضراء المغلقة التي تبين أنها سيارة تعمل لصالح فرع التحقيق للأمن السياسي (الفيحاء)، وانقض العناصر علي وكبلوني وأغمضوا عيني ووضعوا المسدسات في رأسي، ثم قام أحدهم بتلقيم المسدس وهو مصوب إلى رأسي، ومع استعراض مظاهر القوة المسرحي هذا كان السائق متوترا لدرجة أنه صدم منصف الطريق عدة مرات ثم صدم جدار مرآب مفرزة الأمن قبل أن يستطيع التوقف. وفي مكتب الضابط الذي كان بانتظاري وعلى اتصال مع القيادة المستنفرة ليلا، أزيلت الطميشات، فقلت له كان بإمكانك اصدار مذكرة اعتقال قانوني وتنفيذها بطريقة أخرى ليس فيها هذه المراجل، لأنني غير متواري وأداوم بشكل طبيعي في عيادتي… فسكت، قلت له هذا العنصر بطل لقم المسدس في رأسي بعد أن كبلني… فتقدم منه وصفعه أمامي … فقلت هذا لا يفيد.. ، أعطني الهاتف لكي أتصل بزوجتي وأخبرها أنني (بأمان) عندكم، فقال ممنوع .. فقلت له إذا كنتم ستحكمون بهذه الطريقة التي تتعمد الارهاب، فسيرد عليكم الناس يوما وبطريقة متناسبة مع ما تفعلون…

طبعا من السهل على رجل السلطة أن يصدر الأوامر لأن غيره سينفذها، ولديه بفضل الدولة الحديثة كل المؤسسات التنفيذية التي تنفذ دون تفكير (عبد مأمور) ، ولا يقدر عادة كم حجم الألم والضرر والحقد الذي يزرعه… قضت زوجتي الليل تتصل بكل من تعرف من دون جدوى، حتى علمت باعتقال صديقي د. وليد بعدي ففهمت أنه اعتقال سياسي، لكن المحامي نصحها أن تتقدم بشكوى للشرطة المدنية، والضابطة العدلية، كما نصح بنشر بيان بالحادثة عبر منظمات حقوق الانسان، حتى لا تتم تصفيتي واتهام عصابات ارهابية تكفيرية بذلك، لكن ضابط الشرطة سخر من طلبها وقال لها إذا كانت القصة هي قصة اختفاء غامض فهذا يعني أن (الأمن) قد اعتقله، ورفض فتح ضبط بحادث الخطففالشرطة تتهم الأمن علنا بتنفيذ أي اختطاف (لاحظ معنى أمن لتفهم معنى إرهاب بعده).

مرت الأيام وأنا استرجع ذكريات الخطف… وكثيرا ما فعلت في زنزانتي الانفرادية التي قضيت فيها ثلاث سنوات… هناك صرت أفكر أنه كان من واجبي كرجل حر أن لا أسلمهم نفسي، وأن أقاومهم كأي سلطة متعسفة بحياة الناس، وكأي لص يسرق البشر ويخفيهم، فالموت في مقاومتهم أشرف وأفضل من التعفن الذليل في سجونهم… وكان واضحا بالنسبة لي أن هذا العدوان الصارخ على حياتي لا يمكنه أن يمر من دون تأثير كبير على تكويني النفسي وقابليتي للفعل المضاد…  قضينا سنوات طويلة في سجون النظام الارهابي وهو يتغطرس ويتغطرس، ويكذب و يتنمرد، ونحن ننتظر فرج الله، لكننا نخزن الكراهية والحقد ونلمس مدى تغير بنيتنا النفسية ومدى تبلد مشاعرنا الانسانية، حتى فقدنا الاحساس بالخوف وبأهمية الحياة، بعد أن أخذ النسيان كل صور أهلنا وأولادنا وشوارعنا، وفقدنا الاحساس بالوقت والألم، وضاق بنا المكان حتى صارت الدنيا مجرد جدران وأبواب حديد تنتهي حدودها بهم، ، وبدأ ينمو في داخلنا شيء واحد هو الرغبة في الثأر وترجيع الألم لمن تسبب به عن عمد، ومن دون حق، ولا أسباب موجبة، غير أنانيات مجرمة ونزعات مريضة مجنونة، يمارسها على الناس دون أن يقف في وجهه أحد…

للمزيد عن هذه القصة

 http://www.di4sr.com/%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%8A/

نفهم أنه لكل سلطة هيبة قمعية ترهيبية تحفظ الناس ضمن دائرة القانون، لكن خروجها عن القانون وتحولها لسلطة خوف أعمى متجبرة متغطرسة طاغية، يجعل من التمرد عليها بطولة، ومن تحدي خوفها وابطال مفعول ترهيبها أداة ضرورية لإسقاطها، وهذا حتما سيتطلب التضحية، واستخدام العنف، وأحيانا الترهيب المضاد الذي يلغي أسر ترهيبها ويزعزع مؤسساتها المستمرة بفعل الخوف من بطشها… وكما النظام جند الناس بالخوف والترهيب، سيصبح الارهاب المضاد سبب فرارهم وتركهم لهذا النظام الارهابي، فالإرهاب يولد ويستدعي الإرهاب المضاد وكل شيء ضده من جنسه، كما يقال.

عندما اندلعت الثورة في وجه الطغيان الذي استمر 40 عاما… كان أول ما فعله الثوار ردا على قمع الأمن الجماعي للتظاهرات وعلى اختطاف واعتقال الناشطين وتصفيتهم… هو اختطاف وتعذيب المخبرين ورجال الأمن وتصفيتهم أيضا، وقد كانت رسالة رادعة فعلا لكل من تعامل مع الأمن، وما أكثرهم في بلادنا، فالمعارضة ذاتها كان بينها نسبة 70% ممن يتعامل مع الأمن ويعمل معه طوعا أو خوفا، فتقلص جيش المخبرين هذا إلى 1%… بفعل الترهيب الرمزي (قوائم العار) ثم العنف التنفيذي الذي طال القلة منهم، فهرع الجميع لإعلان براءتهم من هذا النظام… وقد كان هذا الترهيب شرعيا تماما من وجهة نظر المجتمع الذي دخل في حرب مفتوحة مع السلطة، كوسيلة وحيدة متوفرة بين يديه لحماية المتظاهرين والناشطين، الذين كانت تداهم بيوتهم بالجملة ويعذبون جماعة وبشكل وحشي، وتجري بحقهم التصفيات وترتكب الجرائم بأهلهم وممتلكاتهم.

وهكذا فشل الحل الأمني وصمد المجتمع، وانهارت فعالية أجهزة الأمن الترهيبية، بفعل الترهيب المضاد، وهو ما دفع بالنظام لإدخال الجيش (المُتحَكم به بشكل مطلق بواسطة منظومة أمنية طائفية ترهيبية) في معركة مفتوحة مع الشعب ككل، وصار يستخدم القصف العشوائي بالسكود و بالبراميل والمدفعية الثقيلة … وكل ذلك في رسائل ترهيبية يراد بها اعادة الناس لحظيرة الخوف والخنوع، وحول النظام كل بقعة من أرض الوطن لجبهة قتال وكل حاضرة مدنية لهدف عسكري ومقبرة جماعية… فرد عليه شباب الثورة بحمل السلاح وشكلوا مجموعات متطوعين سموها الجيش الحر الذي وقعت عليه مهمة التصدي لجيش النظام، وحرم الجيش الحر من العتاد والسلاح بقرار دولي، وبحجج واهية قبل بكثير من ظهور أي مجموعات متطرفة متمايزة عنه، مرة بدعوى الحفاظ على سلمية الثورة كما فعل المجلس الوطني بتعليمات خارجية، ومرة بحجة السعي لحل سياسي (الائتلاف الذي شُكل لهذا الهدف وليس لقيادة ثورة)، وأخيرا بحجة عدم وقوعها في الأيدي الخطأ تلك الأيدي التي ستحصل لاحقا على كل ما تريد من مستودعات النظام ومستودعات الأمريكان عند المالكي…

وبذلك انتهت سياسة الاستنزاف التي اتبعها أوباما لتنامي قوى التطرف وتهافت قوى الاعتدال، وما يزال يعاند ولا يريد الاعتراف بالخطأ الجسيم الذي تسبب بدمار سوريا وخراب المنطقة وجرها لحرب أهلية إقليمية، ووضعنا على أبواب حرب عالمية، وهو الحائز على جائزة نوبل للسلام، من دون أن يدرك أن السلام لا يتحقق من دون عدالة أو بالتسامح مع المجرمين…

وفي النتيجة تحول سلوك هذا الجيش الحر مرغما نحو استخدام شعارات الجهاد الوحيدة القادرة على دفع المقاتلين لمعارك غير متكافئة ومن دون أي دعم لوجستي، والتي بدت كعمليات فدائيين انتحاريين وليست عمليات عسكرية، ونحو استخدام سلاح الترهيب ورسائل القوة الرمزية ضد جيش النظام… ظهر ذلك بإعدام الجنود والأسرى، وبالعمليات الانتحارية النوعية، التي تعوض عن نقص العتاد والسلاح بعيد المدى، هذا السلاح الذي تطور على يد الاسلاميين المتشددين المحليين (الأنصار) ثم المهاجرين، وتحول لعمليات منظمة تستخدم على نطاق واسع، وتشكلت جبهات أيديولوجية تتبنى فكرا متشددا مناسبا لهذا النوع من الحرب غير المتكافئة بالسلاح… وهكذا… وصولا لإعلان تشكيل الدولة الاسلامية، التي تقوم على هذا الفكر وهذا السلوك بشكل كامل (الارهاب: التشدد + الانتحار) الذي يتظاهر حاليا بعمليات اعدام وذبح تراجيدية بالغة الأثر لأنها بالغة الوحشية والرهبة حقا… وهي موضوع مقالنا.

لقد تعلم الشعب من مرارة تجربته التي دفع فيها ثمنها غاليا جدا ( نصف مليون قتيل من خيرة أبنائه) ومن دمار ممتلكاته ومساكنه وتشريد وتعذيب معظم أسره… أن السلاح الوحيد المتوفر بين يديه هو التشدد و الاستعداد للموت الذي يجب أن لا يكون رخيصا… حدث ذلك منذ أن دخل في مواجهة خطيرة في بداية الثورة مع أجهزة الأمن، وصولا لمواجهة الجيش النظامي بصدور عارية ثم بسلاح فردي ومصنوع يدويا، ثم زاد عنده هذا التشدد الديني الطائفي عندما دخل في مواجهة المليشيات الشيعية القادمة من دول الجوار لتمارس التطهير الطائفي… واكتشف المقاتلون الذي حاولوا صنع كل ما يمكن من الأسلحة مدى فعالية سلاح الخوف الذي يحدثه الارهاب الذي أفشل الخطط الأمنية والعسكرية تباعا، والذي أرعب حزب الله وجعله ينكفئ، وأرعب جنود المالكي وجنود النظام وجعلهم يفرون تاركين أسلحتهم… وهو ما يحصل أيضا في صفوف الذين يفكرون في التصدي للإرهاب من الجيش الحر ذاته، الذي أصبح لقمة سائغة أمام تمدد المنظمات الارهابية الأكثر تنظيما وعنفا وفعالية في القتال.

المقاتلون يدركون مدى قوة هذا السلاح ( سلاح الارهاب) وقدرته على حسم المعارك قبل حصولها، لهذا السبب صار الكثيرون منهم يرتدون أقنعته ويحملون اعلامه حبا بالنصر والقوة وخوفا من البطش. كذلك هو سلاح سهل التحصيل ورخيص الثمن، يتم اعداده بالتدريب وغسل الدماغ والعزف على وتر الدين والمعتقد، ولا يصعب ايجاد المتطوعين من بحر واسع من شباب معطل ومشرد وملاحق ويتضور جوعا (فلول الجيش الحر الذي ترك على أمل أن يصبح فريسة سهلة للنظام) …

لكن الذي حرم من السلاح النوعي صنع بذاته ومن ذاته سلاحاً نوعيا جدا لا يمتلكه الخصم، وهو التعصب الأعمى وحب الموت والاستعداد له…   ومع أنه سلاح افتراضي اعلامي أكثر منه واقعي، حيث عدد الاستشهاديين محدود حتى الآن، وعدد من قتل خارج المعارك على أيدي الارهابيين وبطريقتهم هو بعدد حاجتهم للأفلام الدعائية، بالمقارنة مع عدد من دفن مع أسرهم بصمت تحت ركام منازلهم في حملة واحدة من حملات القصف… وهكذا نفهم لماذا يمثل مقاتل بجثة ويأكل كبدها ويصور ذلك… (يبدو أنه يعيش كل لحظة مشهد تصفية وقتل أسرته أو ذويه، فهو لم يبدأ من حياة عادية)… ولماذا تضرب امرأة رأس جندي بالمطرقة حتى الموت؟ (يبدو أنها ما تزال تسمع صراخ ولدها الذي أحرقوه)… وهكذا نفهم أن هؤلاء هم أيضا ضحايا العنف والترهيب، وليسوا صانعيه بقدر ما يقومون بترجيعه وتعميمه كنوع من عدالة الشقاء والجحيم. لذلك كان التركيز فقط على هؤلاء الأشخاص، من دون النظر للفعل الذي حولهم من بشر لوحوش، هو اعتداء لا يقل ظلما عما يفعلون…

الارهاب تعريفا  هو القيام بأعمال عنف ضد دولة في غير ساحات المعارك ومن دون تمييز لإثارة الرعب بهدف تحصيل مكاسب سياسية.

وارهاب الدولة هو استخدام القمع والعنف ضد الشعب عبر مؤسساتها الرسمية التي تنفلت من سلطة القانون، أو عبر منظمات وعصابات ترعاها وتدعمها السلطة، بهدف نشر حالة الخوف الذي يحرس الإذعان، ويكرس الاستبداد والفساد.

لكن الارهابي يموت غالبا… ويتعذب كثيرا قبل وبعد أن يصبح ارهابيا، ولا يتمتع بالذي يتمتع به المسؤول في النظام الارهابي، لذلك نقول أن ارهاب الدولة هو سبب كل ارهاب مضاد من أفراد أو تنظيمات تطوعية مضادة لها، وهو أبشع وأشرس وأشد دناءة، والتركيز على ارهاب الأفراد والمنظمات التطوعية، دون استئصال ظاهرة ارهاب الدولة المؤسسي هو كمن يحاول اطفاء النار بالزيت … وهو تشويه لوعي الشعوب التي هي ضحية لإرهاب الاثنين معا.

في النتيجة كلنا ضحية الارهاب حتى الارهابيين، والمستفيد الوحيد منه هو الديكتاتور… ولكي نتخلص من هذه الظاهرة علينا مناقشتها بشكل عقلاني وسياسي وقيمي متسلسل ومحايد وغير مسيس… وهو ما يمكننا من وضع الأولويات، ويجعل القضاء على هذه الظاهرة ليس فقط بالعمل العسكري المدمر الذي يزيد في تعقيد المسائل، بل بعمل حضاري أخلاقي قانوني يلغي أرضيتها …

ولنتذكر دوما أن أي رد فعل سيبقى طالما بقي الفعل، ومهما أضعفنا الشعوب وحرمناها من وسائل الدفاع المشروعة، فستجد طرقا أخرى للدفاع، والارهاب هو احدى هذه الطرق الرمزية العظيمة الأثر رغم ضآلة حجم الفعل… وما زاد من فعاليته هو الحداثة وتعميم وسائل النشر والتواصل… فهل تعتقدون أن الشعب الذي حرم من الحماية، وترك لليأس سيبقى مستباحا من قبل عصابات بشار ومليشيات حسن والمالكي والخامنئي من دون ردة فعل؟ وسوف يتخلى عن سلاح فعال ورمزي، صار بين يديه ويحقق له امكانية الانتقام من عدوه ؟؟؟ وهل تتصورون نصرا على الارهاب يمكن تحقيقه من دون مشاركة جدية من هذا الشعب، والغاء موافقته الضمنية على استخدامه؟؟ …. إن مثل تلك السياسات القصيرة النظر ستقوي الارهاب وستجعله ينتشر أكثر وأكثر …

المصيبة المزدوجة أن النظام العالمي إما أن يترك بشار يقتلنا أو يقتلنا بداعش… ومصيبة داعش أنها بقدر ما تقاتل بشار والمالكي فتكسب بعض القبول (وهذا لم يحدث إلا مؤخرا ) بقدر ما تتحول لشيء ابشع وأقسى منهما… وهي فعلا مأساة كبرى مزدوجة للشعب سببها قصور ادراك من يدير الشأن الدولي وتأخر وعيه السياسي عن مسؤولياته.

في النتيجة نحن ندين الارهاب ونريد محاربته، لكن هناك فارق بين محاربة الارهاب لصالح ارهاب آخر (لصالح النظام)، وبين محاربة الارهاب لصالح حقوق الانسان والعدالة (أي الارهاب بكل أشكاله معا وجميعا).. وهناك فارق في فعالية هذه الحرب إن كانت تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تهيء له الأرضية وتساعد على شيوعه وانتشاره، وهي حرب حضارية متعددة الوسائل والأدوات… أو إذا كانت تتعامل معه كمجرد عدو عسكري أمني، لأنه عندها قد تنجح في ضغطه عسكريا بشكل مؤقت… لكنها عمليا توسع الأرضية التي ينتشر عليها، وتزيد من مبررات وجوده، وهو ما يحدث بكل أسف منذ انطلاق حملات الحرب على الارهاب التي بدأت في أفغانستان، لنراه اليوم ينتشر في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، وغدا إذا استمر ذات الغباء الأناني قد ينتشر في عموم العالم كله، طالما أن هذا العالم لا يريد الاعتراف بحقوق الشعوب وكرامتها… ولا أن يتحمل مسؤولياته تجاهها… لأن العالم قد أصبح رغما عنا موحدا، وهو غير قابل للحكم بغير الحق والعدل… أو سيعم الخراب بطريقة أو أخرى، وسيطال سيف الخوف رقاب الجميع. فلا تدفعوا الناس ليصبحوا متطرفين وارهابيين ثم تقتلوهم به.

فالإرهاب هو الوجه الآخر لعدم احترام حقوق الانسان من قبل الأنظمة التي لم تعد مستقلة في أي دولة كانت. والارهاب جزء لا يتجزأ من العولمة التي إما أن تحمل قيما وتدافع عنها، أو تدخل في حرب مصالح مدمر، وتبادل رسائل الترهيب والتخريب.

الرسائل التي نريدها أن تصل للعالم، والتي تختلف عما يفعله الإرهابيون هي:

أن  احترام حقوق الانسان هو أقوى سلاح في وجه الارهاب .

وأن أي ضربات عسكرية غير مبررة بشكل كاف ومقنعة للناس أصحاب الأرض  .. أو توجه لإرهابي دون غيره ( سني دون الشيعي ) ستقوض كل مصداقية التحالف الدولي،

وسيفهم هذا التدخل كعمل عدائي ومساعدة للعدو المجرم الارهابي هو الآخر ، مما سيؤجج موجة ارهاب عالمية مضادة جديدة .

ويهدد استقرار بقية الدول العربية، وخاصة دول الخليج التي ستكون شريكة في هذا التحالف.

وأن  عدم وضع الخطط الناجحة والموازنات والموارد الكافية قد يفشل الحملة، وتنتهي بنصر للإرهاب والتطرف الذي يستغل مشاعر الشعوب، التي تعاني من استبداد وفساد الأنظمة الحليفة للغرب، فينشر إليها جميعا…

فأول نتيجة لضرب داعش في العراق هو تجميعها في سوريا، والسماح بعودة المليشيات العراقية للقتال إلى جانب النظام السوري تحت شعار الحرب على الارهاب، وثاني نتيجة هي موجة ارهاب عالمي جديدة. ومن دون استراتيجية متكاملة تحقق مصالح الشعوب وكرامتها ومشاركتها لا ننصح أحد بالتدخل واللعب بالنار.

أخيرا لا نستطيع إلا أن نقر بأهمية دور داعش التي ارتكبت هذه الجريمة المروعة التي حركت الضمائر، ونقلت صورة هذه البشاعة للعالم وأجبرته على الشعور بما يعاني منه الانسان السوري منذ سنوات وما من مجيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.