يثب

من المسؤول عن مأساة كرد عين العرب ؟

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

من السهل القاء التهمة على داعش ، فهذا يبرئ الجميع… لكن من هي داعش؟ كيف تكونت؟ وكيف دفعت لتحارب على هذه الجبهة التي ليست في أيديولوجيتها الجهادية!! وكيف استدرج الأكراد ليكونوا رأس الحربة ضدها؟ هذه الأسئلة ستحمل المسؤولية لأطراف عديدة يختفون وراء ظاهر الأحداث ويدفنون رؤوسهم في الرمال.

 قبل أكثر من عام من الآن اتهمني الكثير من الأخوة الأكراد بكل أنواع التهم والسبب أنني نصحتهم بعدم طرح مشروعهم الانفصالي (الفيديرالي) فيهذا الوقت وبتلك الطريقة، وقلت لهم لا تسمحوا باستغلال مطالبكم المحقة، من قبل مشروع استعماري- طائفي خبيث يعمل على تقويض الهوية العربية في المنطقة لصالح الصفوية الفارسية، ولاتكونوا شركاء أو طرف في هذه الحرب الأهلية الطائفية القذرة، بل المذبحة التي تتعرض لها الأغلبية العربية السنية، والتي تتم بتغاضي الصديق والشقيق قبل تواطؤ العدو، ولا تحاولوا استثمار هذه المأساة في مشاريعكم فهذا يفقد قضيتكم أهم عناصر قوتها (أقصد اخلاقيتها)… وشرحت لهم أن الوقت الراهن غير مناسب لفتح حوار وطني وحقوقي ودستوري حول مستقبل المنطقة، بينما الجثث تملا الشوارع، ورائحة الدم والدخان تزكم الأنوف، ومشاعر الخوف والجوع تسيطر على كل عقل.. وقلنا لهم لا يليق أن ترسلوا سياسييكم ليتحالفوا معنا شكلا وينتزعوا الوثائق التي تلغي الهوية العربية والوحدة السورية، بالتزامن مع جريمة الغئها عمليا ووجوديا وفيزيائيا كما حصل في حمص وغيرها، ولا يعقل أن تحالفوا قوى الثورة سياسيا، بينما بندقيتكم موجهة لظهرها، وانتم بنفس الوقت متحالفون مع هذه البندقية عبر السلطة الذاتية…

 يومها وبتأثير الحماس القومي الكردي العاطفي شتموني شيبا وشبابا وسياسيين وعاديين، فقلت لهم أخشى أن الذي ينتظركم قريبا هو نزيف دماء طاهرة غزيرة من خيرة شبابكم في المكان الخطأ ومن دون أي مكسب قومي او أخلاقي… وبعدها التزمت الصمت وأنا ارصد تطور الاحداث بحزن شديد… بينما قادتهم ركبوا عواطف الشعب الكردي المظلوم الحالم بالحرية والعدالة، بانتهازية وديماغوجية وقصر نظر معتادة عند امثالهم من القادة، وعند أحزاب كأحزابهم المتفرقة التي أدمن التجارة بالقضية القومية الكوردية على حساب الانسان، فدغدغوا مشاعر الشعب المظلوم، وأوهموه بقرب تحقق حلم إقامة الدولة القومية، في عصر العلمنة ومابعد القوميات… والتي ستغير كل ظروف حياتهم، وتحمل لهم مالم تحمله غيرها من دول (عانت من الفساد والاستبداد ومما هو اشد من الاحتلال)، فالحلم الكوردييتحقق بالقوة المحضة ويفرض الامر الواقع، وبالتنكر للصديق والشقيق وبالتحالف مع الغريب وحتى العدو… لأنه جاء في الفرصة المواتية التي لا تتكرر حسب تحليل جهابذة السياسيين المنفوشي الريش… الملون بالاخضر والاحمر والاصفر.. ولأن سلطة الحماية الذاتية (التي هي واجهة لأفرع مخابرات النظام وشبيحته)، قادرة على تحقيق ذلك الحلم، وسوف تتحول لجيش وطني ضارب.. وماعليهم سوى اطلاق الأسماء وتوزيع الحقائب.. في الدولة الجديدة التي رسمت حدودها بنفسها وعلى هواها، من دون اعتبار لوجود الآخر الشقيق المنشغل بجراحه…

 وهكذا سار الأخوة الأكراد في ركبين معا (ركب النظام الذي ورطهم في صراع مع العرب، والركب الأمريكي الغربي الذي وعدهم بالاستقلال (والذي استخدم الحق الكردي التاريخي) المسلوب بسبب سيايات الغرب ذاته (لفتح بوابة التقسيم الطائفي في المنطقة، وهو المشروع القديم الذي يعود لما قبل سايكس بيكو.

 هنا نتذكر أن اتفاقية سايكس بيكوا قد لحظت للروس حصة رمادية في شمال غرب سوريا، لكن الثورة البلشفية يومها رفضت تسلم حصتها ورفضت السياسات الاستعمارية وفضحت الاتفاقية وأظهرتها على العلن، في الوقت الذي كان فيه العرب (تحت وهم وخديعة الاستقلال والدولة القومية الواحدة) يطعنون ظهر السلطنة العثمانية في مقتل أثناء الحرب العالمية الأولى، وهو الذي أدى من حيث النتيجة لتمزيق واحتلال البلدان العربية كلها وفرض أنظمة عسكرية وفاسدة عليها كانت أقسى على شعوبها من جيوش الاحتلال

 لكن ومع عودة الروح لروسيا القيصرية بقيادة بوتين مجددا، حاول الغرب ارضاءها بإعطائها حق الهيمنة على الدولة العلوية الأرثوذكسية المنتظر تكونها على الساحل المتوسطي، لتكون تعويضا عن هذه الحصة التاريخية في المنطقة، يستخدمها الروس كقاعدة متقدمة لهم على المياه الدافئة، مقابل تعاونهم مع الغرب وتخليهم عن حلفهم مع الصين، والسماح للغرب بتطويع ايران وسحبها من تحالفاتها الشرقية . لأن تقويض النمر الآسيوي هو الشيء الوحيد الذي يسمح باستمرار الحضارة الغربية التي صارت مهددة اقتصاديا بشكل خطير من قبله.

 ولكي يقنعوا الأقليات السورية بمشاريع التقسيم هذه، تغاضوا عن ارتكابات النظام، وسكتوا عنها طويلا مما حرض واستفز ردة الفعل العنيفة، التي كان منها استخدام السلاح ثم أسلمة شعارات الثورة، ثم تغاضوا عن دخول المليشيات الشيعية أملا في المزيد من التحريض والعنف الطائفي المتبادل، وصولا للسكوت عن نشوء وتمدد المنظمات المتطرفة التي نشأت في حضن النظام وحليفه العراقي والإيراني ولخدمتهم، وبمعرفة أصدقاء سوريا وأشقائها ورعايتهم… والتي لعبت دورها هي الأخرى في تخريب الثورة وتمزيق النسيج الوطني وصيغ العيش المشترك، باسم نصرة الشعب السوري المسلم الذي ترك وحيدا في مواجهة الحلف الصفوي الروسي مع النظام، والذي مارس كل أنواع الإرهاب والجريمة ضد الانسانية على مرأى ومسمع العالم، الذي عطلت كل أنظمته ومؤسساته بتفاهم وتناغم أمريكي روسي خفي… وكل ذلك حدث في سياق التحضير لمؤتمر جنيف الذي كان يعول عليه أن يشرعن هذه الدويلات ويفتح لها باب الانفصال، فالسلطة الانتقالية المقترحة يومها كان يفترض أن تكون السلطة الكونفدرالية الهشة التي يتم في ظلها تكريس التقسيم والتطبيع. بإشراف روسي غربي، حيث لا يسمح بتحقيق نصر، ولا توجد امكانية لتحقيق اتفاق

لكن صمود الشعب السوري ورفضه لكل من قبل بجنيف أو ذهب إليها، ولكل ما قد ينتج عنها.. خاصة بقاء الأسد ونظامه المجرم… وخيانة الروس ونكثهم بكل وعودهم، مع تغطرس النظام الذي أرفق جنيف بحملات قصف وتدمير غير مسبوقة، ثم ادعاء النصر العسكري… ورغم انبطاح المعارضة المزيفة لم تنجح جنيف بسبب رفض النظام ، وتبعه الروسي بعملية احتلال لجزيرة القرم، والبدء بتهديد أوروبا الشرقية من جديد ، مع تزايد تغول الصفوي على شرق المتوسط، والدعم الصيني لكل هذه المسارات… مما غير اتجاه الأحداث فسارت الأمور نحو المواجهة الدامية والقاسية، حيث وجد الشعب السوري المحاصر والمشرد أن الطرف الوحيد القادر على منع اعلان استسلامه أمام النظام المجرم، هو هذه التنظيمات المتشددة التي ازدادت قوة ونفوذا مستفيدة من انقطاع الدعم عن المعارضة المعتدلة وتشكيلاتها المحلية غير المؤدلجة، التي أضعفت بتعمد أمريكي يهدف لإرغامها على القبول بمسار جنيف فانزاحت مجموعات المقاتلين لجهة التنظيمات المتشددة …

وفي النتيجة تركت الأقليات وعلى رأسها الكرد في مواجهة هذا الوحش الفتاك، بعد أن ورطهم كل من الغرب والنظام في فتح معارك معه واستفزازه. والذي استخدمه النظام لخدمة مشروعه التقسيمي في البداية ، ثم تعمد تحويل وجهته لمحاربة الأكراد الذين استخدم بندقيتهم (التابعة لتنظيم البي كي كي بنسخه المختلفة) لطعن الثورة وقمع الصوت الكردي الحر العقلاني، كما استنجدت بهذا الوحش العشائرالعربية المتضررة من الطغيان الكردي في شمال سوريا، والذي حصل بفعل النشوة القومية العاطفية المتسرعة للمليشيا الكوردية… وهكذا كسرت الشربة برأس الشعب الكوردي المسكين والفقير المظلوم والمضطهد، ليس فقط من قبل القوميات الأخرى بل من قبل سياسييه الانتهازيين المغلقي التفكير… بعد أن حولوا اتجاه البوصلة وتركوا معركتهم مع النظام لقتال معارضيه الذين لم يكونوا أحسن حالا، وهكذا انتقلت المعركة لداخل صفوف المتضررين من النظام، بغباء وقصر نظر من الطرفين بل أكثر من هذا بعمالة ووكالة غبية .

ودفع الشعب الكوردي الحالم بالحرية ثمنا باهظا خاصة في منطقة عين العرب كما دفع قبله أهل حمص، دون تقديم أي دعم حقيقي ممن يدعون محاربة الارهاب، وتركوا كما تركت حمص قبلهم ليقاتلوا التطرف حتى آخر كردي ويزيدي ومسيحي في المنطقة، بينما يقاتل العرب السنة النظام وإيران حتى آخر بيت وشجرة في مدنهم وقراهم …

إن اهمال الملف السياسي السوري لفترة طويلة والخبث و اللا أخلاقية في طريقة التعامل معه، أدى لتحوله إلى ملف أمني خطير وخطير جدا… قد يتسبب بحروب واسعة تدفع ثمنها شعوب بعيدة وقريبة بسبب لعنة هذا الدم البريء الطاهر الذي سفح في أغلب بقاع الوطن السوري خدمة لمشاريع سياسية غبية انقلبت على أصحابها .

ومن حيث النتيجة ، قلنا ونكرر أن أي مشروع هيمنة واستبداد لم يعد ممكنا بسبب ثورات الشعوب، وأن هذه المنطقة لا تحتوي على أمم مستكملة التكوين التاريخي الاجتماعي والاقتصادي والجغرافي والسياسي، وأن أي حلم قومي يجب أن يفهم هذه الحقيقة، وبالمقابل فإن كل مشروع تقسيم في المنطقة سيعني حربا طويلة ومدمرة لا تنتهي، ولن ينتج سوى كيانات ممسوخة وهزيلة وقمعية وارهابية، فالصيغة الوحيدة الممكنة والمناسبة هي صيغة الوحدة والتعاون في كل المنطقة مع الاعتراف بالتنوع الثقاف، فشعب هذه المنطقة ليس أمة بل هو شعب متعدد الثقافات والهويات والديانات والطوائف، وهذا لا يلغي وحدته وتداخله الجغرافي والتاريخي… وقلنا أن حل القضية الكوردية يمكن أن يتم في سياق وحدوي واتحادي شامل لدول المنطقة، وهذا هو السياق التاريخي في كل العالم الذي يميل للتوحد وليس للانقسام والانعزال، وأن الأولوية الآن لوقف النزيف والتدمير الذي يحصل في سوريا، وقلنا أن الفرصة التي أغرت قيادات الكورد باستغلالها، وهي الحرب الأهلية الظالمة التي دفع اليها السوريون، لم تكن أكثر من فخ وقعوا فيه ، دفع وسيدفع خيرة شباب الكورد ثمنه… ومن دون أي نتيجة.. فداعش التي يقاتلونها هي كيان وهمي غريب، يزول إذا توفر المشروع المتكامل البديل عن هذه الفوضى والجريمة، وكان من الممكن أن لا يندفع الكرد لتحمل العبء الأكبر من التصدي له، في الوقت الذي يستريح النظام، ويقف متفرجا على الشعب السوري وهو يذبح بعضه البعض…

ماذا سيقول زعماء الكورد والحماية الذاتية للأسر التي هجرت والتي قتل أولادها ودمرت بيوتها… بسبب الحرب مع عدو مصطنع ليس له هوية ولا وطن ولا يتبناه أحد ولم يكن موجودا في التاريخ ولن يكون في المستقبل … ولماذا يقاتل الكورد وحدهم هذا الوحش وهذا العدو؟ هل لديكم أجوبة يا قادة المجلس الوطني الكوردي وقادة الحماية الذاتية … هل فهمتم معنى المثل الذي يقول أن صديقك هو من صدَقك، وليس من صدّقك… وأنني لم أكن يوما ولن أكون عدوا للشعب الكوردي، ولا أي شعب، ولا متعصبا لأي قومية أو دين… وهل اقتنعتم أن أي سلوك انتهازي ولا أخلاقي محدد لذاته بل محكوم عليه بالفشل… ماذا كان سيحصل لو وقفتم على الحياد، أو وقفت بندقيتكم مع بندقية الثورة السورية… هل كان سكان كوباني سيتحولون للاجئين أم حتى سكان حمص؟؟؟ ماذا تنفع وثيقة الائتلاف الفيدرالية في مخيمات اللجوء في تركيا… وماذا ينفع زعزعة استقرار تركيا وسفك الدماء في شوارعها، وتوريطها في معارك صنعها الآخرون… وهل يفهم الغرب أن الحرب على الارهاب لا يمكن أن تتم من دون الحرب على مسببه واستاذه وهو النظام… وأن أفضل وسيلة لمكافحة الارهاب هي حماية الشعب السوري والسماح له بسكن أرضه ، وهو كفيل بإلغاء أي ظاهرة للتطرف والترهيب …

وبينما تفر شبيحة النظام وقوى الحماية الذاتية من المعارك التي اصطنعوها خدمة لأسيادهم الذين تركوهم وحدهم… يتطوع خيرة الوطنيين الكورد للدفاع عن شعبهم وتجتاح الشعب الكوردي مشاعر الغضب والاحباط والخذلان من دول التحالف وتستمر المأساة عندما يقاتل المظلوم مظلوما آخر …

 ستمر سنوات عصيبة حتى تحدث معجزة تغير ذهنية الغرب وقيمه ووسائله، أو معجزة ثانية في مكان آخر تغير أرضية الأزمة الحالية ومعطياتها كلها… وبانتظار احدى المعجزتين علينا جميعا عربا وكردا وفرسا وتركا أن ندفع المزيد ونعاني من المزيد بل علينا على ما يبدو أن ندخل في حرب أهلية اقليمية لن يكون فيها منتصر بل نهزم فيها جميعا. ليس فقط بسبب أعدائنا بل أيضا بسبب سياسيينا وكبرائنا قبحهم الله.

 وبدل البحث عن صيغ حضارية حقوقية ترضي الجميع وتفح باب الوحدة والتعاون القائم على العدل ندق بها باب المستقبل، ينكفئ كل طرف وينغلق على عقل متعصب متزمت يزيد نار الصراع توقدا من دون جدوى ولا أفق… فهل المشكلة في شكل الحدود أم في وجودها، وهل المشكلة في وجود الآخر أم في صيغ الحياة السياسية التي نعيشها معه؟ وكم (كوباني) سيمر علينا حتى نتعلم معنى الحضارة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.