يثب

كيف قتلنا الياسمين ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

كان جمال معروف أبو خالد (قائد لواء شهداء سوريا ثم جبهة ثوار سوريا) يسير مع من تبقى من المخلصين له منهمكا في جرود وجبل الزاوية التي عرفها جيدا وحررها شبرا شبرا ، يحمل معه سلاحه الفردي وجهاز الاتصال ويعلق على اقتحام (جبهة النصرة وحلفاءها ) لمواقعه واخراجه من ضياعه ودياره ، ومتهما إياها بخدمة النظام .

أبو خالد من رجال الثورة المسلحة الأوائل ، حرر جبل الزاوية من النظام بالقليل من السلاح والكثير من العزيمة والإيمان والرجال المخلصين للثورة، التي كان جمال أحد أشهر رموزها المقاتلين، وقد رفض عروضا كثيرة من نظام بشار الأسد لعقد هدنة أو اتفاق .. وتابع مسيرته حالما بأن يكون رجل سوريا في القادم من الأيام ، لكنه عمليا تابع مسيرته لبناء امبراطوريته الخاصة في جبل الزاوية، بسبب غياب أي سلطة وطنية جامعة للمعارضة على الأرض المحررة سياسية كانت أو عسكرية أو قانونية ، فالقيادة الوطنية المفترضة بقيت في الخارج تسكن الفنادق وتتسلى بالسياحة ، وتركت الأرض لتخضع لنفوذ المقاتلين الذين تحولوا لأمراء مطلقي الصلاحيات يملكون القوة والسلاح ويمارسون السلطة المطلقة ، وليس لديهم أي مرجعية أو عليهم أي رقيب .

ويوم هددت داعش مستودعات ومقرات جمال قبل سنة ونصف ، خرج عليها وطردها من جبل الزاوية وتعاون ضدها أمراء الجيش الحر والجبهات في ادلب وحلب والدير حتى أوشكت أن تموت في الرقة التي حوصرت فيها … لكن  المير جمال الذي أغدقت عليه الدعم كل من السعودية وأمريكا لكي يقبل بجنيف ويسير في فلك الجربا يومها ، أضاع ملكه أخيرا بسبب المال القطري الذي أمد أخصامه حتى أخرجوه من دياره واستولوا على كل بغداده … وما كان لهم هذا لولا أن خذله جنوده وأهل ضيعته الذين عانوا من سلطته ، فلم يمانعوا في تجريب شريعة أخرى غير شريعته السلطانية الثورية المطلقة.

خرج جمال نحو تركيا وقد يطلب اللجوء في بلد أجنبي، كما خرج من قبله الكثير الكثير من القادة والسياسيين الذين لم يبق لهم مكان ومتسع في ثورتهم ، طبعا مع أكثر من نصف الشعب السوري الذي فقد امكانية البقاء حيا في وطنه فهام على وجهه … الثورة التي كان يفترض بها أن تتسع لكل أبناء الشعب ، وكل المنشقين والحالمين والمناضلين ضاقت  وضاقت حتى لم تعد تتسع لأكثر أبنائها إخلاصا وأكثرهم قوة وأوفرهم دعما .. ولكي لا يكرر جمال مصير غيره من الذين يقدمون للمحاكم الشرعية الاسلامية التي تشبه محاكم  النظام الميدانية ، كان عليه أن يخرج وأن يترك رفاق دربه يبايعون القيادة الجديدة ، حتى لو تحت ترهيب القوة والاكراه والمذلة كما سبق لهم وبايعوا بشار ووالده من قبله … قبل أن يثوروا عليه طلبا للحرية .

فالحرية هي الشيء الذي لم يرده أو يدعمه أحد من الأصدقاء وخاصة الأشقاء،  وإقامة العدالة والنظام الديمقراطي في المناطق المحررة شيء غير مرغوب فيه …. فهم دعموا الثورة لإسقاط النظام وابعاد ايران،  لكنهم دعموا فيها الأجنحة التي تجدد للاستبداد بشكل آخر (ديني وطائفي )، فهم يخشون ايران والنظام السوري الطائفي ، لكنهم يخشون أكثر الحرية والديمقراطية ، لذلك كان كل الدعم يمر عبر بوابات الاخوان وشيوخ السلفية  ورموزها  وعن طريقهم يصل لأمراء الحرب ولمنظمات التطرف … بينما تم استبعاد وتفريق أو شراء الرموز الليبرالية لكي يكونوا بعيدين عن ساحة الفعل والقيادة والتأثير والذين لفقرهم وجوعهم التاريخي  وتفاهتهم انشغلوا بالمال والسياحة وتركوا الأرض ليتحكم بها قوى ظنت الدول الخليجية أنها حليفة لها وتعمل بأمرتها ، وهكذا طغى على الثورة في الأرض زعامة تمزج بين الدين وأمارة الحرب فجمعت بين الشرعية الذاتية المستمدة من الدين والقوة والغلبة المستمدة من السلاح وصارت تتنافس على السلطة وتتصارع على الموارد … والكل كان يقول أن هؤلاء من السهل القضاء عليهم والتحكم بهم مباشرة بعد اسقاط النظام . وأن سعرهم معروف .

مكرو ومكر الله ، و جعل الإسلام عصيا على  هذا الاستخدام الشيطاني ، فخرج من رحم هذه المجموعات منظمات الجهاد والتطرف التي فقدوا السيطرة عليها وصارت تبتلع الأرض من دون مقاومة، لأن الناس ملت نظام الفوضى والجريمة والتشبيح الذي تمارسه الجبهات التي تأتمر بأمر الخارج،  أو تسير في فلك الوسيط معه أقصد الائتلاف ومؤسساته المستغرقة في الفساد والشلل . التي تتلقى التعليمات من مجموعة سفراء 11 دولة يتحكمون بالتمويل  والتسليح والغذاء … والقرار .

كانت وجهة النظر الخارجية  أن هذه السلطات  المحلية الهزيلة ، والتي تتاجر بالدين وتتلقى الدعم وهي في الواقع أمارات حرب ، لن تشكل خطرا على أي مشروع لسوريا جديدة تدور في فلكهم وبإشرافهم ، وتتبنى النظام الذي يرضون عنه وتعين السلطة التي يريدونها عندما يريدون ، وتبعد عنهم شبح الحرية والديمقراطية ، وطالما هم يستخدمون الدين لتبرير القمع في بلدانهم وتكريس الاستبداد ، فما المانع من ذات الفعل في سوريا المسلمة ، والتي فرض على ثورتها زعامات دينية لم تكن يوما تحمل أي امكانية لفعل التمرد أو الثورة،  بسبب تاريخها الطويل في الخنوع للأنظمة … لكن من وجهة نظر الشعب في الداخل هو لا يستطيع تحمل هكذا نوع من السلطات الفاسدة التي تتاجر بالدين ، بل سيفضل عليها مجموعات مخلصة الدين تلتزم بما تعلن …

وهكذا وبسهولة سقطت القيادة الدينية المزيفة وجاءت القيادة الدينية التي تنفذ قناعاتها، وخرجت اللعبة من يد دول النفط ، وذهب السلاح والمال والسلطة والمقاتلون لصفوف الجبهات التي صنفت ارهابية والتي كانت في بدايتها أشبه بالكرات التي تتلاعب فيها الدول وتستخدمها … وصار عميل الأمس عدو اليوم وخطرا مباشرا على أنظمتها … وهكذا كما هي العادة وقعوا في شر أعمالهم . فبعد أن نجحوا في قتل الثورة الحقيقية، واستبدلوها بالتطرف الديني الأصولي الطائفي بزعامة كاذبة لحزب الإخوان وغطاء كاذب من ليبراليين تافهين باعوا أنفسهم بالمال … فوجدوا أنفسهم في مواجهة ما عملوا جاهدين لإنتاجه ، وانتقلت الثورة التي يخشونها إلى ديارهم ، لكن ليس في لباس حريات ونزاهة وشفافية وانتخابات ديمقراطية . بل على شكل تطرف وارهاب وعنف… يتناسب مع ثقافة مجتمعاتهم التي حكموها بالعقل الديني المنغلق وكرسوا فيها نظام الاستبداد .

لقد ماتت الثورة لأنها ثورة حرية ، وعندما تموت هذه الحرية تموت الثورة ، وعندما تؤخذ البيعة بالقهر والقوة والترهيب يموت ما تحرك الثائر من أجله ويعود كما كان عبدا وضيعا تحت تصرف الآخرين … فتصبح الحرب الدائرة في سوريا حربا بين دول وأنظمة قهر ، ويخرج الانسان من دائرة الأهداف ويتحول لضحية كائنا من كان المنتصر في هذه الحرب ، والذي يصبح من واجبه تركهم يتصارعون حتى يقضوا على بعضهم البعض ، فهو ليس طرفا في هذا الصراع .

ماتت الثورة منذ أن اختطفت قيادتها تحت مسمى المجلس الوطني الذي حول السياسة والقيادة لسياحة، وبعده ائتلاف العار والفشل الذي صمم لبيع الثورة في جنيف لكنه فشل بالبيع أيضا . ومنذ أن قتلت رزان زيتونة على يد الثوار السلفيين ذاتهم دون أن يهتم بمصيرها أحد … وبعد سقوط زميلاتها الليبراليات في تفاهة الشكليات والفساد بسبب المال السعودي القطري غير المراقب ، ومنذ غرق زعامات المعارضة في مستنقعات الهوان على أبواب التمويل الخليجي ، من دون مؤسسات ولا صناديق مراقبة فتحولت الثورة لتسول ، والدعم لرشوة ،  والقيادة لخيانة ، واساءة أمانة ، واللقاح الشافي لسم قاتل للأطفال المساكين . ماتت الثورة بفعل أبنائها عندما صاروا مأجورين مستأجرين لصالح دول متصارعة تضمر ما لا تعلن … ماتت الثورة بسبب دعم الأشقاء والأصدقاء الذين كان هدفهم غير المعلن هو الفساد والافساد وشراء الذمم و تولية الوكلاء التافهين ، و شرطهم ضرب أزلام الآخرين والتغول عليهم  … فلكي تحصل على تمويل سريع ووفير عليك أن تفتح معركة مع أحد وكلاء الدول ، لكي تغدق عليك الدولة الثانية المعادية لها فعلا ، بينما هي شقيقتها شكلا  …  نعم الاستزلام ثم خلافات الممولين هي من قتلت الثورة وأبقت على النظام ، وسمحت لأمير الحرب الأكثر ترهيبا وهمجية أن يحتل الساحة ويبتلع الجميع  … وما كان ذلك ليحدث لو لم يزرع حافظ وولده في ثقافة هذا الشعب ما زرعه من فساد واختلاس وتسلط ورشوة وغدر وخيانة وانعدام العمل المؤسساتي لصالح الولاء الشخصي . فهو لم يحضر الجيش فقط لحرب طويلة مع شعبه في كل المحافظات بعد أن تعلم من درس حماه … بل أيضا أدخل للثقافة فيروسات مدمرة لكل اجتماع ونظام ومؤسسة لا تقوم على القهر ولا تعيد انتاج النظام .

كنا في سجن عدرا في أواخر صيف 2011 وكانت الثورة تردد تحيى سوريا ويسقط بشار الأسد ، وكنا نخشى فعلا أن يحدث العكس (أن تسقط سوريا ويحيى بشار الأسد )… فالخشية من سقوط الوطن والدولة وبقاء النظام كان كبيرا بسبب القصص التي كانت تردنا عما يجري في الخارج وبشكل خاص باسم الثورة والثوار ، وعندما خرجنا من سوريا السجن ، سرعان ما أدركنا أن الثورة ذاهبة لفشل وأمارات حرب وتطرف … في حال بقي المجلس الوطني بعيدا عن الفعل القادر على التنظيم والادارة والقيادة والتحكم …. ولم تنفع صرخات الاحتجاج والتحذير في مواجهته ومواجهة الائتلاف من بعده … وذهب الجميع حيث أراد …. و

ذهب الحمار بأم عمر        فلا رجعت ولا رجع الحمار

في القضاء تحفظ الكثير من القضايا شكلا بسبب بسيط وهو وفاة صاحب القضية… وقد كان من المحرم اعلان وفاة الثورة قبل هذا الوقت ، لأن ذلك يعني خدمة النظام واضعاف الروح الثورية عند الشعب ، لكن الآن أصبح ذلك ممكنا ليس لأن قضية الحرية  والكرامة قد ماتت وشبعت موتا ، بل لأن الشعب صاحب هذه القضية قد مات وتبدد وسكن المخيمات ، أو تحول لمجرد قطيع محاصر جائع أو مطيع مرعوب ، أو مبايع لقاطعي الرؤوس … أو تراه يبحث عن جنسية ووطن في بلاد بعيدة فترحب به أعماق المحيطات …

ماتت سوريا ، ومات الشعب السوري ، وماتت الحرية وماتت الثورة وبقي النظام ، ولكن عاش الارهاب كدليل وحيد متبقي على الثورة ، التي أصبحت  روحها لعنة تطارد كل من ساهم في قتلها … أليس ذلك نتيجة طبيعية  لقيادة المجلس الوطني والائتلاف الممثل الشرعي الوحيد ، أليس ذلك بسبب  مساعدة أصدقاء سوريا!!! … أكرم بهم من قادة ومن أصدقاء ومن أشقاء … وأكرم بها من صداقة . فعلا نسأل ماذا تركوا للأعداء وبماذا اختلفوا عن النظام … أرجو أن لا يتهم أحدا اسرائيل بما يحدث اليوم في جبل الزاوية  وما سيحدث غدا في الغوطة ثم درعا . ليس لأنها لطيفة وظريفة … بل لكي لا نبقى عميان عن الفاعل الحقيقي المسؤول عن كوارثنا التي نصنعها بأنفسنا وبأيدينا وبمساعدة أشقائنا، وبسوء استعمال ديننا الذي فجأة تحول تطبيق شريعته التي درسناها في الكتب لإرهاب وبربرية … على الأقل ليخجل أحدهم ويعدل المناهج التعليمية … ( حدود الله إرهاب وبربرية ؟؟؟؟ )

والمسؤول الحقيقي عن مصائبنا التي ليس أقلها صناعة بشار و داعش ونصر الله  والائتلاف وحيتان الفساد وأمراء الحرب  ومنظمات التطرف والارهاب … هو تكويننا وقيمنا وثقافتنا وعلاقاتنا ببعضنا وطريقة تنظيم حياتنا المشتركة … لذلك لا محالة قضية ثورة الشعب السوري ستحفظ ويرقم قيدها، وتسلم لوحاتها وتتحول لأنقاض ، أسوة بثورات سبقتها للترقيم في مصر واليمين وتونس وليبيا … أيضا وأيضا بسبب  خلل فينا ، ودعم الصديق والشقيق ، وليس فقط وجود عدو … وبانتظار هلاك المتصارعين على الاستبداد لا يمكننا كطلاب حرية وكرامة سوى أن ننتظر وننتظر….. حيث لا يجوز لأحد أن يتخيل أن الشعب السوري سيفعل أي شيء لمحاربة الارهاب إذا كان ذلك سيسمح بعودة النظام ، أو من يشبه هذا النظام من وكلاء وفاسدين بات يعرفهم جيدا …. لذلك يتوجب على أصحاب المبادرات والصفقات أن يفهموا هذه المعادلة جيدا ، وعلى من يريدون محاربة الارهاب من دون النظام الأكثر ارهابا أن يقاتلوا بجيوشهم هم وأولادهم هم طالما أن هذا الشعب مستبعد من ساحة الفعل والارادة والحرية والاهتمام  ويراد التحكم به بواسطة النظام أو غير نظام ، وسرقة قراره وارادته وحياته ورزقه …  متذكرين أبيات الشاعر محمود درويش :

مشت الخيول على العصافير الصغيرة

فابتكرنا الياسمين

ليغيب وجه الموت عن كلماتنا

فاذهب بعيدا في الغمام

وفي الزراعة

لا وقت للمنفى وأغنيتي

سيجرفنا زحام الموت

فاذهب في الزحام

لنصاب في الوطن البسيط

وباحتمال الياسمين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.