يثب

ويسألونك لماذا هذا التقلب ؟

د. كمال اللبواني 

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

أكتب هذا المقال الخاص لأعز أصدقائي الذين تبقوا … والذين تعاهدت معهم على اسقاط  هذا النظام بعد أن استشهد من استشهد  في سجون النظام أو في المعارك معه ، وسقط من سقط  في مستنقع  التنازع على المناصب والزعامة والتمويل في صفوف المعارضة الخارجية، ونسي الثورة التي صارت بالنسبة إليه تجارة بكل أسف ، ولأنهم قلة قليلة متبقية على العهد ، ولأنهم أعزاء وكرام … سوف أجيب على تساؤلهم المحق هذا بوضوح وشفافية تامة ، ليس لأدافع عن مواقفي و (أتفزلك ) جاعلا من نفسي حكيما عارفا ، ففي ذلك اهانة لهم ولكل قارئ، إهانة يرتكبها سياسيينا (اسوة بقائدهم الملهم المرجوم وعلى نهجه المشؤوم )… بل لأنقل اليهم طريقة فهمي للسياسة و اتخاذ المواقف و التفاعل مع التغيرات المتسارعة ، وطريقتي في التعامل مع ظروف وحيثيات كل قرار اتخذته أو تحول قمت به كما يسمونه …

من وجهة نظري الوجود في الحياة الدنيا يا أخوتي مبني على النسبية وليس على المطلق ، وعلى الحياة والموت ، و التغير والتبدل والحركة والتفاعل ( الديالكتيك )  ووحدة وصراع الأضداد ، فكل شيء نسبي وضده من جنسه ، والله  سبحانه قد خلق الخير وخلق الشر أيضا، ويسرهما كليهما معا ( ونفس وما سواها ، فالهمها فجورها وتقواها ،قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ) وجعل في كل شيء نقيضه وعناصر فنائه … (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ) ، وسلوك كل شيء فيه الخير وفيه الشر معا ، ولا يوجد خير صاف أو مطلق ولا شر صاف أو مطلق ، فكم من حي هلك من فرط التغذية ، وكم من مريض هلك لنقص في جراثيم أمعاءه …. وهكذا من غير المنطقي الحديث عن ثبات مطلق على موقف سياسي متفاعل ومتغير …كونه متعلق بالكائن الاجتماعي الحي المتغير الذي لا يستقر على حال في الأحوال العادية فكيف في زمن الثورة ؟ ، بل المنطقي المنسجم مع نواميس الكون الموحدة بوحدانية خالقها … هو السعي بكل الوسائل المتاحة لتحقيق غايات وأحكام أخلاقية تعطي لوجودنا الإنساني معناه وتميزه ككائن يتمتع منفردا دون غيره بحرية الاختيار والعقل الذي هو وسيلة معرفة الحقيقة وميزان تقييمها ، وهو ما كرمنا الله به واستخلفنا عليه. (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)

كنا في سوريا (الأسد والبعث )، وكان خلافنا مع النظام يتعلق بمسألتين اثنتين ( الاستبداد السياسي الطائفي  والفساد الإداري والاقتصادي  ) وكنا نسعى لتطوير النظام السياسي ليصبح أكثر ديمقراطية وأقل فسادا وافسادا ، وخضنا من أجل هذا الهدف معركتنا مع هذا النظام ما استطعنا من وسائل نضال فكري وسياسي … ولا داعي للتذكير بما فعلناه يوم عزت الأصوات المعارضة … ومن منابر ومنظمات مختلفة وكثيرة دون أن نحيد لحظة عن هذا الهدف. ويوم قمت في جولة في أوروبا وأمريكا لحشد التأييد والدعم لمشروع تغيير النظام الذي طرح في صيغة اعلان دمشق عام 2005 … تعرضت لما تعرضت له الآن من نقد وسوء فهم ونكران حتى من أصحاب الإعلان ذاتهم الذين خذلوني عندما كنت في السجن أواجه محاكم النظام ، الذين كانوا وما يزالون يمارسون السياسة بكتابة البيانات التي ليس فيها غير يجب ويتوجب ، من دون أي فاعل مقترح أو داعم مساند يؤمن له أدوات الفعل  … ولو نجحنا يومها لجنبنا سوريا كل هذه الويلات.

وعندما اندلعت ثورة الحرية والكرامة … أعلن النظام الحرب على المجتمع مخيرا له بين الابادة  أو الركوع،  فوجدنا في حمل السلاح وسيلة وحيدة للدفاع عن النفس والكرامة ضد مجرم منفلت من كل الضوابط لم يحفظ حرمة ولا عهدا ، بل استباح كل شيء في وحشية مطلقة طالت الجميع … ماذا ستفعل مع من دخل عليك بسلاحه وعسكره وأمنه وشبيحته ، ليفعل فيك وبأهلك ما يفعله الوحوش … ( هل تنادي سلمية سلمية ، بينما هو يستعمل السلاح ، أم تمارس ضبط النفس وتحتفظ بحق الرد وتتمسك بخيار السلام !!! ) .. لو كانت الثورة السورية ليست ثورة تحدي وكرامة ،لكانت ربما تصرفت بطريقة أخرى فيها ما فيها من الخنوع والوضاعة، لكن عنفوان الكرامة وصرخة الحق في وجه الغطرسة والطغيان والطاغوت ، هي من شرعت وبررت حمل السلاح في وجه طاغية جبار لص حقير وطائفي قذر وضيع ليس له ذمة ولا عهد، وهذا يتماشى تماما مع هويتنا وديننا، ومع الشرعة الدولية لحقوق الانسان التي تحفظ أولا حق الحياة، الذي يتضمن الحق في الدفاع عن النفس كحق مقدس من حقوق الانسان يقره المجتمع الدولي ويقر به لكل فرد أو مجموعة تتعرض للعدوان …  وهكذا فرض علينا النظام التصدي المسلح له … وأصبحت مشكلتنا معه ثلاثية ( استبداد + فساد + جنايات وجرائم ضد الانسانية ) ولذلك كانت الدعوة لإسقاط النظام بالحرب الشعبية من وجهة نظري مبررة ومنطقية تماما وأخلاقية أيضا، وصحيحة سياسيا … ولم توجد خيارات أخرى غير التدخل الخارجي الذي لن يحصل (كما فهمت منذ أن خرجت من السجن  ومن فم السفراء الغربيين أنفسهم الذين كانوا ما يزالون في دمشق يومها … أواخر عام 2011 ) .

فحمل السلاح كان ضرورة فرضتها علينا كرامتنا ووحشية النظام وهمجيته وتخلي النظام العالمي عن مسؤوليته في حماية المدنيين ،  وككل مجرم معتد أثيم متمادي لا يمكن ولا يجوز فتح حوار معه بل لابد من الضرب على يديه ، وسوقه للعدالة بالقوة والاكراه . وعليه رفضت منطقيا وأخلاقيا كل ما له علاقة بالحوار مع القتلة والمجرمين الذي استباحوا الدم والعرض والمال وكل ما حرم الله … لأن ذلك مخالف للدين والأخلاق ولمنطق الكون وقانون المجتمعات التي لا تقوم الا على العدالة ، فلا سلم اجتماعي مع تغييب العدالة … ومكافأة الجاني أو التسامح معه قبل أن يجلس صاغرا أمام الحق هو عملية تشجيع له ولغيره على تخريب المجتمع  ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب )

النظام ليس عدوا خارجيا ، يحكم دولة أخرى ، لتكون علاقتنا معه علاقة دولة بدولة أو شعب بشعب آخر … إنهم أهلنا وأبناؤنا الذين هم منا ونحن منهم وخرجوا علينا بالسلاح ليحطموا كل ما يربطنا بهم من عقد للسلم أو من صلات قرابة وأخوة وحطموا وجودنا كشعب تعاقد على السلم والإخاء ، فما قاموا به هو نكوص نحو الفتنة والوحشية  تستوجب القصاص ، وليس حربا تقليدية بين دول مختلفة ، تتوقع دوما العدوان من جيرانها وتحتفظ بجيوشها على حدودها لتمنع ذلك ، فما جرى بيننا ليس حربا بمعنى الحرب بين الدول ، ولا تنطبق عليه قوانين الحروب ، بل هو جرائم يرتكبها مواطنون مكلفون بحفظ القانون وحماية المواطن ضمن مجتمع متعاقد متآخي يشكل دولة وسلطة ، له كل الحق في معاقبة من لا يلتزم بما تم التعاقد عليه .

تحول الصراع مع النظام والذي هو نظام الدولة وليس دولة أخرى ، لحرب ضروس بين مكونات المجتمع عندما استنجد ببعض الأقليات واستنفر مشارعها الطائفية ، ثم لحرب الغاء طائفي تخوضها مليشيات شيعية قدمت لنصرته … وفي هذه الحرب الظالمة التي فرضت علينا وبشروطها التي تعطي للنظام تفوقا هائلا في السلاح والعتاد والدعم ، كان لا بد من التكيف مع هذا الخلل في التوازن باعتماد الجهاد والعمليات الاستشهادية ، وعليه كان من الطبيعي نمو وازدهار أيديولوجيا الجهاد الديني لمواجهة هذه الحرب التي أفرغت حمص وأغلب حلب وأغلب سكان درعا وريف دمشق . وبدأت عمليات تغيير ديمغرافي استيطاني يهدف لتحويل الأغلبية العربية السنية لأقلية فعلية مقهورة ، يفرض عليها الرضوخ والتشيع بالقوة والقهر … ضمن مشروع ايراني روسي حاقد وخبيث ومدمر ..

في الحروب عادة هناك عناصر قوة وأسلحة مختلفة يمكن استخدامها … نحن لم نجد سوى التشدد الديني الجهادي كأيديولوجيا قادرة على حشد المزيد من الدعم والمزيد من المقاتلين الأشداء المستعدين لخوض حرب غير متكافئة مع عدو مدعوم دوليا… وعليه تساهلنا و أحيانا شجعنا مسعى الجهاديين لمنع المجرم من استكمال جريمته، وسط تنكر دولي وخذلان الشقيق والصديق … فالمعركة قاسية لدرجة أجبرت أغلب فئات المجتمع ميسورة و المعتدلة  على الفرار خارجها …

هنا لا ننسى أن أمريكا استخدمت السلاح النووي لفرض الاستسلام على اليابان … واسرائيل تخزن السلاح النووي للدفاع عن وجودها ، وايران تسعى له لتفرض هيمنتها … فالحرب ليست موقفا أخلاقيا وجماليا … إنها خراب وتدمير وقتل وعنف وهمجية، وأنت تبحث عن كسبها باستعمال أشد الأسلحة وأكثرها فتكا ، والنظام استخدم كل أسلحته فلماذا نحن لا نستخدم ما نملك دفاعا عن أنفسنا… وهنا كانت الأيديولوجيا السلفية الجهادية عموما هي العامل الذي منع الاستسلام للنظام وايران وحزب الشيطان ، وجلب الدعم اللوجستي من دول الاسلام وباسمه … ومن هذا الباب حاذت على قبولنا كوسيلة وحيدة للبقاء والدفاع عن الوجود وهي إلى الآن القوة الأساس في التصدي لميليشيات حزب الشيطان وشبيحة النظام ، وهي من أذاقتهم المر في أكثر من جبهة ، مع العلم أنها نمت وتمايزت بين صفوف الجيش الحر ( المجموعات العسكرية المحلية التي ضعفت تدريجيا وسيطر عليها أمراء حرب فيما بعد نظرا لغياب القيادة الفاعلة للمعارضة الوطنية) …

وبالنظر لغياب أي مشروع دولي لإسقاط النظام ، بل بسبب التآمر والسعي للإبقاء عليه عبر مسار جنيف الخبيث .. قلنا في مواجهة هذا المسعى أننا مستمرون في التصدي العسكري لهذا النظام حتى لو كان ذلك على يد الجماعات الاسلامية الجهادية لأنه خيارنا الوحيد المتبقي … يومها قلنا أن الدولة الاسلامية قادمة حتما ضمن هذه الظروف (في حال الاصرار على مسار جنيف وعدم الاسراع في اسقاط النظام وتحقيق مطالب الشعب واعادة المعتدلين لديارهم) ، وقد أعلنت ذلك من محطة الجزيرة كرسالة تحذير قبل انعقاد جنيف بعدة أشهر ، وقلت إذا كان الخيار بين الاستسلام للمجرمين ، وبين الدولة الاسلامية فنحن لن نعترض على دولة تطبق معايير وقيم الخليفة أبو بكر وعمر وتعتبر القرآن دستورها … يومها كانت داعش في مسار تراجع تحت ضربات الجيش الحر …

لكن الجيش الحر أجبر بضغط  الأصدقاء والأشقاء على القبول بجنيف ، وقطع عنه الدعم لكي يقبل بذلك، فضعف عسكريا وجماهيريا وتنظيميا … واستمرت سياسة الاضعاف هذه على أمل تقديم المزيد من التنازلات لصالح النظام الذي يزداد تشددا … حتى اجتاحته في النهاية منظمات التطرف بكل سهولة ويسر …. وقد حدث ما توقعناه بالضبط وأصبحت دولة الخلافة الاسلامية حقيقة واقعة ، وهذا لا يعني أننا كنا نسعى لإقامتها كهدف ، بل كنا لا نرى في الساحة غيرها يحارب مشاريع أسوأ منها : الاستلام للنظام الفارسي المجوسي ليفعل بنا ما فعله هولاكو وتيمورلنك  ، أو التقسيم الطائفي الحقير القائم على عنصرية وتعصب وتهجير وحروب ابادة وفوضى وانتقام لا ينتهي … والشعب السوري بسبب الجغرافيا والديمغرافيا هو شعب واحد متعدد الثقافات والديانات ، ولا يمكن تقسيمه من دون عمليات جراحية قاتلة … كان واضحا لنا مسار الأحداث هذا … وكان واجبا علينا أن نقارع الحديد بالحديد ، ونحذر و نعلن موقفا واضحا مما سيأتي وسيتبع يقينا منا بحتميته…

ونحن اليوم كما كنا بالأمس  نفضل حكم منظمات التطرف على الاستسلام للنظام وحلفائه ، لأن هذه المنظمات لن تخرج الأغلبية من ديارهم  ولن تستولي على أملاكهم وتستبدلهم بمرتزقة طائفيين . إنا تريد السلطة المطلقة واخضاع الجميع  لكسب الحرب … والتخلص من نظامها  القاسي ممكن بعد انتهاء هذه الحرب ، فهي مضادة لزمانها وطارئة بقدر الظروف العسكرية التي فرضتها … خاصة وأن أغلب عناصرها هم من أبناء سوريا الذين ينتمون أولا وثانيا لأهلهم وعائلاتهم وليس لأيديولوجياتهم . فحق البقاء في الوطن هو الهدف الأهم الذي نعمل على تحقيقه لعشرين مليون انسان معرضين للقتل والتهجير والاستعباد … ولن نغير من ترتيب هذه الأولويات . لأن كل الأمور الأخرى لا قيمة لها من دونه .

وعندما تبين بشكل واضح التوافق الروسي الأمريكي على تقسيم سوريا والعراق وتقاسمهما مع إيران ، قامت داعش بفتح الحدود وأقامت دولة الطائفة السنية الموحدة في سياق قيام الدول الطائفية المتعصبة المقترحة … وهي الوحيدة التي استطاعت كسر الهلال الشيعي واجبار ايران وشيعة العراق الموالية لها على الانكفاء والدفاع عن ديارهم … نعم ليس كل شيء ( إما جيد كله أو سيء جله ) بل هناك جانب سيء وهناك جانب جيد في كل شيء . والتعامل السياسي معه هو امتلاك الذكاء الكافي للإفادة من حسناته وتجنب سيئاته دون الانصهار فيه … فداعش وبالرغم من كل مساوئها شكلت رسالة تحدي ورفض للمشاريع الدولية التي تحتقر الوجود العربي السني في الشرق الأوسط … وهذا ما يشعر به الكثير من مواطني الشرق العربي رغم معاناتهم ، ورغم تذمرهم من سلوك هذه المنظمة الارهابي  بل وادانتهم لها … لكن ما هو البديل المقترح عليهم، وما هي الخيارات وما هو المشروع الدولي لمستقبل سوريا والمنطقة … نحن لم نسمع شيئا بخصوص الأغلبية ، وكل ما نسمعه يخص الأقليات هنا والأقليات هناك … أين هو المشروع الحضاري الشامل لكي نسير به، ونضرب بيد من حديد على كل متطرف متعصب والسنة هم الأقدر على ذلك وتجربة العراق تشهد … كل ما نراه حتى الآن هو معايير مزدوجة وتقوية لإرهابي ومجرم ليرتكب المزيد من الارهاب والجريمة … ولأنه من الأقليات هو يحظى بالحصانة من العدالة الدولية … إنها رسالة حقد وكراهية عنصرية ودينية يجب أن تتوقع رسالة جوابية عليها من ذات الطبيعة … إنه تحدي واستفزاز لروح الأمة التي أعزها الله وسمح لها بالقتال دفاعا عن عزتها . (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)

المقارنة بين حاضر وغائب أو بين واقع معاش ومستقبل متوقع هي مقارنة غير عادلة، فنحن قبل أن نبقى في أوطاننا لن نفهم معنا النقاش عن مستقبله .. اضمنوا  حق البقاء لعشرين مليون مواطن ، وافتحوا باب العودة الآمنة لهم ننتقل معكم للمرحلة التالية … التي هي شكل نظام الحكم وصيغة العيش المشترك … بالتأكيد هذه المنظمات لا تطاق كنظام حكم . وخلافنا معها كبير سياسي وثقافي وقانوني وديني … لكن وجودها في معركة الوجود المفروضة علينا هو ضرورة مرحلية، لكي نبقي احتمال العودة قائما … أما احتمال بقائها واستمرارها في المستقبل فهو هزيل، بسبب تناقضها مع التاريخ ومنطق وروح العصر وطبيعة الشعب الذي اختفى من الوجود … نحن هنا في معركة عسكرية وليس في معرض المقارنة بين ثقافات أو لوحات فنية ، أو بين  أيديولوجيات أو أساليب عيش ونظم حكم … لأن العيش نفسه في الوطن صار مستحيلا على أغلب سكان سوريا … فمن يعيده لهم …

بإعلان الحرب على الارهاب التي ستقضي على عنصر القوة الذي يمنع استسلامنا ، صرنا في مأزق كبير يتطلب منا إما دعم هذه المنظمات بشكل مطلق على علاتها ، أو البحث عن خيارات أخرى ، وهذا يتطلب منا حراكا ديبلوماسيا واسعا ، بل قفزات بعيدة لكي نفتح مسارات جديدة غير ارهابية وتضمن عدم الاستسلام للنظام والمشروع الايراني الذي يلغينا من الوجود في سوريا والعراق ولبنان على الأقل .. خاصة وأن هناك مسعى أمريكي جدي جدا للتحالف مع ايران ضد السنة الارهابيين بنظرهم ، في الغرب تخوف جدي من قوة العدو التاريخي جنوب وشرق المتوسط، ولم يستطيعوا حتى الآن الخروج كليا من العقل الصليبي الذي حملوه لقرون وقرون . وهناك تخوف دولي كبير من استعادة الاسلام لدوره السياسي في مناطق انتشاره الواسع خاصة بأيديولوجياته الراهنة التي تقوم على نظرية المؤامرة ، والحليف الطبيعي لهم في الحرب ضده هم الأقليات المحلية والأخصام التاريخيين في المنطقة، وتقويتهم والتحالف معهم تصبح سياسة واقعية وعملية للغرب المتوجس …

وهذا الاصطفاف خطير جدا وينذر بحرب أهلية وطائفية ودينية طاحنة في المنطقة كلها التي تنزع نحو عدم الاستقرار من غرب آسيا حتى شمال أفريقيا … لذلك كان لا بد من وضع العصي في عجلة هذا التطور الخطير ، و لا بد من طرح مشاريع أخرى للعيش والسلام  تحقق الطموحات المشروعة للعرب والسنة وغيرهم وتساعدهم على تجاوز الحاجة للتطرف، الذي هو ردة فعل على فعل العداء الذي يتجلى ويتكرر ، ولا بد من محاولة القفز فوق هذا المنطق ، بحيث يتم تطمين الغرب المتوجس والأقليات من تنامي نزعات العداء والعنف تجاههم ، وافهامهم أنها ردة فعل يمكن أن تضمحل وتزول عبر اتخاذ إجراءات متبادلة ضمن مشروع جديد يتجاوز ثقافة الماضي الذي انتهى وتجاوزته الحضارة والعولمة … وعليه ولكي نكون في المكان المناسب لتقديم هذا المشروع المختلف قمت بزيارة إسرائيل حليف الغرب المدلل الأول ورأس حربته كما يقال ، لاستكشاف واستيضاح آفاق أخرى تمنع عنا شرب هذا الكأس (أقصد خوض حرب ضروس ضد الغرب وحلفائهم من الأقليات التي تُحضّر وتدفع لمثل هذا الصراع لتقاتل نيابة )… والذي سيضطرنا للسير خلف القادة الأكثر تعصبا، كونهم الأكفأ قيادة في مثل هكذا صراع وجودي خطير … مع أن هذا الشكل من الاسلام  ليس هو الشكل الوحيد ولا هو الأمثل، لأن الاسلام هدى للناس ورحمة ، ومع ذلك ليس أداة لتسهيل استعبادهم ، فقد ترك لهم امكانية الحرب والقتال كخيار مشروع في ظروف معينة ( الجهاد ) .

لم أجد الأبواب مغلقة أمام صوت العقل ، بل لمست توفر امكانية للقفز فوق هذا الواقع المأساوي ، نظرا لوجود وانتشار ثقافة معولمة مختلفة عن الماضي لكنها لم تنضج بعد لتصبح سياسات حكومية عند أغلب الحكومات الغربية ، فهذا يرتبط بالطرف الآخر أي بنا ، لذلك كان لا بد من التواجد وفتح هذا الحوار وجها لوجه ، كذلك كان من السهل اقناعهم بهشاشة النظام الايراني والسوري ، وهشاشة تنظيمات التطرف مثل داعش  وغياب الحاضنات الاجتماعية لها … أي أن باب السلام مفتوح على مصراعيه لمن أراد الدخول . وجبهات الحرب مشتعلة لمن أراد الحرب .

ولذلك ومع إظهار القوة والحزم في مواجهة العدوان ، من المفروض علينا أن نقدم الخيار الآخر الحضاري والأخلاقي في حال تقرر وقفه … وهذا عمل سياسي مزدوج الوجه لكنه متكامل وغير متناقض … ولم أجد عقول معادية مغلقة لا تقبل بهذا الاحتمال ، لكن تحويل هذا الاحتمال لواقع يتطلب أكثر من الطرح ومن الحوار .. نعم هم يفكرون بطريقة مختلفة عنا … النظام بالنسبة لهم ثقافيا وأيديولوجيا أفضل من المعارضة المتطرفة ، لكن الحديث عن امكانية تقديم خيار ثالث ، ووجه آخر للإسلام عندما لا يجبر على الحرب ، هو مشروع يحظى باهتمام واسع في الغرب ، ويمكنه أن يفتح امكانات جديدة قد تسمح بتجنب خيار التصادم ، مع التأكيد على موقفنا السياسي من النظام القائم وتوضيح وجهة نظرنا به كونه المسؤول عن قتل نصف مليون انسان أغلبهم من الشباب . والتسبب بكارثة حقيقية لعشرين مليون من السوريين . لنضعهم أمام معادلة بسيطة أخلاقية وعادلة ( لا للنظام والتطرف معا ، أو التخلي عن النظام مقابل التخلي عن التطرف ) .

أنا مع الاسلام اذا فهم بشكل معتدل ومتناسب مع روح العصر ، ومع المجاهدين المتعصبين إذا كانوا بصدد الدفاع عن أهلهم وديارهم ، ومع الغرب إذا قدم لنا الحضارة والديمقراطية وحقوق الانسان ، ومع العيش المشترك مع الشيعة والعلويين إذا تخلوا عن نظامهم ومشروعهم التخريبي الحاقد ، وضد النظام الذي يقتل شعبه ، وضد ائتلاف الفساد والفشل الذي خان قضيته وأهله ، وضد المنظمات المتطرفة إذا خرجت عن مكانها وموقعها الذي أعطاها الشرعية ، وانطلقت للتقتيل والذبح الطائفي والديني وارتكبت الجرائم بحق المدنيين وتحولت لمنظمات ارهاب وافساد، وضد ممارستهم للإرهاب الذي يطال المدنيين ، وضدهم إذا سعوا للحكم بعقليتهم المتشددة والمغالية ، فأمر المسلمين شورى بينهم والبيعة لا تؤخذ بالترهيب والاكراه ، ومع الصلح مع اليهود إذا قرروا التعاون والعودة لصيغ العيش التي جمعتنا معهم في القرون الماضية، وعليه أجد نفسي على عدة جبهات هي جبهات حقيقية لا يجوز اهمال أي منها ، أتقدم وأبادر حيث تنفتح الفرص ، وأصمد وأدافع حيث يحدث ضغط واختراق ، أتشدد عندما يكون التشدد صمودا في وجه العدوان ، وأتساهل عندما يكون التسامح بوابة لتجاوز الكارثة … في كل هذه المعارك والمساعي أشعر أنني منسجم كانسان له هوية وقناعات وموقع في زمان ومكان ومنتمي لهويتي و للفكر الانساني الحديث الذي أراه غير متعارض مع اسلامنا وديننا الذي يمكن أن نقرأه بعقل منفتح ، ونطبقه بأشكال تطبيق معاصرة ، (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

أما أن يُطلب مني البقاء في موقع واحد وتأييد طرف واحد بشكل دائم وثابت ونصرته ظالما ومظلوما ، والدفاع عنه مخطئا ومصيبا، فهو ضد الواقع والتاريخ وطبيعة الكون لأنه حتى ابنك وأبوك فأنت تضطر لمعارضته والوقوف في وجهه أحيانا … وهي سنة الحياة التي تمزج الخبيث بالطيب وتجعلك أمام امتحان التمييز بينهما دوما وبشكل مستمر ،  فالمسائل كما يقال جدلية ومتفاعلة ومتغيرة … وسبحان الدائم الذي لا يتبدل … (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)

السياسة  شيء مختلف عن الأخلاق حيث لا يصبح الكذب مشروعا في أي حال ، لكن في السياسة يتبدل موقع الصديق والعدو ، وفي الحروب تقاتل إلى جانب أناس لا يجمعك معهم سوى العدو المشترك … وفي الاقتصاد تبحث عن البضاعة الأجود والسعر الأنسب بغض النظر عن مالكها ومنتجها… وهكذا لكي نكون سياسيين يجب علينا أن نتحرك مع تبدل الظروف والامكانات والحلفاء … وأنا بما راكمته من خبرة ومعرفة نذرت جل عمري لتحصيلها ، أشعر أن من واجبي أن أدلل بنفسي عن المواقف التي أقترح على أهلي وأصدقائي تبنيها، فأكتب وأنشر وأدافع … ثم أحرص على أن أكون سباقا للفعل ، وأحرص على أن أبدأ بنفسي أولا وعلنا …

لذلك أنا ملتزم بمنظومة قيم وأخلاقيات وأهداف، ومتحرر من دوغمائية الجمود السياسي والفكري والتعصب، وأسعى لما فيه خير للناس ،  والأقربون هم أولى به …

فكرة الهوية السياسية فكرة تعود لمفاهيم الاقطاع السياسي ، حيث لكل إنسان هوية سياسية وبالتالي هو وأولاده وأسرته يتبعونها ، ثم يشاركونه السلطة لو حكم ، ويتعرضون للانتقام لو عارض … وهذا يبدأ بالتزام خط سياسي واحد والثبات عليه، ثم نقله للأسرة والأصدقاء ، وهكذا نضيف لسلسلة الهويات المقيدة هوية سياسية بعد أن أضفنا هوية دينية ، مع أن الدين خيار حر وتعبد ذاتي .. وبذلك نفقد كل حريتنا ونؤسس لانقسامات عامودية ثابتة لا تتغير في الكيان الاجتماعي المدني … فالإخواني يفرخ إخواني، والبعثي هو بعثي أبا عن جد ، والأسرة كلها شيوعيون ، وزوجة الرجل على خطه السياسي ولا يجوز لها أن تخرج عن طور زوجها وبعلها ، وكذلك كل من يصادقه ومن يسهر معه … وأي نقد أو انتقاد سياسي يصبح عدوانا وجوديا على الهوية … وهذه الفكرة مضادة للسياسة بمعناها الديمقراطي الحديث … فإذا غاب النقد والمراجعة والتداول ماذا بقي من الديمقراطية ؟؟ وماذا يتحقق من الحرية التي هي أول ما تعني القدرة على الاختيار ومراجعة الذات وتصحيح المسار ، أما اعتبار السياسة مقدسا والمقدس سياسة ، فهو من وجهة نظري ينتهي بالاستبداد والتخلف .

إذا هو اختلاف في مفهوم السياسة بين مفهوم اقطاعي سائد يحول السياسة لهوية ويولد الأسرية والاقطاع السياسي والتوريث وينتهي بالاستبداد والمحاصصة . وبين مفهوم حديث ديمقراطي يرى السياسة برامج يتفق عليها تنتهي بانتهاء الفترة المخصصة لها أو انفراط التوافق على تنفيذها، و تخضع لمراجعة وتغيير ، وهذا  يعني أنها قابلة للنقض و قابلة للتغيير  بعكس الهوية إذا ثبت فشلها  أو عدم ناجعيتها … وأنا قد جربت مسارات وبرامج مختلفة من نقاط مختلفة، لكنها تخدم قضية واحدة هي التحول الديمقراطي الحضاري لسوريا ، والذي هو هدف الثورة ومحطتها النهائية مهما طال وتعرج الطريق .

اليوم نقترح التعاون الايجابي مع مسعى دي مستورا . للإفادة ما أمكن منه على صعيد الهدن والمبادرات الانسانية وفتح ممرات للغذاء والدواء ، لكن مع الحرص على عدم الحوار مع النظام أو عودة سلطته … فهذا سيخفف من معاناة شعبنا، ولا يغير في توازن القوى على الأرض ..  سيقولون تقلب، ونحن نراه استغلالا لفرصة ، وامكانية لتقديم مساعدة لمن يعاني أشد المعاناة ، لأن هدفنا النهائي هو هذا الشعب الذي نرى أنه ماض لتحقيق أهدافه في الكرامة والحرية والعدالة … وبالتالي كل ما يعزز قوة ومنعة هذا الشعب هو هدف سياسي مشروع، ولا يجوز تحت عنوان المبدئية أن نغلق أبوابا تنفتح أمامنا ، فالمعاناة كبيرة وتخفيفها مطلوب ، لكن ليس على حساب الهدف الأساسي… وطالما كان الهدف هو الانسان ، وطالما وجدت الأيديولوجيا لخدمته ، فتتغير بتغير الظروف وليس العكس … وهذا هو الفارق بين الليبرالي والأيديولوجي الدوغمائي.

آمل بعد هذا الشرح أن أكون قد وضحت ، مع قناعتي بأن مواقفي تحتمل الخطأ والصواب ويجب أن تبقى ككل سياسة متاحة للنقد والتقييم… من دون التقريع والشتم . فالموقف ليس الهوية، وخطأ الموقف لا يعني بالضرورة سوء النية ، بل غالبا سوء التقدير … وكلنا عالم أو متعلم … هكذا نستطيع أن نعمل سياسيا معا ، وبغيره سنفترق ونتخاصم ونتشاجر وهو ما أراه على صفحات التواصل … وغياب هذه الروح وهذا المفهوم هو سبب تشرذم المعارضة وتسمم الأجواء في أوساطها، الذي تسبب في فشلها ، وهو ما نتج عنه بقاء النظام وانزياح الأرض لصالح التشدد والارهاب .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.