يثب

الكورد ( قومية في زمن العولمة )

د. كمال اللبواني 

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

بعد نضال استمر ما يقارب السبعين سنة شارك فيه الشعب الكوردي بأغلب وأوسع أطيافه ، أصبحت الدولة القومية الكوردية هي العنوان الأهم في التغيرات القادمة على الخريطة السياسية للشرق الأوسط … والسؤال لم يعد هل ستكون للأكراد دولة أم لا ؟  … بل هل ستكون لهم دولة واحدة أو عدة دول؟، وهل ستشمل كل مناطق تواجدهم أم بعضها …؟ والجواب على هذا السؤال يعتمد على تماسك الدول الأربع التي تضمهم في الشرق الأوسط ، وعلى قدرة الشعب الكردي على انتاج دولة -أمة متماسكة المصالح ذات بنية حديثة ؟ لتبقى المسألة الثانية الهامة وهي التكلفة : ما هو الثمن الذي ستدفعه بقية الدول ، وما هي التكلفة التي على الكورد دفعها؟ … وهل قيام دولة قومية كوردية سيكون هو الشكل النهائي للخريطة السياسية في المنطقة التي تفتقر للأمم المكتملة التكوين ، وتمتلئ بالمكونات المتنوعة ، وتعاني من تخلف وتبعية اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية…؟

تسبب انتشار الفكر القومي الأوروبي للمنطقة التي تعاني شعوبها من التخلف والأزمات والاستبداد والاضطهاد ، بجعل الطريق نحو الحرية والحضارة مرتبطا بالأيديولوجيا القومية التي نهضت أوروبا عليها نظريا ، مع أنها واقعيا لم تنهض بسبب الفكر القومي ذاته بل بسبب الطبقة البرجوازية الصناعية التي استثمرت مصالحها مرحليا في ذلك الفكر، وما لبثت أن تخلت عنه وهجرته للعولمة في مراحل لاحقة لتتركه يتآكل وينهار من دون حامل … لكن الفكر القومي المبالغ به في أوروبا الذي حمل النهضة ، تسبب بحربين عالميتين هائلتي الدمار، وتسبب بعنصرية واضطهاد غير مسبوق أيضا ، وها هي الرساميل الكبرى والصناعات تهجر أوروبا وأوطانها القومية وتتركها للفقر والعجز ، وتهرب للجنات الضريبية ، لأن المال ليس له وطن ولا قومية ، أي أن ما جرى كان اختراعا مؤقتا لخدمة مصلحة معينة مرحلية، له حسناته وله سيئاته ، وليس قانونا طبيعيا يجب الأخذ به دوما على سلم الحضارة، بدليل أن الدولة الأقوى والأكثر سرعة في التقدم  ليست أمة وليس فيها قومية على الإطلاق ( أقصد الولايات المتحدة الأمريكية ) …

لذلك كان استيراد الفكر القومي الأوروبي للشرق أيضا بمثابة كارثة عليه … حيث خلا من جانبه الإيجابي ، خاصة بغياب الطبقة الحاملة التي توظفه وتغنيه ، وبعد تجاوز الرأسمالية ذاتها للمرحلة القومية ودخولها مرحلة الامبريالية والعولمة … ليبقى جانبه السلبي ، وليتحول هذا الفكر المستورد إلى نوع من الأصولية والتمييز والعداء والاضطهاد غير المبرر ، وإلى سبب في صراعات لا تنتهي على أرض تتشارك العيش فيها المجموعات العرقية والدينية وتتداخل بشدة…( الشرق الأوسط )

لقد شبع العرب من الشعارات القومية ومن خطابات نظمها ، كما عانوا الأمرين من جيوش هذه الأنظمة القومية  وأمنها واقتصادها الذي تديره الدولة الشمولية ثم مافيات الافساد ، مما أدخلهم في ثورات وحروب أهلية مريرة ، حتى اصبحت العروبة لعنة عليهم … وتعرضوا للقتل والتهجير  من قبل أنظمتهم القومية العربية ذاتها، بعد أن مارست اضطهاد واجحافا بحق القوميات الأخرى . وهو ما أدى أيضا بسبب الاستبداد التكويني فيها لمنع تشكيل مجتمع مدني قادر على انجاح الانتقال نحو الديمقراطية ، وأوقع هذه الدول في حلقة مفرغة من التخلف والاستبداد والفقر والحروب الأهلية .

فقد سبق وأعلنت العروبة أنها أمة مكتملة التكوين منذ الأبد من المحيط للخليج ( أمة عربية واحدة ، ذات رسالة خالدة )، ومع ذلك لم تكوّن في الواقع سوى سلطنات ومعسكرات اعتقال رسمها المستعمر وأدارها ثم سلمها لمستبدين وكلاء ، لا يجمعها فعليا الا اللغة العربية الفصحى والشعور القومي المبالغ ، بينما في الواقع عجزت عن تشكيل أي دولة – أمة ناجحة اجتماعيا واقتصاديا، أو أي حالة اتحادية، لسبب بسيط هو تسلط طبقة عسكرية اقتصادية مستبدة طفيلية على هذه الكيانات ، وغياب المصالح الاقتصادية التي تحرك طبقة قادرة على ادارة السياسة في هذا الاتجاه ، أي غياب الحامل الاقتصادي الاجتماعي لمشروع الوحدة القومية بسبب التخلف عن ركب الحضارة والحداثة الصناعية والعلمية في الدول التي أجبرت على التبعية وحكمت بالاستبداد، وأقصد هنا غياب الطبقة البرجوازية الصناعية التي تملك أدوات الانتاج وتحرك قوى الانتاج والتي استبعدت كليا بسياسات اشتراكية ، واستبدلت برأسمال أسود نشأ  على الفساد ، أي غياب الطبقة التي حملت المشروع القومي في أوروبا وشكلت الحاضنة الوحيدة الناجحة للمشروع القومي المصطنع والمبالغ فيه في العالم المتقدم ، وتكوين الأمم الحديثة ذات البنى الطبقية المدنية التي حلت محل البنى الأهلية والاقطاعية التي سبقت عصر الدولة الأمة أو عصر القوميات … فالدول بتعريف الأمم المتحدة      nation-states    هي الأمم التي شكلت حالة سياسية ذات سلطة مركزية على أرض محددة غير متنازع عليها . يعترف بها كأرض تاريخية لهذه الأمة تقيم عليها سلطتها.

وبالتالي صار على الدول states  التي رسمتها الحرب العالمية الأولى واتفاقاتها ومصالح الدول المنتصرة فيها، أن تتحول إلى أمم nations  مكتملة التكوين كاملة السيادة والسلطة، تبعا للحدود التي رسمتها مصالح المستعمرين الذين تقاسموها بينهم انتدابا،  ثم أعطوها استقلالها بعد حربهم العالمية الثانية ، لكي تتابع تطورها المصطنع كأمم تتشكل ضمن دول مصطنعة artificial –states وتابعة  ، وهكذا كان من الواجب على سكان سوريا الانتداب وليس بلاد الشام الطبيعية، أن يتحولوا  لأربع أمم ثم لأمة سورية موحدة، و سكان جبل لبنان لأمة لبنانية  وبدو شرق الأردن لأمة على اسم أسرة ملكهم ، وكذا الحال في السعودية ، وأمة أخرى  فلسطينية أيضا في غرب الأردن ؟؟؟ لكنها ستبقى محرومة من حقها التاريخي في اقامة دولة لم يرغب بقيامها المستعمر الذي استعملها كأرض لشعب آخر هجر إليها بالعنف … ولهذا السبب وفي تلك الظروف انقسم الشعب الكردي الذي يعيش حالة ما قبل الأمة كغيره ، على أربع دول في المنطقة ( تركيا وايران والعراق وسوريا ) وبالتالي منع من استمرار تطوره الطبيعي ، و من احتمال تشكيل دولته في زحمة الدول الكثيرة التي ابتدعت في المنطقة . وأجبر كل مواطن فيها أن يكون له شعورا وطنيا بها كأمة قومية رغما عن أنفه. فكان التعويض عن غياب الأمة في الواقع يتم شعبويا بتضخيم الشعور القومي لدرجة مفرطة واستفزازية ، والذي سيدفع نحو تصادم الشعوب على اسس نظرية وأصولية فقط ، ومن دون تضارب المصالح الحقيقي .

طبعا هذا السلوك الاستعماري ذو العقل المنغلق على المنطق والتاريخ الأوروبي، والمفتقر للمعرفة بطبيعة المنطقة والمستهتر بتاريخها … أحدث اختلاطا وتشويشا في مفاهيم الشعب والأمة والقومية عند الشعوب والمناضلين … وفي هذا السياق قامت الشيوعية بمعارضة القومية الفاشية التي اعتبرتها نتاج طبقي رأسمالي بأممية عمالية معروفة ( يا عمال العالم اتحدوا ) ….. وخاض ستالين ولينين صراعا مع الفكر القومي في روسيا وشعوبها المختلفة عندما شكلوا الاتحاد السوفييتي المبني على الطبقة وليس الأمة ( السوفييت هي المجالس العمالية الثورية المحلية ) في سياق الحرب الأهلية الروسية التي سميت فيما بعد بالثورة البولشيفية الكبرى التي حققت حلم ديكتاتورية البروليتاريا . راجع الكتاب الوحيد الذي كتبه ستالين ، (في المسألة القومية ) . وتجلى ذلك أيضا في صراع لم ينته بين الدين السياسي و الأحزاب القومية ، فتعارض الفكر القومي مبكرا مع الفكر الديني الذي يعتبر القومية جاهلية وانتكاس عن الانسانية والأخوية الإيمانية، وما يزال في صراع مرير معه ، كما تعارضت كل هذه الظواهر مع الليبرالية الديمقراطية التي تتناقض معها جميعا ومعا .

خاضت الأحزاب الماركسية نقاشا حاميا مع القومية العربية والتركية المتعصبة التي تفتقر لوجود حامل اجتماعي طبقي، حول مفهوم الأمة والقومية والدولة والشعب ( راجع كتاب الماركسية السوفيتية وقضايا الخلاف للكاتب الياس مرقص ، الذي كتبه ليوضح خلفيات انقسام الحزب الشيوعي السوري في مستهل السبعينات بين جناحين قومي وأممي اختلفوا جوهريا على ذات الموضوع) ،ولم تحسم هذه المسألة وبقيت مشوشة خاصة في العقل السياسي السائد في المنطقة، وبشكل خاص عند العرب والكرد والترك والإيرانيين واليهود، والملاحظ هنا أن المسيحيين  هم أكثر من عمل على الفكرة القومية الجامعة على رباط آخر غير الدين طمعا بالمساواة ، وأن الكرد هم أكثر من عمل تحت لواء الماركسية والأممية البروليتارية الشيوعية المعادية للقومية، لكنهم حديثا تحولوا جميعا لعكسها وبشكل يتفوق عصبية على غيرهم، وجل الأحزاب الكردية الحديثة المعروفة في سوريا هي تفرعات للحزب الشيوعي (  البارتي ) ، حتى أن الحزب الشيوعي السوري الجناح الأممي تبنى في النهاية النزعة القومية ، وأصبح ممثلا للكورد في البرلمان السوري، لأنها قومية زعيمه التي طغت على انتمائه الأممي . ( خالد بكداش وعائلته ، ثم قدري جميل صهره) حفيد قدري جميل المهاجر من تركيا عام 1937 من منطقة سيسون التابعة لولاية سرت ، والتي كان من أعيانها فاقتطع له الفرنسيون أملاكا واسعة في الجزيرة السورية…. التي أصبحت اليوم كردستان الغربية في وعي الشباب الكردي المؤدلج قومجيا حتى الذروة .

فالأمة العربية مقسمة لشعوب ودول ، مع أن الأمة the nation  لا تسمى أمة حتى تصبح دولة حديثة ذات بنية طبقية موحدة ومندمجة ومنصهرة تعريفا وذات سلطة سياسية  state – nation ، بينما يطلق اسم الشعب على سكان أرض محددة جغرافيا ( عادة لها حدود طبيعية )  بحار أنهار بحيرات صحاري جبال كجبال طوروس و زاغاروس التي تفصل الأناضول عن سوريا والعراق وايران والتي كانت عبر التاريخ حدودا ثابتة بين المسلمين والمسيحين ، والشرق والغرب والشمال والجنوب ، حتى قيام الخلافة العثمانية ، أي بعد نجاح حملتها العسكرية الجديدة القادمة من تركمانستان في فتح القسطنطينية /استانبول ، وهي الحملة العسكرية الثالثة لبدو آسيا ، والتي بدأت بحملة المغول ( البدو الآسيويين غير المسلمين والذين اعتنقوا الاسلام بعد اجتياحهم لبلاده)  ثم التتار ( البدو المسلمين  الشيعة من أواسط آسيا ) وأخيرا الترك ( بدو جبال وسهوب تركمانستان المسلمين السنة قرب هضبة التبت ) وهكذا تمكن هؤلاء القوم المحاربون الأشداء من انهاء حالة التشرذم والأمارات المحلية، وفرض الوحدة السياسية والعسكرية التي تنهي الصراعات المحلية وتحقق السلم والاستقرار، تحت عنوان ديني تاريخي سني معروف بالخلافة التي بنيت على حساب إمارات المماليك والصفويين  والسلاجقة المنتشرة والمتناحرة ،  والتي انهارت تباعا ومن دون مقاومة بسبب بنيتها الهشة التي وصفها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة ، فانهارت أمام مشروع اتحادي تاريخي امبراطوري يحفظ التنوع العرقي والجغرافي وحتى الديني الطائفي ضمن صيغة الاسلام السني المعروفة  (بأهل الجماعة ) المرنة التي حكمت المرحلة العباسية وما قبلها وحملت الحضارة في العصور الوسطى …

خلال العهد العثماني تحول عدد كبير من الأقليات إلى الاسلام السني طوعا ، أو بالضغط أحيانا ، وبالحرب أحيانا أخرى ، كما حدثت ثورات وتمردات كبيرة قمعت بقوة و ضخامة حجم الامبراطورية … ولكن مع بداية القرن العشرين كانت الامبراطورية بعد 400 سنة قد وصلت مرحلة من الضعف وتشوش الهوية، عبر عنه تأثر تركيا بالنزعة القومية الأوروبية ، مع أن هذه النزعة هي المسؤولة عن تقويض الامبراطوريات فيها ، واعتمادها سياسة التتريك القومي ، وهو ما قوض هذا الحلف التعددي الامبراطوري ، وحطم القبول بالوحدة ، وألب عليها أغلب مكونات السلطنة والخلافة ، وسهل على أخصامها شن الحرب عليها وتفكيكها ، تلك الحرب التي ساهم فيها العرب والكورد والأرمن والآشوريين والسريان ، وكل الأقليات القومية والدينية والطائفية … التي تضررت من سياسة التتريك فحاربت إلى جانب الدول الأوروبية الغربية الحليفة في الحرب العالمية الأولى ضد الامبراطورية العثمانية .

وهكذا وجدت تركيا الجديدة أنها تقلصت بشدة عندما أصبحت قومية، وفقدت أغلب أقسامها ، فانغلقت على نفسها وألغت صيغتها الجامعة القديمة، وتقلدت بالغرب القومي، وأمعنت في تقليد المنتصر، وأعلنت نفسها أمة قومية عريقة، وسعت للتحول لأمة حديثة على النموذج الألماني بقيادة أتاتورك ( المرحلة الكمالية) … والمشكلة التي وقعت فيها هي ذات المشكلة التي وقع ويقع فيها الجميع … فالأمة لم تأت في سياق تطور طبيعي بل في سياق أيديولوجي قمعي مصطنع وعسكري ومتأخر عن زمانه…

فقد ورثت الدولة التركية حدودها السياسية التي فرضتها نتيجة الحرب العالمية والاتفاقيات الدولية بين المتحاربين وبشكل خاص اتفاقيات فرنسا وتركيا على رسم الحدود مع الدولة السورية المنتدبة، والتي لم تستقر خريطتها السياسية حتى اليوم ، وواجهت تنوعا كبيرا في سكان هذه الدولة ، فهم ليسوا موحدين  بسبب الجغرافيا الجبلية التي تتوسط البلاد ، وليسوا أمة واحدة متكونة تاريخيا ، أو لهم بنية ثقافية واقتصادية واحدة ، وليس لديهم الحامل الاجتماعي الاقتصادي البرجوازي ، ولا الوعاء الثقافي القادر على تطوير وانتاج دولة مواطنة جامعة … ولذلك أغلب ما حدث في تركيا الكمالية هو اصطناعي وقمعي استخدمت فيه قوة السلطة والجيش لتشكيل أمة بالقوة والقهر، ومن دون توفر عناصر وجودها الطبيعية. حتى اللغة التركية لم تكن ناضجة ومكتملة ، بل دونت على عجل بشكلها الحديث بالحرف اللاتيني بعد أن كانت تكتب بالحرف العربي طيلة الحقبة العثمانية … وهي لم تكن لغة أغلبية السكان قبل فرض أحادية تعلميها والنطق بها بقوة القمع الرسمي .

إن عدم اعتبار شعب ما (أمة مكتملة التكوين) هو ليس اهانة له أو لهويته، بل تعبير عن مرحلة تطوره التكويني ، ومستوى اندماجه وطريقة تجمعه: كقطاعات أهلية ما قبل الأمة ، أو طبقات منغمسة في سوق قومية تجاوزتها وحولتها لمجتمع مدني … أمة، تعبر عن غياب خصوصياته وتنوعه وكل ما هو تقليدي لصالح هوية رسمية حديثة مصطنعة يتبناها الجميع ينتج عنها مواطنة ترتبط مباشرة بالدولة والسلطة. ومع أهمية اللغة كوعاء للفكر والثقافة وآلة للتواصل، يبقى من الفقر تعريف الأمة فقط بسبب وجود هوية فولكلورية قوية وغنية ، أو لغة جامعة ، أو سلطة مركزية ديكتاتورية تسجن الناس و تصهرهم بالقوة .. فموضوع تكوين الأمة يحتاج لأكثر من ذلك بكثير ، يحتاج لنسيج المصالح الجامعة وللبنية الاجتماعية المدنية الحديثة التي تكون قد بنيت على حطام ما قبلها من انقسامات و تمايزات عامودية وأهلية.

استخدمت القوة للحفاظ على أوسع حدود للدولة التركية المتبقية ، كما استخدمت القوة لقهر تمرد الأرمن وعموم المسيحيين الذين هجروا في غالبيتهم من تركيا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ( المسيحيين اليونان وبقايا البيزنطيين والبلغاريين والسريان والأرمن والاشوريين الشرقيين )، وساهم الكورد كونهم مسلمين في ذلك التهجير الديني، الذي شمل الاستيلاء على ممتلكات ربع السكان تقريبا، ثم ما لبثوا أن تعرضوا للقمع والتهجير بدورهم لكن على اساس قومي ، خاصة زعماء الكرد الذين تمردوا وثاروا تباعا من منطلق قومي وتنافسي ( وهم بدو سفوح جبال الأناضول الجنوبية تاريخيا ) والذين بسبب بداوتهم وفقرهم لم يتمكنوا من تشكيل دولة خاصة بهم عبر التاريخ، ولم يشكلوا حاضرات مدنية ولم يدونوا لغتهم الشفهية حتى مرحلة متأخرة ( أواسط القرن العشرين ) .

فاللغة الكوردية لم تكن موحدة و لم تدون الا في القرن العشرين بعد تدوين اللغة التركية وباستخدام حروفها، وهي مكونة من مزج عدة لغات محلية أقدم منها ويغلب عليها الطابع الفارسي، وتحتوي الكثير جدا من المفردات العربية والتركمانية …  وفي غياب التراث الكوردي المدون ، لا يكفي التراث الشفهي ولا الفولكلور ، ولا حتى الثقافة الواحدة المستحدثة والمسيسة ، في تقرير حقيقة وجود أمة- دولة بالمعنى الذي حددناه ، ولا يعوض عنها وجود الشعور القومي المفرط، لأن هذا الشعور كأي أيديولوجيا مثالية قد يتبدل بسرعة ، كما لا يمكن الاعتماد على العناصر الافتراضية والمعنوية والمثالية فقط في تكوين الأمم- الدول، فالاجتماع الانساني يستوجب تحمل مسؤوليات مادية أهم من الشكليات المعنوية المثالية ، وأولها تأمين شروط العيش وظروفه، أي تلبية الوظيفة الاقتصادية والخدمية والأمنية التي تقوم بها التشكيلات الاجتماعية عادة وأساسا ، وضمان توفيرها بشكل جدي لمواطنيها، وهي ما تجعلهم يستقرون في أوطانهم ومع أشقائهم ، أو يتصارعون رغم قرابتهم ، أو يتنقلون ويسعون وراء رزقهم في أرض الله الواسعة،  عندما يكتشفون أن الأمور المعنوية كالفنون والآداب والثقافة واللغة الواحدة الجامعة كلها شكليات تسهل الاجتماع، لكنها لا تغني عن المضمون المادي الذي يحقق لهم مصالح وحاجات ورغبات يتوجب على هذا الاجتماع تلبيتها، وعندما يوقنون بالتجربة والمعاناة أن كل وحدة ثقافة من دونها لا تسمن ولا تغني من جوع …

 ومع أن الكورد ككل البدو قد قاتلوا في جيوش المنطقة كمحاربين أشداء وشاركوا في كل دولها ، لكن نقص الحاضرات المدنية الثقافية الكوردية الخاصة بهم ، وعدم وجود انفصال جغرافي طبيعي يفصلهم عن غيرهم ، قد حال بينهم وبين امكانية قيام دولة خاصة بهم أو تطوير ثقافتهم الخاصة وتدوينها، بل جعلهم معظم الوقت تابعين للحواضر الأهم في الأستانة أو دمشق أو بغداد أو طهران ، وهذا الغياب السياسي التاريخي هو من جعل دولتهم تغيب عن ذهن كل من الوزيرين سايكس وبيكو الذين كانا مولعان بالتقسيم … فهم كأي بدو في الصحراء أو في الجبال والسهوب ، يفتقدون طبيعيا لإمكانية انشاء الدولة التي تحتاج لاستقرار حضري مكاني مركزي طبقي وتخصصي ، والذي لم يصبح ممكنا قبل التطور الحضاري السكاني الحديث في نهاية القرن العشرين ( لاحظ كيف أن الدولة الاسلامية اتخذت من دمشق وبغداد والقاهرة عواصم لها ، وليس مكة ولا المدينة ) ، ولاحظ أن دول الخليج والأردن لم تصبح دولا قبل تلك القفزة الحضرية في السكن والخدمات وعدد السكان.

هكذا قامت تركيا بترحيل وتهجير قسم كبير من الكورد ونزعهم من أراضيهم ونفيهم لمناطق أخرى خاصة في حال تمردهم ، مستعيدة الأسلوب الآشوري القديم في التهجير ونقل السكان، والذي ابدع أيضا عقوبة الخازوق (التي تطورت لعقوبة الصلب فيما بعد عند البيزنطيين ) بينما استعملها العثمانيون كصفة مميزة لهم كمسلمين عن المسيحيين ، في حين كان العرب السنة يفضلون قطع الرأس الذي أنكره الشيعة ( بسبب قطع رأس الحسين والدوران به على الولايات ، حتى دفن جسده في كربلاء ورأسه في القاهرة ) وفضلوا عليه التعليق والخنق الذي ميز الثورة الخمينية ، و الحفاظ على تماسك الجثة ، ( مستعينين بالتراث اليهودي)

… تركيا الجريحة الجديدة ، والتي هي ما تبقى من مجد الخلافة الاسلامية العثمانية التي حكمت شرق وجنوب البحر المتوسط وقارعت أوروبا لقرون ، سعت للتشدد في موضوع التحديث وتكوين الأمة القومية الحديثة، ولذلك عانى شعبها كثيرا من الاستبداد ومن الاستخدام المفرط للقوة والجيش المتضخم كمؤسسة وحيدة قادرة على حفظ وجود الدولة ، ومن تكوين مجتمعي عصبوي، ومن تغريب قسري مصطنع أفقدها معظم مقوماتها الخلقية والانسانية والاقتصادية، لصالح التماسك السياسي والانصهار الثقافي الجديد، وكان عليها أن تمر بمسار تاريخي طويل حتى تتعافى من جراحها وتستعيد إنسانيتها وديمقراطيتها بالشكل الذي نراها عليه اليوم …

ولكن في هذا الوقت الطويل كان الكرد وغيرهم يعانون من التمييز والاضطهاد القومي والاقتصادي والذي جعلهم يستمرون  في /بل يتوحدون على مطالبهم القومية الانفصالية مقلدين الترك والعرب والتاريخ الأوروبي ذاته مرة أخرى …

وبقدر المعاناة بقدر المبالغة في الشعور القومي، وبقدر التنكر لحقوقهم بقدر مبالغتهم هم بتلك الحقوق ، فالكردي غالبا وبسبب الاضطهاد عاجز عن النظر بواقعية للتاريخ والجغرافيا والآخر، ولا يرى فيه سوى اضطهاد وقتل وتهجير وفقر وتمييز بغيض ، ( ولا يمكن فهم سلوك هذا الشعب من دون ادراك تلك الحقيقة ) وهو عندما يصر على موضوعة الانفصال ويغلق أذنه عن كل صوت لحل آخر، هو يعتمد على تراكم مفرط ومكثف حدث عنده في الفترة الأخيرة والقريبة، مع أن ما حدث معاكس للتاريخ الطويل من التعايش المشترك والتعاون ،  وهو عندما يجلس ليحاور ينتقل بسرعة لحالة التوتر والشجار حالما يستذكر الكلمات والمصطلحات التي تذكره بجراحه التي لم تندمل بعد، وبما يعكس طبيعته الجبلية البدوية القاسية، لذلك يفشل عادة أي حوار معهم ، وينهار كل اتفاق، كون عقلهم منغلق على قضية واحدة هي الوجود القومي المستقل على الطريقة الألمانية، وهذا الشعور يوحدهم فعلا ويطغى حاليا على كل خلافاتهم وتمايزهم وما أكثرها …

شيء مشابه حصل عند اليهود بعد المحرقة ومعاداة السامية والاضطهاد المزمن ، فهم من منظورهم موحدين كضحايا، وكل ما يفعلونه مبررا تحت عنوان الدفاع عن النفس ضد العدوان العنصري الفاشي الشوفيني النازي . وكل خلافاتهم الأخرى وخصوماتهم الجديدة التي يحدثها سلوكهم ، تتحول بوعيهم لتصبح استمرارا لاضطهادهم القديم .. وهكذا يستحيل عمليا اقناع اليهود بأن عدوهم قد يكون على حق، أو اقناع الكرد بالتوقف عن حلم الانفصال وتكوين الكيان القومي الخاص بهم، على الأقل في الأجيال التي نعايشها اليوم، فهم موحدون بشكل مطلق في هذا العقل الاضطهادي ويعملون رغم خلافاتهم وتفرق جغرافيتهم وأصولهم، وبالرغم من ارتباطهم التاريخي بثلاث قوميات هي العربية والفارسية والتركمانية ، يعملون معا موحدين على تحقيق حلم الانفصال عنها ثلاثتها، وتشكيل الدولة الكوردية الخاصة بهم حربا أو سلما وبالحدود التي يرسمونها هم لأنفسهم ، ذلك الحلم الذي يبدو أنه سيتحقق لسبب بسيط يتعلق بقوة إرادة و نضال الشعوب ، فهم شعب ناضل كثيرا وبشكل جدي من أجل هذا الهدف … الذي إن تحقق فلن يكون ذلك  بمساعدة من أحد أو استغلال لظرف أو مأثرة لزعيم، بل بسبب اشتراك الغالبية العظمى من الشعب الكوردي في العمل الجاد والدؤوب على قضيته القومية التحررية / بل الانفصالية في واقع الحال

المسألة ليست أن نناقش أحقية قيام دولة كردية أم لا، لأنه لسنا الطرف الذي يقرر الحق ، و لا فائدة من هذا النقاش ، ولن يغير من شيء،  فالمسألة مرتبطة بإرادة الشعب الكوردي في الانفصال والتي هي طاغية اليوم … لكن المسألة هي مدى امكانية / أو ما هي طريقة قيامها، والأخطر من ذلك ما هي حدودها، وما مصير الأقليات فيها، ومصير الكورد خارج حدودها … وهي مسائل يجب أن تناقش بعقلانية ليس مع الكرد فقط ، بل مع جيرانهم الذين عليهم أن يدفعوا ثمن ما اقترفت أيديهم في العقود الماضية، أقصد بشكل خاص العنصرية الشوفينية التركمانية والعربية والفارسية التي مارسها حزب البعث في سوريا والعراق والمرحلة الكمالية الأتاتوركية ، والخمينية الخامنئية في ايران، التي تعاني هي أيضا من ذات المشكلة ، ويطغى على سلوكها الاضطهاد القومي والطائفي لكل القوميات والديانات الأخرى، فايران ليست أمة صافية مثلها مثل تركيا و البلدان العربية، وتحتوي التنوع القومي والديني، وتفتقر للتكوين المجتمعي الحديث و للمصالح الاقتصادية التي يعوض عنها النفط، وتحميها المبالغة بالقوة  والقمع والسلاح والتعصب الديني ، وتصدير الأزمات للخارج باختراع عدو خارجي شيطاني.

إذن الحديث عن تماسك ومناعة تركيا وايران ، هو مبني على وجود جيش عسكري أو نظام قمعي فقط ، ويذكرنا بمصير سوريا والعراق التي اعتمدت في منعتها وقوتها على الجيش والأمن فتفككت بسرعة فرارهم… لذلك أرى أن الطريق مفتوح أمام قيام الدولة الكوردية ، في كل بلد يدخل لسبب ما مرحلة عدم الاستقرار ، لتنفتح عليه بوابة التقسيم ، ومفتاح ذلك التقسيم هو المشروع القومي الكوردي . وثمنه هو حروب اقليمية قد بدأت فعلا في سوريا والعراق.

وهذا التدخل الخارجي الراهن عندنا قد وضح مقدار الدعم الدولي للمشروع الكوردي، ومقدار مراهنتهم عليه ومدى توظيفه ضمن استراتيجيتهم ، وهو ما نفهمه من الافراط المبالغ به سياسيا واعلاميا في قضية عين العرب / كوباني دون غيرها …   لذلك أرى أن المنطقة ذاهبة لمواجهات وحروب اهلية واقليمية تعيد رسم خريطتها السياسية ، التي سيكون الكرد أحد عناصرها بل وقودها، كما العرب والترك والفرس واليهود … أي أن السلام والاستقرار هو أبعد ما يكون عن المنطقة في المنظور القريب، وأن الذي شهدناه حتى الآن في لبنان والعراق وسوريا وفلسطين ما هو الا البداية فقط ، ولعنة الفكرة القومية العنصرية الأوربية ولعنة التزمت الديني الشرقي ستدمر كل ما هو فوق الأرض في الشرق الأوسط  الكبير، وستؤدي لحروب وتهجير وجرائم ضد الانسانية مغطاة بنزوع قومي مبالغ به ، وشعور طائفي متورم  ، لا يحمل كمشروع دون أي عنصر حضاري أو تقدمي للمنطقة ، بل فقط الخراب .

في هذه الظروف ستقوم الدولة القومية الكوردية لكن بثمن عسكري وأخلاقي باهظ  جدا ، وسترسم حدودها بالدماء والمجازر والتهجير ، لذلك ستكون محاصرة، وسيتعرض الكرد خارجها للتهجير أيضا ، كما حدث يوم قيام الدولة اليهودية …  ولكنها ستحقق ارضاء مشاعر  الشعب الكوردي؟… الذي سيكتشف أمرين أولهما حاجته لمشاركة الآخرين بسب الجغرافيا المشتركة وبسبب العولمة … وثانيهما عجزه عن تكوين أمة في عصر الامبريالية والعولمة التي يفقد فيها المال والعمل طابعه القومي ، ناهيك  عن صعوبة تطوير ديمقراطيتهم ورفاهيهم في محيط من العداوات والصراعات صنعوها بأيديهم ، وبسبب بنية داخلية قبلية أهلية تقسمهم عاموديا وتطغى على المجتمع المدني المفترض نموه… وبالتالي يتوقع أن يظهر على السطح الاضطهاد الكردي- الكردي كما ظهر عند العرب المفككين الذين بنوا سجونا سموها دولا وطنية . وستتخلف دولهم ويتقوض اقتصادهم وتستبد نظمهم وتزداد هجرتهم ويكررون تجربة العرب بدل تجربة أوروبا .. كل هذا قد يحدث اذا لم يتعاملوا مع معطيات المرحلة بطريقة واعية وعقلانية، وبالتعاون مع شركائهم في المنطقة…  وهذا ما أخشى أنه غير موجود …

ما أدعوا اليه بقية الأطراف المعنية هو عدم تكرار خطأ ارتكبوه  عند قيام  دولة اسرائيل وتوسعها … فالعقل الذي حكمنا في السابق ما يزال يسيطر علينا اليوم … والتعامل مع القضية الكوردية ما يزال أدنى كثيرا من تطور الأحداث …. التي تتجه نحو المأساة الانسانية بين الأخوة والجيران التاريخيين ، وبالتالي أعتبر أن مساعدتهم على تحقيق حلمهم ستكون سياسة بعيدة النظر،  لكنها بعيدة أيضا عن العواطف و ردات الفعل السائدة ، وبالتالي بعيدة عن التحقيق .

نظريا ولوقف هذا المسار المأساوي انسانيا ، ولكي نتجاوز أرضية الصراع بشكل براغماتي لا بد من مشروع وحدوي اقتصادي أمني ، ولا بد من فصل دائرة الثقافة عن دائرة الدولة ، لأن الاقتصاد والعمل والتعليم اليوم هو عالمي ولم يعد قومي  وبالتالي مفهوم الدولة القومية الأمة لم يعد متناسبا مع عصر الامبريالية ثم العولمة . فالدول اليوم هي مؤسسات أمنية وخدمية وضريبية ، وليست تعبيرا قوميا وثقافيا يتجلى قوة عسكرية لخدمته … واطلاق مبادرات واعدة ومشاريع تطوير مشترك هي الأدوات الفعالة التي تلطف من قسوة الأحداث القادمة .

المنقذ للمنطقة هو اعتماد سياسات ليبرالية ودمقراطية … وتغيير أنظمة القمع والتعامل السياسي المرن مع مطالب الشعوب والمكونات … وترك مساحة واسعة للتنوع والحريات والخصوصيات الثقافية … واطلاق عربة التقدم الاقتصادي ، وفيما عدا ذلك فالتعصب سيولد التعصب والعنف عنفا مضادا … وسنخسر جميعا ومعا ، لكن أقلنا خسارة سيكون الكرد الذين سيخسرون اضطهادهم القومي بالمعية ، وسيربحون دولة قومية، لكنها لا تسمن ولا تغني عن جوع لأنها جاءت متأخرة جدا عن وقتها وعصرها …. متأخرة فقط قرنين من الزمن عن عصر القوميات … وهي إن بدت اليوم في اربيل قوية ، فهذا فقط بسبب النفط الذي لا يدوم .

أما فيما يخص المسألة الكوردية في سوريا ، فالموجود حاليا في سوريا هو جزء من الشعب الكوردي ، وليس كله، وجزء من الشعب العربي وليس كله ، ولكن الأغلبية في سوريا عربية ، ولابد لكل دولة من هوية ، وهوية الدولة هي هوية أغلبية سكانها ، وبالتالي حق الأغلبية يختلف عن حق الأقلية في مسألة الهوية ، والحقوق الوطنية غير حقوق الانسان، وحق كل الشعب لا ينطبق على كل جزء منه ، ، فإذا كان لكل شعب الحق في تقرير المصير ، فهذا لا يعني أن لكل جزء من هذا الشعب ذات الحق في الانفصال وتكوين دولته المستقلة  على أرضه التاريخية مهما كان عدده وتوزعه .

شمال سوريا لا يشكل حالة منفصلة جغرافيا أو مغايرة كليا في هوية السكان … وهوية الأرض غير محددة ولا يستطيع أحد من سكانها اليوم أن يدعي وجودا تاريخيا في أرض الجزيرة السورية … لأنها بقيت من دون تواجد حضري مستقر منذ أن خربها المغول والتتار ، إلى أيام الانتداب الفرنسي واكتشاف النفط فيها، أي في العشرينات من القرن الماضي . وكل المتواجدين فيها اليوم من عرب وكورد وآشوريين وسريان لم يمض على هجرتهم اليها وسكنها إلا أقل من قرن ، ما عدا بعض البدو الرحل الذين كانوا يجوبونها ، ولم يستقروا فيها حضريا قبل ذلك.

وهذا ليس مستغربا بالنظر لقلة عدد سكان سوريا (4مليون نسمة في أيام الوحدة مع مصر ، أكثر من نصفهم في المدن الرئيسية الستة، وكان في هذه المدن من الكرد ما يفوق كثيرا كرد الجزيرة )  . وبالنظر لبقاء أكثر من 80% من أراضي سوريا غير مأهولة حتى النصف الأخير من القرن العشرين حيث حدثت القفزة في عدد السكان ، فقد كانت أغلب المناطق المحيطة بمدن سوريا الرئيسية مهجورة،  وعشرة بالمئة فقط من الأراضي القابلة للزراعة حول المدن مستثمرا ، فكيف الحال بمنطقة نائية مهجورة لا أمن ولا تجارة ولا خدمات فيها  ولا سلطة تحكمها  مثل الجزيرة ، ومع ذلك تصبح ضمن الأيديولوجيا القومية  وطنا تاريخيا مسلوبا من الشعب الكوردي ، أيديولوجيا تعامل كبديهية  يعتقد بها الغالبية المطلقة من شباب الكورد …

لذلك فإن تسميتها كوردستان الغربية أو كوردستان سوريا أو الجزيرة السورية … قامشلي أو قامشلو … حسكة أو قرقميش ، عين عرب أو كوباني … ما هي إلا حرب أسماء مسيسة لا علاقة لها بالتاريخ، فكل أسمائها التاريخية تعود لحضارات أخرى سبقت الاجتياح المغولي . وشعوب المنطقة التي تتنازع الأرض إما هي شعوب بدوية لم تعرف الاستقرار إلا في العقود الأخيرة ، أو هي قادمة بنتيجة الترحيل القسري التركية أو بنتيجة النزوح الاقتصادي . والمنطقة فعلا خالية من أي أثر تاريخي حضري منذ عام 1400 ، وذلك على مدى ستة قرون متواصلة من الانقطاع التاريخي !!! .

وفي سوريا الحالية عموما لا يمكن رسم حدود واضحة لأي توزع قومي عرقي ولا ديني ولا طائفي ، لذلك في سوريا شعب متعدد الثقافات والديانات ، يمكننا الحديث عن فيدرالية ثقافية ، لكن أبدا لا يمكن الحديث عن دولة اتحادية متعددة الهويات ، أو فيدرالية بين دويلات قومية ودينية ، لغياب الحدود الواضحة التي ترسمها ولتداخل السكان .. خاصة بعد حرب السفر برلك  ، وما تبعها من تقسيم وهجرات قسرية ، وبعد النزوح الاقتصادي الكبير في كل المناطق بسبب السياسات الاقتصادية الفوضوية التي اعتمدتها النظم الفاسدة .

كل الملكيات المزعومة هناك في الجزيرة وزعها الانتداب الفرنسي ثم الاستبداد بغير حق، ولا توجد ملكيات قانونية شرعية شخصية ولا تاريخية في كل الجزيرة، لا للعرب ولا للكرد ولا للآشوريين والسريان .. وامتلاكهم لها كان بمثابة وضع اليد على أرض مهجورة ، وهم ما يزالوا قليلي التمسك بها،  وبقاءهم فيها سيكون إما بالحرب أو بالتوافق . وليس تبعا لقرار أي جهة حقوقية …

يكفينا مبالغات وادعاءات في الملكية التاريخية . فذلك فقط سيزيد من التوتر وكمية الدماء التي تنزف من خيرة أبناء سكان هذه المنطقة (الجدد عليها )، الذين يتوجب عليهم أن يبنوها لا أن يقتلوا فيها، فلهم جميعا حق الوجود والعيش كسكان أمر واقع، وضمن صيغة مقبولة من الجميع، والقانون يعطي الحق في الملكية القانونية لكل من يستصلح الأرض ويعمرها ، ويعطي الحق بالمواطنة لكل من ولد أو أقام مدة عشر سنوات ، وكل تنازع جنائي يسقط بالتقادم أيضا … لذلك يجب التوقف عن ادعاء هويات قومية مزعومة للأرض ، و ادعاء حقوق تاريخية موهومة فيها، بل لا بد من اقرار الجميع بكونهم مستوطنين جدد ، لأنهم كلهم جميعا غرباء نازحين، قدموا اليها تباعا منذ عام 1920 وما بعدها ، ولهم أن يدحضوا ذلك ، وينبشوا( منازل أو قبورا ) لأجدادهم تعود لما قبل هذه الحقبة إن وجدت. وعلماء الآثار والتاريخ جاهزون لرصدها وفحصها وتسجيلها .

للعلم فقط … أهم مدينتين في الجزيرة هما الحسكة والقامشلي لم تكن موجودة قبل العشرينات من القرن الماضي … فقد بنى الفرنسيون ثكنة عام 1923 في مكان مهجور وسكن حول هذه الثكنة عدة  أسر من السريان المهاجرين من ماردين سميت فيما بعد بالحسكة ، وتزايد عدد سكانها فبلغ 500 فقط  نسمة عام 1925 ، أما القامشلي فقد بدأت أيضا بمخفر فرنسي عسكري عام 1926 حيث كانت المنطقة مهجورة تشغلها مستنقعات ، ثم  بدأ سكان نصيبين التي ضمت لتركيا بالنزوح إليها تباعا بتشجيع من الفرنسيين، وهكذا توالى سكن الجزيرة من قبل مهاجرين (في غالبيتهم من الفارين من الخدمة العسكرية في تركيا أو من المطرودين والمنفيين من ديارهم)…

فعن أي تاريخ وأية حقوق يتحدثون … لقد شبعنا شعارات وشبعنا أيديولوجيات حتى سال الدم في شوارعنا . لذلك أدعوا كل السياسيين عربا وكردا للتوقف عن الكذب على شعوبهم فالكذب لن يخلق أوطانا ، بل يدمرها ولكم في سوريا والعراق خير مثال .

خلاصة الحال ، وبغض النظر عن غياب الحق التاريخي في الأرض الذي هو غير ثابت لأي قومية… فإن مفهوم الأمة القومية قد تجاوزته الحضارة ، فالبشر اليوم منفتحون على بعضهم بما يتجاوز كثيرا شعورهم بالأخوة القومية  أو العرقية ، ومن الوهم الاعتماد على شيء فقد مفعوله وانتهت صلاحيته .

كذلك الأمة الكردية ذاتها تقوم على العواطف أكثر مما تقوم على الماديات التي تؤسس لدولة قومية فعلية ، فهي تشبه جماعة السجن التي يوحدها ظرفها بقوة، لكنها سرعان ما تتفرق بزواله ، ناهيك عن تداخلها الصميم مع شركائها ، واختلاط وتداخل الانتماءات فيها ومعها … فالكثير من الأسر والعائلات الدمشقية والحلبية والحموية العريقة ذات أصول كردية …؟  هل نعتبر دمشق وحلب وحماه جزء من كردستان الغربية ؟… أم هي مدن عربية  لأن الكرد فيها اعتمدوا العربية ونسوا لغتهم ؟؟ ولماذا لغة كردستان العراق تختلف عن لغة كردستان سوريا وتركيا نطقا وكتابة ومفردات ، مع أنهم أمة واحدة!.

لقد سبق للعرب أن تبنوا الفكر القومي الذي يوحدهم من المحيط للخليج ولديهم اللغة التي وحدها وحفظها القرآن، لكن معاناة الشعب الفلسطيني كشفت هذا الوهم عندما خاض الفلسطينيون حربا ضروس مع أقرب الدول الشقيقة التي لجأوا اليها ، وتركوا في المخيمات للبرد والشقاء عقودا من الزمن من دون مساعدات جدية ولا حقوق قومية . وهذا حصل أيضا مع الشعب السوري الذي اكتشف تماما ماذا تعني العروبة عندما اضطر لمساعدة من أشقائه العرب ، فلم تقبل الدول العربية لجوء شخص واحد اليها ليعيش بين أخوته ، في حين أعطتهم تركيا كل حقوق المواطنين لديها( لأنها لم تفكر بعقلية قومية بل اقليمية ودينية)، واستضافت أوروبا مئات الآلاف رغم مشاكل الهجرة التي لا تعد ولا تحصى  … أنا لا أتحدث عن حكومات بل عن مزاج شعبي مهيمن في الشعوب العربية، ما يزال يكن ضمنا الكراهية لسوريا وشعبها الذي يكره بعضه هو الآخر  ويتمنى غيره على الخازوق، وما يزال يؤيد النظام السوري بعد كل ما ارتكب من جرائم ، ليس فقط الكثيرون في الأردن ولبنان والعراق ومصر وفلسطين والجزائر وتونس وعمان ، بل أيضا في سوريا ذاتها ، وهذه الشعوب والجماعات لم تشعر بمشاعر الضحايا من إخوتهم ولم تنتصر لهم حتى عندما قصفوا بالكيماوي ، فقد أثبتت المصالح السياسية  أنها أقوى بكثير من كل مشاعر وأخوة مزعومة بكل أسف ( حتى أن السوري يسرق إغاثة السوري الجريح والمهجر ويتمتع بها في الفنادق من دون ضمير ولا مشاعر … هذا في الصعيد الوطني وفي صعيد الممثلين لهذا الشعب  فما بالك بالغريب … ) والغالبية من دول العالم فضلت الاستثمار والإفادة من عذابات الشعب السوري لتحقيق مصالح أنانية ، ضاربة عرض الحائط بالإنسانية ذاتها وبكل ما يجمع الإنسان بأخيه الانسان من روابط نبيلة … وكاشفة أن الرابط الوحيد الفعال في هذا العصر هو  المصلحة والاستغلال …

لذلك كانت رابطة العقيدة والدين هي الوحيدة التي تحفظ ما تبقى من ترابط انساني لا يبنى على المنفعة بشكل كامل، ولهذا السبب لم يجد الشعب السوري سوى المجاهدين المتطرفين إلى درجة الجنون ينصروه في محنته، ولهذا أيضا فشلت كل أشكال التنظيم التجريبية في المناطق المحررة ، ونجحت الدولة الدينية العسكرية  المتزمتة فقط  رغم كل هذه الفوضى … مع أنها هي الأخرى غير قابلة للدوام لتناقضها مع الطبيعة الانسانية الأنانية التي تفضل المصلحة على أي شيء فوقها .

ليتبين جليا أن البناء على المشاعر القومية ، أو الأخويات الأخرى ، هو بناء على وهم ، وأن القومية والشعور القومي هو مجرد أيديولوجيا مصطنعة كانت تخدم طبقة معينة في زمن معين، خدعت بها العامة لتحقق مكاسبها الخاصة على حساب تضحياتهم التي بذلت تحت علم القومية الذي يخفي التناقضات الداخلية، فكانت أداة استغلال للفقراء باسم الأمة والقومية التي ترجمت رساميل في جيوب القلة التي سرعان ما هجرت بلدانها وتخلت عن مسؤولياتها ،

القومية ليست الأساس في تكوين الكيانات السياسية التي على ما يبدو لا تبنى إلا على المصالح والتعاقد . وهو ما يمكن أن يتم بين البشر والشعوب تبعا للمصالح وتشارك الجغرافيا والموارد ، بينما النظام القومي يولد كيانات متناقضة وهمية كاذبة،  سرعان ما تسقط في الاستبداد وتدخل في الصراع الداخلي ، الذي لن يحل بالتقسيم الذي لا ينتهي عند حد ، بل بتغيير النظام الخاطئ الذي تبنى عليه هذه التشكيلات الاجتماعية.

في السابق وقفنا إلى جانب القضية الكوردية بكل ما نملك لأنها (قضية حقوق انسان وحقوق في المواطنة وحقوق ثقافية واقتصادية وحتى طموحات قومية لأخوة تاريخيين نريد لهم كل الخير والرفاه والكرامة)، وكان من المعيب فعلا أن يحرم مواطن من الجنسية … أو من استعمال لغته الأم أو من حرية تكوين الروابط الثقافية والاجتماعية أو ممارسة خصوصيته أو السعي لتحقيق طموحاته …

كما نقف اليوم مع الحق الكردي في تقرير المصير ضمن الشرعة الدولية لحقوق الانسان، ككل شعب بما فيها اقامة دولته المستقلة على أرضه … لكن المشكلة معهم نشأت عندما حاولوا احتكار أرض ليست لهم وحدهم ولم تكن كذلك في يوم .. و عندما بدأوا التفكير بإقصاء أو طرد الآخرين منها باعتبارهم مستوطنين وغزاة أقصد العرب في الجزيرة السورية .. لأن الواقع الجغرافي والتاريخي يدحض ذلك . كما أن علماء التاريخ والآثار يستطيعون التأكد من صحة أي ادعاء ، فالقضية قضية حقوق في أرض ووطن وهوية … وهذا يعني أن تحل وفقا لقيم ومعايير وتحكيم دولي وقانوني محترم ومحايد ، وليس بالشعارات والحروب ، أما ضم كل أرض مختلف عليها، وطرد الآخر منها ، باستعمال أيديولوجيا اضطهاديه . فهذا لا يليق بصاحب الحق ، ويلغي مشروعية دعمنا الأخلاقي والقيمي له، بل يقوضه عندما يضر بحقوق ووجود الآخرين، كوننا جميعا بشرا متساوين .

ومع شيوع وطغيان الأيديولوجيا المبنية على المبالغات ، ومع تنامي روح العداء ،التي لا تُبنى الهويات العصبية من دونها، يبقى علم التاريخ والآثار قادرا على تكذيبها وبدقة كبيرة ويقينية مقنعة لمن أراد الحق والعدل . لذلك علينا النظر الواقعي المحايد لمسألة ملكية الأرض ، عربا كنا أم كردا أم تركا أم عبريين … ومن الضروري التأكيد على أن الجزيرة لم تشهد تناحرا أو تنافسا جديا يذكر، بين العرب والكرد أو غيرهم قبل عهد بشار الأسد … ومعظم سكان الغمر العرب سكنوا في أراضي غير مملوكة وغير مستثمرة . وبقيت القرى الكردية في المنطقة بجوار القرى العربية وبقي محيطها مهجورا حتى تزايد عدد السكان وتواصلت القرى بعضها ببعض مع تزايد السكان وتوسع مكننة الزراعة ، ولم تكن هناك أزمة أرض ولا قضية نقص فيها قبل بداية هذا القرن ، حيث عمت المحاولات لحيازة واحتكار مساحات واسعة واستثمارها من دون وجهة حق، فظهرت أزمة أرض مفتعلة … بين متغولين وملاك غير شرعيين جشعين، وسط غياب شبه تام للدولة والسلطة القانونية العادلة ، بسبب فساد نظام الحكم و تشوه اقتصاده ، وحكم الشبيحة ورجال الأمن الذين ألبوا الناس على بعضهم ليسهلوا تسلطهم .

كما لم يذكر في التاريخ أي صراع عربي كردي ، فهم شعبين متوافقين عبر التاريخ في الدين وفي الطباع وفي البداوة والفروسية، لكن عندما تحضروا على الطريقة الأوروبية، والعقل الأوروبي القومي، استوردوا النزاع والمشكلات لأنفسهم ، و تنازعوا على هوية الأرض (التي لا هوية لها) وملكيتها الغير خاصة عند البدو ، بدل التعاون والتنافس على طريقة العيش عليها والاستيطان بها …

فلو صنع العربان دولة حق وقانون لما تفاقمت النزعة الانفصالية الكوردية ، ولو فعلها التركمان لكانت اليوم تركيا رافعة لكل المنطقة ، ولو يسعى الكورد للتعاون الاتحادي بدلا عن الانفصال السياسي العسكري ، ويعملون علي تطوير نظام المنطقة، فسيوفرون على أنفسهم طريقا طويلا ودمويا للانقسام الجراحي ، الذي ستتلوه العودة للوحدة ، تحت ضغط وحدة الجغرافيا  ومصالح الشعوب وضرورات العولمة … ولو انتبهوا وهم يقيمون دولتهم لعدم اضطهاد وتهجير المقيمين الآخرين، لسهلوا شروط البقاء لإخوتهم الكرد الذين يعيشون في مدن بعيدة مع غير الكرد ولا يعرفون غيرها وطنا لهم …

سبق لي وحذرت من استخدام الأحزاب الكردية المسلحة كشبيحة للدفاع عن النظام … وهذا حصل ،  ومن استخدام (القضية الكوردية المحقة ) بشكل خبيث ومضلل وانتهازي كبوابة لتقسيم سوريا ودول المنطقة على اساس طائفي … وهذا حصل .  واليوم أحذر من توريطهم في صراعات مريرة مع شركائهم التاريخيين في الأوطان. وزجهم كعنصر أساسي في الحروب الأهلية الدائرة، والتي تنتشر كما النار في الهشيم ، خاصة كطرف في الحرب الطائفية القومية التي تشن على العرب السنة تحت عنوان محاربة الارهاب ( البعبع الملتبس ) …

كما أحذر أيضا أن مسار التقسيم هو مسار للحرب ، ومسار الوحدة والتعاون مع التمايز الثقافي هو المسار السلمي الحضاري المتماشي مع التاريخ ، ومع ذلك لا أتوقع وجود الكثير من الآذان الصاغية …. لسبب بسيط هو أن الايمان بالنصر عادة ما يعمي العيون ، ووهم الدعم الغربي ساحر ويغطي على الامكانات الحقيقية …. ولكن أي دعم هذا لتكون قاتلا ومقتولا في معركة ليست لك ، وأي نصر هذا الذي يبنى على حروب مع الأخوة .. من يا ترى الذي انتصر في الحرب العالمية  في أوروبا الموحدة جغرافيا ؟؟؟   لقد  انتصرت نزعة الوحدة الاقتصادية والتعاون … وها هي أوروبا الأمم القومية المتحاربة تتحد فارضة الذوبان القومي وما حية حدود التقسيم التي تقاتلت عليها .!

عندما شبت الثورة في سوريا كنا نتخيل أننا سننقل سوريا نحو الحداثة والحرية والديمقراطية بقفزة سريعة … اليوم نشعر بتعذيب الضمير، ونسأل من دون جواب : ما هو الخطأ الذي ارتكبناه حتى وصلنا لما نحن فيه ، لقد نفذنا كل الوصفة التي قدمها لنا الغرب من أجل التقدم : الربيع والديمقراطية والثورة … فماذا كانت النتيجة … بقي النظام وسقطت البلد وتشردنا وقتل أبناؤنا ، وفي المناطق المحررة قامت سلطات أشد وأدهى من النظام … لنكتشف أن تغيير النظام يحتاج لتغيير ما نحمله من ثقافة وفكر وعقائد ، فالنظام مهما كان ديكتاتوريا فهو تعبير عنها وتجسيد لها … فالتخلف موجود داخلنا ، والاضطهاد ذاتي أساسا ، ولا يجب أن نتهم به الآخرين …

وعليه أدعو الشعب الكردي العزيز أن يتمعن في تبني الوصفات الأجنبية ، قبل أن يكرر مصائب العرب … وأتساءل هل سيكون تعذيب واضطهاد النظام القومي الكردي الموعود للشعب الكوردي أقل من الأنظمة الأخرى القومية لشعوبها، خاصة إذا ما فكر هذا الشعب في معارضة نظامه لأي سبب ؟ وهل سيكون الحاكم الكردي رحيما بشعبه أكثر من الحاكم العربي ؟؟ المثال موجود لنرى ما يفعله الب ك ك وتفرعاته في كوباني ذاتها ، وفي عموم الجزيرة بحق غيره من الأحزاب الكوردية ! …  لقد عانينا من الاحتلال وجيوشه وأعددنا العدة لصده بجيش عرمرم وطني وقومي ومقاوم ، فماذا كان من هذا الجيش؟  هل كان أرحم بنا من جيوش الاحتلال …!   ثم حررنا مناطق وحكمها الثوار والجيش الحر فماذا كانوا  !!! المسألة ليست لون العلم ، ولا هوية أو شخص الحاكم ، بل نوعية نظام الحكم التي تحقق متطلبات البنى التحتية ، والمنظومة القيمية المتناغمة معها .

أخشى أننا جميعا لا نفهم واقعنا بشكل جيد ، وأننا استعرنا حلولا لغير مرض ولغير مريض ، فكانت النتيجة أن تفاقم المرض وتدهورت الحالة … نعم نحن في المنطقة نعاني من التخلف … لكن طريقنا للتقدم لا يشبه طريق أوروبا القرن الثامن عشر … نحن في تكوين سياسي وثقافي وديمغرافي مختلف وفي زمن اقتصادي مختلف، وعلينا فعلا أن نبدع طريقنا نحو الحرية والكرامة ، لا أن نقلد تاريخ الآخرين بشكل أعمى ، ونستخدم وسائل عنيفة ضد الأخوة، لأنه لا غاية عظيمة تبرر وسيلة قذرة … وإذا أراد البغدادي نشر الاسلام فليس بالإرهاب، وإذا أراد الشعب الكوردي اقامة دولته فليعتمد الوسائل السلمية الحقوقية العادلة لتحقيق ذلك، أما أن ينشر الدين بالترهيب ، أو تقوم هذه الدولة الكوردية بالحرب فهو ما سيكون ثمنه أكبر كثيرا من قيمته، وسنخسر ويخسر الكرد ونتابع التخلف معا وبأيدينا .

يتحارب اليوم حزب شيوعي كردي (بي واي دي) ، مع منظمة جهادية سلفية عربية ( داعش) ، ومع أن الشيوعية والدين هم أخصام القومية معا ، لكنهم يتحاربون عليها ومن أجلها … فالمشكلة إذن كامنة فيها وفي طبيعتها العدائية التي تناسب كل من يريد الحرب والصراع ، وهي التي تثير الحروب على ملكية الأرض والموارد وكل الرموز الأصولية العدائية.

الاستقلال ضروري لحرية الوطن ، ولكن حرية المواطن وكرامته ليست مشروطة باستقلاله القومي ؟ … هل في أمريكا هوية قومية أم دولة مواطنة وتعدد هويات … هل منطقتنا تشبه أوروبا القومية أم تشبه أمريكا الفيدرالية … أقترح عدم السير عكس الوقائع وعكس التاريخ ، و عدم استعارة مفاهيم وفلسفات وأيديولوجيات الآخرين التي اخترعوها لخدمة غايات اقتصادية وعسكرية … ثم تخلوا عنها .

فبدل الانخراط في مسار عسكري انفصالي باحث عن دولة قومية على النموذج التقليدي القومي لن تكون الا معادية لجيرانها، والتي تم تجاوزها في أوروبا ذاتها بعد حربين عالميتين دمرت أوروبا والعالم … أو السعي للدولة الدينية الطائفية الارهابية… أقترح على العقلاء في كل الأطراف السير بمسار تفاوضي تعاوني وحدوي يعيد بناء الكيانات السياسية على أسس تعاقدية فدرالية، على النموذج الأمريكي الذي جمع المهاجرين من أصول مختلفة بدولة القانون، وليس دولة الهوية والأخويات المزعومة التي تشبه السجن … والتي تعبر اليوم عن فشلها في كل مكان وتنخرط  في صراعات أهلية مريرة … كنت وما أزال أعول في هذا على حكمة القيادة التركية الحالية ، والكثير من الأخوة الأكراد السوريين وغير السوريين ، وعلى الشعوب التواقة للأمن والسلام والانفتاح، والتي أدمنت حياة التنوع والمشاركة والتعارف على أرضية الكرامة والحرية للجميع …

سوف يتوقف نهوض المنطقة وحريتها وديمقراطيتها على شعوبها وعلى سياسييها الذين يتوجب عليهم صياغة مشاريع بناء وتطوير صيغ العيش  المشترك ، وليس جر الشعوب لصراعات باسم القومية وباسم الحقوق التاريخية في الأرض التي هي لله وحده يورثها لعباده من يشاء ، أو الدين الذي هو خالص لوجه الله يجزي عليه من يشاء بما يشاء … أما ما بيننا فهو العرف والقانون والعدالة والحقوق المتساوية والأخوة التاريخية والعقد الدستوري السياسي الحر.

الحل باختصار هو نظام اتحادي لكل المنطقة لا قومي ولا ديني ، يحفظ التنوع القومي والثقافي والديني والطائفي ، من دون حدود جغرافية سياسية متطابقة معه ، بل ضمن حدود سياسية تجمعها المصالح والحاجات المشتركة . وهذا الحل الحضاري سيكون مدرسة للآخرين ويقدم صورة عن مستقبل وحدة العالم التي هو سائر إليها بسرعة كبيرة… وهذا هو الشكل الوحيد للسلم والاستقرار الذي أراه ممكننا .

كنت وما أزال أقترح على الأخوة الأكراد كما أقترح على غيرهم من المكونات التاريخية القومية والدينية أن يكونوا رافعة أخلاقية حقوقية انسانية حضارية في المنطقة ، وليس وقودا لحروب ونزاعات لن تجلب سوى التخلف، وأن يتجاوزوا الراهن التصادمي نحو المستقبل المشترك ، ولكن على ما يبدو أن صوت معاناتهم من التمييز ما يزال أقوى من أي صوت ، وليس لنا أن ننكر عليهم الحق في تقرير المصير الذي لا يقبل شرطا ، كما الحق في الحرية الذي لا يشترط فعل الصواب ، لأن أحدا غير مفوض بتقرير سلطة الصح والخطأ ، وعليه سيفعل الكرد ما هم عازمون على فعله ، وقد يحصلون على دولة مستقلة لكنها ستكون كهيكل عظمي له قيمة معنوية  فقط، لأنهم سرعان ما سيهدمون الجدران ويفتحون الحدود من جديد لاتحادات اقليمية صارت أكثر من ضرورة ، ولكن … بعد أن يتم بناء تلك الجدران من جثث المتحاربين .

نستطيع أن نسير وراء المتعصبين القوميين ، والمتعصبين الدينيين ، ونستطيع أن نسير في طريق الانقسام والصراع قدر ما نشاء ، ونرفع الايديولوجيات التي تستنفر المتحمسين لها …لكن هذا سيفاقم كل أزمات المنطقة ، التي لن تجد لها حلا سوى في الوحدة الليبرالية الديمقراطية التي تحترم القيم وحقوق الانسان ، وتسير في ركب العولمة الاقتصادية السياسية الجارف …   وعلى الجميع أن يكيف نفسه للسير ضمن هذا المسار الذي أراه الزاميا علينا جميعا ،كردا وعربا وتركا وفرسا ويهودا ومسيحيين ومسلمين بمذاهبهم وفرقهم المختلفة … فقدرنا أن نعيش معا وننجح معا . أو نختلف ونتقاتل ونفشل (جميعا وفرادى) ..  أو كما قال الرسول الكريم :  تعالوا لكلمة سواء بيننا … عملا بقول الله تعالى :

(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم …)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.