يثب

دي مستورا وفلسفة الحرب والسلام

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

في فلسفة السياسة عندما تشتد المعارك فهذا يعني قرب التوصل لوقف اطلاق النار ، وعندما تزداد مبادرات السلام فهذا يعني تزايد فرص حدوث الحرب …

سابقا عندما تضرر العالم من اغلاق قناة السويس بعد حرب حزيران 67، ومن أجل تحريك عملية السلام تقرر القيام بحرب مسرحية يظهر فيها العرب كمنتصرين في بدايتها ، وتنتصر اسرائيل في نهايتها وتكون في موقع عسكري متميز يحصنها من تقديم تنازلات سياسية … وهكذا صممت حرب تشرين 73 من أجل تحريك عملية السلام  ، فعبرت القوات المصرية بسهولة القناة لتجتاح خط بارليف الفارغ ، بينما عبرت قوات شارون بسهولة أكبر ثغرة الدفلسوار المفرغة وحاصرت ثلث الجيش المصري وتقدمت نحو القاهرة ( كم 101)، وشيء مثل هذا حدث على الجبهة الشمالية حيث تقدمت القوات الاسرائيلية بمحازاة سفح جبل الشيخ  وتوقفت في حينة على طريق دمشق ( كم 35)… عندما أعلنت روسيا وأمريكا عبر مجلس الأمن نهاية العرض المسرحي العسكري وبداية فصل السلام .

وهكذا تهيأت الفرصة لهنري كيسنجر الذي أدار عمليات التفاوض التي انتهت سريعا بعودة القناة للعمل ، ثم عمل على اقامة السلام مع مصر والأردن ، لكن سوريا خرجت عن دورها وبقيت تماطل  في توقيع السلام النهائي رغم تطبيقها لاتفاقية فصل القوات وانهاء حالة الحرب ، لأن نظامها يحتاج لاستمرار حالة الطوارئ والتجارة بالمقاومة كي يستمر في السلطة . وهكذا دخل النظام في حالة لا حرب ولا سلم . متجمدا ومجمدا كل شيء من أجل استقرار كرسي السلطة ، حتى اندلعت الثورة عليه وجاءته الحرب من حيث لا يحتسب ، فأدار جيشه التحريري على شعبه ، وظهره للعدو ، وصار يتلقى الضربات الاسرائيلية  على قفاه كلما لعب بذنبه ، ومن دون أن يستطيع سوى الاحتفاظ بحقوق الرد عليها … ربما عندما بعد أن يقوم بالقضاء على شعبه قاطبة . ( وهذه هي فلسفة النظام )

وعندما شنت اسرائيل حربها المتكررة على لبنان كان هدفها المعلن هو السلام. أي وضع قوات فصل دولية وهو ما حصل، وهي تكرر فعل ذلك مع غزة مرة بعد مرة لتجبرها على السلام ووضع قوات دولية بينهما وترتاح منها ومن مقاومتها … ( وهي فلسفة اسرائيل )

ومثل هذا  ينطبق أيضا على المفاوضات الأمريكية الإيرانية ، فالذي حدث بالأمس من استهداف لسلاح ايراني متطور كان يحضر للنقل إلى حزب الله (وهو من السلاح الثقيل بعيد المدى ومن الدفاعات الجوية وبعض السلاح الكيمياوي )  يؤكد أنه يهدف لتهديد اسرائيل وليس لحسابات داخلية لبنانية ، ويدل على أن  ايران تستعد لجولة تصعيد عسكري وتتهيأ لها ، وهي عندما تخوض المفاوضات تريد كسب الوقت لتحسين مواقعها وأدواتها في المعركة العسكرية القادمة حتما. أي أنها في تسابق مع الزمن لتحضير القنبلة النووية التي ستجعل الغرب عاجزا عن استهدافها عسكريا كما تظن ، وهذا يشبه مسعى هتلر لصنع القنبلة في أواخر الحرب العالمية حيث وصل لمرحلة متقدمة من صناعة هذه القنبلة التي استولت عليها أمريكا وأكملتها واستعملتها لحسم الحرب وفرض السلام على اليابان … ( فلسفة ايران)

وهكذا ومن وجهة نظر غربية يجب استنفاذ كل فرص السلام قبل الانتقال للخيار العسكري ، الذي هددت اسرائيل بالقيام به وحيدة، وعادت لتكرر هذا التهديد عشية الحديث عن اتفاق لا يلغي قدرة ايران على صنع سلاح نووي… والفترة التي أعطيت للمفاوضات تتناسب مع سرعة اقتراب ايران من تحصيل القدرة اللازمة لصناعة سلاحها … وهكذا يبدو أن المنطقة متجهة لحرب اقليمية في الصيف القادم ، بالرغم من كل جهود السلام التي تبذل من دون فائدة، ولا تكون نتيجتها إلا تضييع الوقت الذي يدفع ثمنه الشعب السوري ، الذي وضعت قضيته كورقة على طاولة التفاوض بين الأطراف الفاعلة، ولكون الأولوية الآن لدى أمريكا هي هزيمة داعش ، وليس انهاء معاناة السوريين التي تتطلب الحرب مع ايران وحلفائها.  ( فلسفة أمريكا والغرب )

من هنا كانت مساعي دي مستورا ليس لإيجاد حل سياسي شامل كما طالبه الائتلاف ، الذي على ما يبدو لم يقرأ ولم يفهم ما قاله دي مستورا ، لأن العنوان في مبادرته هو تجنب الدخول في موضوع الحل السياسي (لكونه  مؤجلا  للتفاوض أو الحسم العسكري مع ايران) ، و هو ليس بيد المعارضة التي هي رأس من دون جسد ، ولا بيد النظام الذي أصبح دمية بيد ايران ، لذلك وحتى لا يكون الوقت مكلفا جدا ، فقد فكر في هدنات محلية تخفف معاناة الناس في بعض المناطق دون التأثير على الوضع العسكري والسياسي بشكل عام ، وهذا يترك هامشا يمكن التفاوض عليه محليا، مع الانتباه لهشاشة الوضع وامكانية انهياره في أي لحظة . والمصيبة أن المعارضة السورية منفصلة عن الواقع ، وأن القوى العسكرية المحلية ما تزال غير قادرة على الوحدة ، وأن أغلب المنظمات المتطرفة ستخرق وقف اطلاق النار الذي سيستغله النظام … والمفيد في ذلك المسعى أنه قد يخفف معاناة أهلنا التي لا تطاق، ويسمح باستقرار مجموعات مدنية وبناء مؤسسات مجتمعية وقضائية واقتصادية، ويمكن المعارضة المعتدلة من التواجد على أرضها لتصبح طرفا ذو قيمة ، استعدادا لجولات قادمة حربا أو سلما … وهذا كله ضرب من الخيال ( فلسفة دي مستورا )

الهامش الذي يستطيع دي مستورا التحرك فيه هو فقط ما توافق عليه المعارضة والنظام معا وهذا غير متوفر ، لأن النظام يطلب منه أن توقف المعارضة الحرب عليه لإسقاطه  في أي منطقة هو مستنزف فيها والكفة لا تميل لصالحه . بينما المعارضة تطلب منه اسقاط نظام الأسد قبل وقف اطلاق النار .

لذلك فالمبادرة الدولية كسابقاتها هي بحكم الميتة ، لكن النظام يريد أن يحمل مسؤولية قتلها للمعارضة . في حين كان على المعارضة أن  تناور و تطرح الغوطتين  في دمشق بالتزامن مع حلب … لتحرجه وتحرج النظام لأن الاحتفاظ بالغوطتين بيد المعارضة له أهمية استراتيجية هائلة والموضوع الانساني فيهم متفاقم ، ولأنها هي المعنية بتحييد المدنيين ، والنظام هو الذي يستهدفهم انتقاما من الثورة . وكل فكرة لحماية المدنيين يجب أن نهتم بها ، وندعمها لكن بشكل لا يتناقض مع أهداف الثورة ، وطرح موضوع دمشق مع حلب سيكون أفضل وسيلة لكسب الجولة  سياسيا على النظام .

في ذات الوقت  يسعى الروس لعقد حوار عندهم وبإدارتهم وحدهم وبشروطهم هم ، بعد أن فشل مثل هذا الحوار في جنيف، ويحاولوا أن يشتروا ما أمكنهم من معارضة تقبل بهم كمرجعية وحيدة غير نزيهة لا تخفي تأييدها المطلق للنظام  … فإذا كانت جنيف بالشروط القديمة غير مقبولة، فكيف نقبل بها بهذه الشروط الجديدة ، وإذا فشلت جنيف الأولى بسبب غطرسة النظام ، فكيف تنجح موسكو بعد أن حقق النظام انتصارات سياسية كبرى بسبب داعش ؟؟… أعتقد أن مسار السلام الروسي هو مسار مرفوض من حيث المبدأ من قبل الثورة ، لأنه يعني الاستسلام السياسي واعادة شرعية النظام، والوقوف معه صفا واحدا ضد الارهاب… فالمصلحة الروسية تكمن في تقوية النظام لاستخدامه كورقة  ذات قيمة أكبر في التفاوض مع أمريكا … لكن في النهاية لن يستطيع الروس اقناع ثوري واحد بذلك ، بل سيشترون (المأجورين والانتهازيين فقط ) من المعارضة الوهمية ، وهذا مرحب به ومبروك عليهم ، لأن الثورة سترتاح منهم ومن مبادراتهم .. بينما لا تزال أمريكا تريد استمرار المعارضة السورية مهما كانت أيديولوجيتها بحالة توازن مع النظام ، مما يضعف قيمة النظام كورقة في التفاوض … لذلك أمريكا لا تريد أن تتوقف هذه المعارضة أو تستسلم ، وتقوم بتغذيها ليس لكي تنتصر بل لتبقى في حالة توازن ضعف مع النظام … وتبطل قيمته التفاوضية … بحيث يتم في النهاية التضحية بكلا الطرفين معا على صفحات الاتفاق لو حصل … وفي هذا بعد ديناميكي (روسي ) لفلسفة سياسة الحرب والسلام .

 المبادرة الروسية تبدأ من تنازل سياسي استراتيجي ، لذلك هي مرفوضة سلفا ،  بينما تبدأ مساعي دي مستورا من تحييد المدنيين ومن الأرض  ، ومن الفاعلين عليها بعيدا عن الصراع السياسي الذي لن يحل إلا دوليا … وهذا يمكننا التفكير فيه من حيث المبدأ ، ومع ذلك يجب الحذر الشديد والتعامل بحرص مع كل بند وكل قضية ، ويجب فتح النقاش العلني واشراك الجميع قبل اتخاذ أي قرار … ثم عدم اعتماد ممثل واحد مفوض عام عن الثورة ، لأن ذلك معاكس للمبدأ الذي تقوم عليه المبادرة ، ويهدد بتقديم تنازلات استراتيجية عامة ، وعليه يجب أن تبقى المفاوضات مع دي مستورا جزئية ومتعددة الأطراف  ومحلية … أي بعكس ما طالب به الائتلاف ، والهدف من ذلك هو أن تبقى أي غلطة محصورة في مكانها وشخوصها.  وهذا معاكس لنافوخ المعارضة الباحثة عن الزعامة في كل شيء ، فالمهم عندها هو الاعتراف بها وبعد ذلك لا يهمها الفرق بين  الروسي أو الأمريكي أو الدولي .

هذه هي فلسفة المعارضة السورية والائتلاف الذي دأب على مطالبة التحالف الدولي باستهداف أسلحة ومراكز النظام ، ثم ادان اسرائيل (العضو في هذا التحالف) عندما قامت بفعل ذلك ، بل  حمل  النظام المسؤولية !.. مسؤولية ماذا؟  … القصف الجوي الاسرائيلي لسلاحه وسلاح حزب الله !!؟؟ أي منطق يجمع هذه الفلسفة ؟ … أنا شخصيا لا أدري… !!!!

لكن ربما تجاوزت المعارضة السورية في ائتلافها مرحلة الفلسفة وانتقلت للعبقرية التي لا نستطيع فهمها. وبسبب  ذلك أي عدم فهمنا لهذه العبقرية فإن النظام يحقق الانتصارات السياسية والعسكرية منذ أن صارت القيادة بيد الائتلاف !!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.