يثب

الكفر والإلحاد … في أركيولوجيا العقل العلمي

د. كمال اللبواني

(إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا )

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

سأقوم بنشر عدة مقالات تتناول مواضيع جوهرية تطال المسائل الأكثر خطورة وأهمية في الثقافة العربية الاسلامية الراهنة، و هي مواضيع مركزة معقدة وصعبة قد يحتاج قارئها لمعرفة واطلاع واسع في الفلسفة والفيزياء والسياسة والدين لكي يتيسر له فهمها من دون شروحات مطولة ، ثم قد نقوم بجمعها لاحقا في كتاب متكامل … أعتقد لو تيسر أنه سيساهم في فتح العقل العربي الاسلامي على الحضارة ومنتجاتها العقلي والمعرفي والقيمي . ويؤسس لمدخل جديد في عقل وقراءة الموروث الديني الذي نؤمن به والذي ما يزال كبير الأثر في كل مناحي حياتنا كما يبدو .

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ  ).

في هذا المقال تحليل أبستمولوجي في نظام العقل السائد في الحضارة الحديثة والذي يعتمد المنهج العلمي في دراسة ومقاربة الظواهر ، حيث جرى سحبه (أركيولوجيا ) على كل جوانب المعرفة والفلسفة قاطبة ليصبح هو العقل المهيمن وربما الوحيد المعتمد في مقارباتها لموضوعاتها المختلفة … وسنسعى للبرهان على أن الكفر والالحاد هو ناتج تطبيق ذلك العقل على فلسفة الوجود ( الأنطولوجيا ) ، ثم نبين الأخطاء التي وقعت بها تلك الأركيولوجيا، لنصل في مقال لاحق للبرهان على أن التكفير أيضا هو ناتج تطبيق هذا العقل العلمي المادي الحديث على الدين ، أي أنه ناتج قراءة الدين  قراءة علمية، و ليس ناتجا عن الدين أو عن فلسفته المثالية، وذلك من خلال دراسة بنية ونظام الفكر والعقل الذي يحكم الكفر والتكفير مقارنا بالعقل العلمي المترابط تأسيسيا مع الفلسفة المادية … ليتبين لنا أن الارهاب هو نتاج التحديث المشوه وليس ناتج الموروث التقليدي ، ليسأل سائل ما هو إذن التحديث الصحيح الذي يجب أن نفكر به معا للخروج من أزمة الوجود التي نعيش؟

المشكلة كما قلت ليست مع العقل العلمي الحديث  بحد ذاته، فهو جيد وصحيح في حيز اشتغاله وقد أنتج لنا حضارة رائعة، بل مع الفلسفة المادية التي تعممه أركيولوجيا كعقل مطلق في كل عمليات الادراك ، ولسنا بصدد نقضه إذا بقي ضمن حيز اشتغاله واختصاصه، أي فيما يخص كل ما هو ثابت وتجريبي قابل للتكرار الاصطناعي بواسطة العمل الذي يقوم بتحضير شروط حدوثه تجريبيا … حيث نستطيع التأكد من صحة أي قانون أو نظرية بالتجربة العملية… لكن عندما نخرج بهذا العقل عن اختصاصه يمكن عندها أن نقع في مشاكل كبرى…  عندما نحاول مثلا معرفة ما هو متغير، وما هو مبدع غير متكرر، وما هو غير قابل للتجربة… فهذا يحتم علينا تغيير وسائلنا المعرفية التي تعتمد التجربة … ومسألة خلق الكون هي أيضا مسألة غير تجريبية… وبالتالي كل نظرية متكاملة عنها  هي مجرد فلسفة تجمع عدة قياسات وملاحظات في قالب منطقي منسجم ومتناغم، ولا يمكن اعتبارها نظرية علمية مثبتة، بل مجرد فرضية فلسفية (منطقية ، أو أكثر اقناعا ، أو أكثر تطابقا مع القياسات من غيرها) ، لكن قد تأتي غيرها لتدحضها مع ولادة كشف صغير جديد … لذلك هناك من يفضل عليها قصصا أسطورية رمزية ذات دلالات فلسفية وقيمية ثابتة أهم من المعرفة المجردة … بل ربما هي غايتها ومبتغاها في النهاية، والتي تم التوصل اليها تاريخيا عبر الحدس والنبوءة المتراكمة ، وجرت الدلالة عليها ترميزا وأسطورة ونصا وقصصا ( سفر التكوين ) ، فنحن لا نهتم بعلم الوجود لنغيره أو نوجد وجودا آخر بدلا عنه ، بل نهتم به لنفسره ولنوظف هذه التفسير في خدمة غاياتنا وتبرير فلسفاتنا، وبالتالي لا فرق كبير عمليا اذا اعتمدنا على نظرية ( فلسفية علمية ) أو أسطورة فنية مجازية لتفسير الوجود أو الخلق، فالناتج في النهاية فلسفي توظيفي على كل حال… أي أن ما يهم هو النتيجة الفلسفية القيمية التي تقودنا اليها عندما تصبح أساسا في ثقافتنا.

كذلك مسألة وجود الخالق ، فهي أيضا غير تجريبية (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)… وعندما يسأل سائل لماذا لا ينزل الله الطعام لنا من السماء، أو يسأله سبحانه أن يجعل الشمس تشرق من المغرب لكي يقتنع بوجوده المتفاعل… هنا هو يقوم باستخدام العقل العلمي التجريبي لتوليد الإيمان بما هو محتجب عن هذا العقل ، (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ) وهذا  ما يجعل من استخدام ذلك العقل أداة لتوليد الكفر باسم العلم واليقين، لأن اليقين العلمي قائم على المشاهدة والتجريب… ولا يجوز لنا تجريب الإله ولا امتحانه ( فهو الذي يجربنا ويمتحننا ) ،و لسنا من يأمره ، ولا نستطيع مشاهدة الله الكل الواحد من الجزء ولا معرفته من القياس على جزء ( ليس كمثله شيء سبحانه عما يصفون ) … وبالتالي سيعجز العلم عن توليد الإيمان بشكل مطلق ، ليصبح الإيمان ضمن هذا المنهج ممكنا فقط حيث يتوقف العلم ويسود الجهل، ويهرب منه مع تقدمه ، وحيث ينير العلم يختفي الإله الذي نسد به كمفهوم بوابة الجهل ، ويصبح دور الدعاة اثبات الجهل من أجل اثبات وجود الله ( مصطفى محمود ) ، فالله يوجد فقط في (المجهول )  حيث تنتهي القدرة على الكشف ، ولا يوجد في ( المعلوم )  حيث يسود نور العلم، ولا يمكن اثباته بالعلم  بل لابد من افتراضه بالجهل ، وهو ضمن هذا السياق غير معلوم الوجود في كل الأمور وأبسطها وأكثرها معرفة ،  لأننا نتمسك بمرجعية وبمبادئ العقل العلمي وبرهانه… وفي هذا خلط مفهومي وفلسفي خطير ومدمر . فمعرفة الله علم بسيط وشعبي ولا تحتاج لثقافة ولا مخابر ولا علماء، وهي معرفة وخبرة وحدس وحس وليست جهلا، لكن بكل بساطة أدوات هذه المعرفة تختلف ( علوم الدين ) ، عن أدوات العقل العلمي (علوم الأشياء) …. ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ).

الحضارة الحديثة التي قامت على نجاحات العقل العملي المادي بالضرورة ، واتجهت فلسفاتها بشكل جدي نحو تقويض المذهب الفلسفي المثالي الذي يقوم عليه الدين، وصار شغل الفلاسفة الشاغل تعميم مناهج العقل العلمي التجريبي، وإثبات أن الكون وكل شيء فيه خاضع لقوانين ثابتة ملزمة، وأن من واجب العلماء والفلاسفة البحث عنها واستكشافها ، والعمل بها لزيادة سيطرة الانسان على الطبيعة وتحكمه بها، فالكون محكوم من قبل قوانين حتمية ( قوة افتراضية ) لكنها غير واعية نستكشفها تباعا. فالبديل عن الله الخالق لنواميس الكون الثابتة والمتغيرة ، والمحرك والحافظ له بثباته وتغيره كما هو معتمد في الفلسفة المثالية ، هو شيء افتراضي أيضا ( قانون وليس ملائكة) ، غير واعي وليس نتاج ذات تفعل (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ  )  . فكل وجود مادي يحتوي على قدر هائل من النظم والقوانين الافتراضية الحاكمة والمحددة لوجوده ، ومع ذلك يصبح هذا (الافتراضي / المثالي) هو أيضا مثل المادي بل منه ، فالمثالي هو أيضا مادي، ويخضع للعقل العلمي الذي ألغى ضرورة أي عقل آخر (وهو ما أطلق عليه نهاية الفلسفة واستبدالها بالعلم) .

لكن إذا كانت الطاقة مصونة وثابتة في تحولها من شكل لشكل بحسب فرضيتهم (وهذه أيضا غير صحيحة لأن الطاقة بمفهومها العام غير مصونة كما سنناقش في مقال لاحق  ) ، وإذا كان المادي الذي هو طاقة مصونة وتتحول من شكل لشكل آخر لا زيادة ولا نقصان ، فماذا يحصل لهذا الافتراضي المثالي وكيف سيتحول .. ومن أين يوجد وأين يختفي طالما هو داتا ونوع من دون كموم ومن دون طاقة … ( وكيف تكون الطاقة المادية مصونة ، والتكوين الافتراضي المندس فيها غير مصون ) ؟

مما يعيدنا للفلسفة المثالية التي تتحدث عن وجود قوة افتراضية عارفة هي مصدر هذا الافتراضي المندس في كل الوجود المتحرك والمتغير وليس فقط الثابت ، وهي من تدخله عالم الطاقة/الحركة  وتحول العماء/الخلاء  لوجود بواسطة فعل ايجاد يسمى الخلق، فتصبح الموجودات  مخلوقات بفعل خالق ناطق ، يملك الطاقة والمعرفة ويحدد مواصفاتها باسمها وتكوينها الافتراضي ( داتا / كلمة )  ثم ينطقها ضمن عالم الحركة المادية الزمكانية وجودا مكتملا بالشكل الذي نراه ، (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) وهذا يقع حتما ضمن فلسفة أخرى مثالية ورمزية ، لا تعتمد العقل العلمي التجريبي ، الذي لا يجب أن يعتبر مطلقا  وشاملا لكل جوانب المعرفة ، التي تهتم فقط بالوجود الفيزيائي و تفترض عدم غيره ( الفيلسوف سارتر ) .

الفلسفة المادية العلمية بإنكارها الضمني أو المصرح عنه لفعل الخلق، وبالتالي لتحكم إرادة الخالق بالكون والمخلوقات ، تبرر سيادتها بأنها تسعى لخدمة الانسان العاقل العارف العالم القادر على العمل والتحكم ، بواسطة معرفة هذه القوانين والتكيف معها وتسخيرها … ومع أنها تطور خبراته وأدواته لكنها تلغي حريته من حيث النتيجة ، وبالتالي تصبح هذه الحرية مجرد وهم عندما نبدأ بمقدمة تقول أنها محكومة تماما بقوانين حتمية لا يمكن تغييرها، فحتى خياراتنا الحرة هي نتيجة دوافع لا إرادية تحكمها وتوجهها وهي التي تختار وليس نحن … و النتيجة الوحيدة التي تنتهي إليها مقدماتها هي جعل كل ما يحدث كأنه حاصل تحقق طبيعي لقوى طبيعية عمياء مطلقة جبرية لا غاية ولا حكمة لها … ولا مسؤولية شخصية لأي فاعل فيها، وبذلك تنقطع هذه الفلسفة كليا عن مصدر القيم والأخلاق بشكل تأسيسي، لانقطاعها عن مبررها وهو الحرية والقدرة على الابداع والاختيار، فالحتميات العلمية هي من تحكم سلوكنا وسلوك كل شيء … ولا قيمة لأي غاية أو حكمة في هذا الجحيم الذي اسمه الوجود .

شيء من هذا ورد في  سفر الجامعة الاصحاح التاسع من العهد القديم معبرا عن لحظات الاحباط الفلسفي (7اِذْهَبْ كُلْ خُبْزَكَ بِفَرَحٍ، وَاشْرَبْ خَمْرَكَ بِقَلْبٍ طَيِّبٍ، لأَنَّ اللهَ مُنْذُ زَمَانٍ قَدْ رَضِيَ عَمَلَكَ. 8لِتَكُنْ ثِيَابُكَ فِي كُلِّ حِينٍ بَيْضَاءَ، وَلاَ يُعْوِزْ رَأْسَكَ الدُّهْنُ. 9اِلْتَذَّ عَيْشًا مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَحْبَبْتَهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاةِ بَاطِلِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ إِيَّاهَا تَحْتَ الشَّمْسِ، كُلَّ أَيَّامِ بَاطِلِكَ، لأَنَّ ذلِكَ نَصِيبُكَ فِي الْحَيَاةِ وَفِي تَعَبِكَ الَّذِي تَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ. 10كُلُّ مَا تَجِدُهُ يَدُكَ لِتَفْعَلَهُ فَافْعَلْهُ بِقُوَّتِكَ، لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَل وَلاَ اخْتِرَاعٍ وَلاَ مَعْرِفَةٍ وَلاَ حِكْمَةٍ فِي الْهَاوِيَةِ الَّتِي أَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَيْهَا .)

تابع في المقال التالي (الوجود والعدم). 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.