يثب

أين أخطأ المنهج العلمي

د. كمال اللبواني 

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

خطأين أساسيين ارتكبهما المنهج العلمي : الأول بنيوي أدى لتغييب الخالق الضمني في الفلسفات والعقل الغربي العلمي الطابع، والثاني توظيفي أركيولوجي أدى للغلو والتكفير بسبب استخدام العقل العلمي في غير موضعه ( المجتمع و  الدين):

أولهما –  خطأ تكويني أنتج الكفر  هو اشتقاق الزمن وتجريده دوما أثناء عمليات وعي الوجود، واعتباره كالمكان شيء موضوعي منفصل بشكل مطلق … فكل معرفتنا العلمية وكل ما هو مدروس و كل القوانين العلمية، مبنية على  اشتقاق أولي لهذا الواقع، بواسطة حذف متغيره الدائم موضوعيا الذي هو الزمن، بعملية رياضية تسمى الاشتقاق، التي ينتج عنها الصورة الثابتة المجردة عن الزمن للوقائع . فما يدخل ادراكنا ليس الواقع كما هو في تغيره وتحركه الدائم ، بل مشتقه الزماني … لقطة ثابتة منه عندما يتناهى تغير الزمان إلى الصفر، ليصبح الوعي مكونا من مجموعة صور ثابتة ، إذا أردنا أن نحركه نكرر صوره بسرعة وراء بعضها كما في فيلم السينما القديم، ونسمي ذلك عملية التكامل في الرياضيات،  أي أننا لا نعي الواقع باستمراريته التي تتطلب وعي الزمان كعنصر تكويني فيه، وليس منفصلا عنه كما نتوهم عندما ننتمي للسكون الظاهري، الذي توحيه الكتلة الكبيرة التي نرتبط بها ( الأرض ) والتي تدوم بنا مغيرة اتجاه جملة الاحداثيات المكانية بشكل دوري منتظم هو يومها ، وتسير بنا بحركة معقدة ومع ذلك نفترض ذواتنا مركزا ثابتا للمكان المطلق ولاتجاه احداثياته الديكارتية ثلاثية الأبعاد  … مع أن هذا السكون الذي نعيش به هو ظاهري ونسبي وخاص وذاتي .

فالحركة موجودة بشكل طبيعي وطاغي في كل شيء داخل الذرة وبين الكتل السماوية وفي الخلاء، بل هي المكون الأول الذي يتكون منه كل وجود،  وادراك مفهومها غير ممكن من دون عامل الزمن ، لذلك عندما ندرس الوجود نعترف بوجود الزمن لكن مستقلا لكي نشتقه فيما بعد ، فتصبح السرعة مكانا ثابتا نقطعه في واحدة الزمن، التي هي أيضا تكرار لدوران منتظم ثابت في المكان ( سرعة زاوية منتظمة تدور بها عقارب الساعة) ، دون حساب التغيرات الكثيرة التي تحدث أثناءه ومنها تغير مكاننا وتغير اتجاهنا موضوعيا ونحن نحمل مركز السكون الذي ننطلق منه في وعينا.

فإذا كانت حركتنا ضمن أي جملة احداثيات ديكارتية متغيرة الاتجاه دوما بسبب تغير اتجاه كل الجملة موضوعيا بفعل الزمن ، فهذا يعني أن كل حركة مهما كانت مستقيمة ليست سوى دوران في المكان ، فلو سرنا ذاتيا بسرعة عالية بشكل مستقيم فإننا عمليا سندور بزمننا وسرعتنا ونعود لذات النقطة بعد اكتمال يومنا الزمني دورة اتجاه كاملة، لذلك فالمكان يصبح محدودا بالزمان وبالسرعة، فإذا سرنا بسرعة الضوء المطلقة فنحن عمليا سندور بمكان محيطه يوم ضوئي كامل… وهي حدود المكان المطلق القصوى تبعا للمفهوم الحالي عن المكان والزمان ، فالمكان إذن هو ذاتي ومحدود بالزمن الذاتي وبالسرعة القصوى الممكنة ولا يمكننا الخروج منه منطقيا وعلميا ، وكل ما نستطيعه هو تبادل الزمان بالمكان فزيادة الزمان تقلص المكان وبالعكس طالما أن السرعة القصوى محددة بسرعة الضوء … وهو ما عبرت عنه فرضية تحدب المكان . وهذا ما يشوش فهم كل ما هو كبير المكان عالي السرعة ، أو صغير المكان سريع الزمن حيث صمم له ميكانيك خاص عجائبي هو ميكانيكا الكوانتوم الاحتمالي، لتجاهله المتعمد  متغير أساسي موضوعي هو الزمن، الذي هو تغير اتجاه الحركة بشكل دائم والذي يكون سريعا جدا في الحركات الدورانية الصغيرة، يعادل كبر السرعة المكانية في الحركات الكبيرة، وكل حساباته ومعادلاته ينقصها مجهول لا يمكن حلها من دونه ، فتحل بدلالة افتراضية عنه (حيث لا نستطيع أن نحدد مكان وسرعة الالكترون في مداره بشكل متزامن ) إما أن نقيس سرعته في مكان محدد ، أو نحدد مكانه بحساب سرعته.

وكل متحرك يغير اتجاهه بشكل منتظم سيشكل دائرة، ندورها بزمن ثابت (دور يتكرر) يصبح هو واحدة الزمان الذاتي الذي له مركز دوران ثابت، نحصل منه على تغير اتجاه صرف، هو تعبير عن زمن مستقل افتراضيا عن المكان والسرعة، وكوننا نحمله ونفرضه ذاتيا وندوم به فلا نشعر بطبيعته، ولا بترابطه مع المكان والسرعة، أي أننا نستطيع أن نفصل الزمان عن المكان بشكل كامل افتراضيا فقط  من المركز السكوني الذاتي ، بفصل متغيرة الاتجاه عن متغيرة المكان لمتحرك دائر، ويصبح المكان مجرد حيز وبعد ، يحدده نصف قطر الدائرة الدورانية التي نسكن مركزها الافتراضي ، وهكذا نشعر من هذا المركز بثبات المكان كأبعاد ثلاث، و نشعر بتغير الاتجاه الدائم المنفصل عنه كزمن مبهم ومتحرك، فإذا تحركنا من السكون وزدنا من سرعتنا عدنا للانضمام للحركة بمقدار زيادة هذه السرعة، حتى يتحد الزمان والمكان في الحركة ذاتها المشتقين عنها ، وهو ما يحدث لنا عندما نسير بسرعة الضوء / الخلاء، لكون الزمان والمكان الموضوعيين مشتقين من متحرك أولي هو الخلاء ، وعليه لا يمكن البحث منطقيا وعلميا إلا ضمن مكان محدود نصف قطره =٤ ساعات ضوئية  … لكن ماذا لوكان الدوران غير دائري لكون سرعة الدائر متغيرة نواسيا ، وماذا لو كان الزمان ليس تغير اتجاه حول محور ثابت بل هذا المحور الدوراني مهتز نواسيا أيضا أو دائر هو الآخر في الاتجاه الثاني بسرعة متغيرة … ؟ هذه هي حالة ارتباط الزمان بالمكان وهي كما ترون معقدة جدا . لذلك نحذفها من حساباتنا ا ضمن المقاييس الثابتة افتراضيا ونفرض اشتقاق الزمان منها رياضيا.

وهكذا عبر آلية الاشتقاق نحصل على وعي افتراضي وذاتي وغير موضوعي، يفترض الثبات المطلق (الذي يصبح هو الحقيقة العلمية، مع أنه ليس واقعيا وغير موجود عمليا ) … ومن هنا كانت هذه المعرفية العلمية هي معرفة تبسيطية تحليلية تجريدية وليست واقعية ولا حقيقية.

باشتقاق الزمن يجري الخلط بين مفهومي القدرة والاستطاعة، أي نعتبر القدرة شيء مستقل عن الزمن، فالقدرة بحساباتنا هي القوة مضروبة بالانتقال ( نيوتن x متر = جول ) وكل قوة مهما بدت ثابتة ذاتيا هي متحركة موضوعيا وهي بالتالي استطاعة ( قوة Xسرعة ) أي (واط = نيوتن x متر /ثانية) … لذلك مفهوم القدرة المستعمل  يعني حالة افتراضية خاصة ثابتة المكان ومعدومة الزمان،  مع أنها وجودا مرتبطة به ولا يمكنها الفكاك عنه، ومتحركة في المكان المطلق أيضا بسرعات متغيرة القيمة والاتجاه، فتصبح مصونيتها المعتمدة في فرضية لافوازييه نسبية وليست مطلقة، لذلك نعتبر ما قاله لافوازييه هو تعميم خاطئ لحالة خاصة تفترض الثبات، بينما واقعيا كل قدرة ثابتة هي استطاعة يمكن استخدامها ، وكل طاقة هي كمية من الحركة لها سرعة ( الكتلة بمربع السرعة ) عندما تمنع من الحركة تتظاهر على شكل قوة من السكون…  وكل مكان هو حركة وتغير مكان عمليا ، وبالتالي يمكن اعتبار الزمان والمكان كعناصر تكوينية في الحركة و عناصر حقيقية في الطاقة ومصدر لها منطقيا،   لكن فرضية لافوازييه المقدسة علميا تغلق كل باب للتفكير بوجود مصدر غير احتراقي أو غير تفكيكي للطاقة… وتلغى مفهوم الطاقة البانية وتحرمنا من البحث عن مصادرها …!!! ( سنعود لهذا الموضوع في مقال لاحق ) .  كما نعتبر أن ما قاله نيوتن يعتبر صحيحا فقط لو توقفت الحركة، و لا يفسر حالة الحركة، أو من أين جاءت هذه الحركة، ولا يشرح لنا ما هي العلاقات الحركية بين الكتل بل يكتفي بشرح الحالة السكونية أي مشتق الواقع بحذف عامل الزمن منه …

ولجعل هذا الزمن المشتق حياديا، و هذه الحركة التي تحكم الكون عمياء بلا موجه، كان لا بد علميا من مصدر أعمى لهذه الحركة المحركة التي تعطي للوجود صفته التفاعلية والتغييرية غير الواعية … ولإنكار وجود محرك ومتحكم دائم بالحركة والزمن، خرجوا علينا بنظرية الانفجار الكوني التلقائي … والكون النابض .  فكل حركة وكل تغير سيكون حاصل توزع عشوائي لحركة الذرات والجسيمات في المكان ، وكل هذه الطاقة الهائلة التي تحملها الحركة ، هي من بقايا الانفجار الكبير للكتلة التي تخزن الطاقة، وتعتبر شكلا من أشكالها، ومع ذلك تستطيع هذه الكتلة أن تنضغط لتصبح كل كتلة الكون بحجم صغير جدا يقترب من الصفر ، أي العدم ( الخلاء )  قبل أن تنفجر من جديد  في الزمان والمكان الخالي المنفصل عن الوجود !!! لتنتج كونا بمساحة مليارات السنوات الضوئية، والذي ما يزال يتوسع بسرعة فائقة بل بتسارع ، ولا أحد يفسر لنا مصدر قوته التسارعية أو أين حدث هذا الانفجار ولماذا لا يتشكل الكون على شكل  قشرة متوسعة خارجة من هذا الانفجار … وهكذا من كل هذا التخليط المفهومي الذهني الذي اخترع الثقوب السوداء والكتلة السوداء المختفية ، يريدون الخروج علينا بنظريات علمية حتمية مجبرين على قبولها كحقائق ، لتجعل من العبث العشوائي الأعمى ، مولدا تلقائيا للنظام ، الذي يترتب بفعل العشواء المجنون . فكل هذا الكون الجميل الرائع المنظم … الذي تمايزت فيه الكائنات الحية التي ارتقت وانتجت الانسان الواعي ، والذي اندخلت فيه النفس العارفة المبدعة … والذي يطور حياته وقدراته باستمرار … هو حاصل هذا العماء الأعمى، وهكذا عندما نقوم بحذف المتغير الذي هو الزمن، نحذف المتحكم به والفاعل الموجد الموجه للأحداث.

مع أنه ببساطة من الممكن الحديث عن اندماج الزمان والمكان وتوحدهما في الحركة التي هي سرعة الخلاء ( سرعة الضوء الذي يسير بسرعة حامله ) وباعتماد البنية الموجية للفوتونات والجسيمات والكتل كأمواج متحركة أو مستقرة في هذا الخلاء ، فالطاقة ليست ناتجة عن انتقال القوة بل إن هذه القوة هي ناتج توقف السرعة  والحركة وأسرها، وهذا ما يمكنه أن يغير كل مفاهيمنا الفيزيائية خاصة مفاهيم نيوتن… و البرهان على أن الضوء  يتخامد عندما يتحرك مكانا هو تبدده على شكل حقول كهرطيسية ذات طاقة حيث يسير، وعدم سيره بمسارات مستقيمة يدل عليه تباعد كل حزمة ضوئية ، مع العلم أصلا أنه لا يوجد مكان مستقيم يسير به فكل مكان هو مكان منحني بزمانه ، وبالتالي لا يمكن للضوء قطع سوى محيط دائرة صغيرة لا تتجاوز يوم ضوئي ، لذلك فالضوء الوارد الينا من السماء لا يشكل مصدرا مقنعا للحكم على البعيد .. أي أن كل ما نراه من نجوم ومجرات هي مجرد وهم ناجم عن تداخل أشعة الشمس المنحنية المسار والتي تعود متداخلة الينا بعد اكتمال دورتها بفعل الزمن … !!

(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)

بعد هذا العرض هل نصدق النظريات العلمية أم نعتمد رموز واشارات الكتب المقدسة ؟

استوقفني طويلا هذا السؤال عندما كنت في السجن الانفرادي الذي وضعني فيه نظام بشار الأسد ، وصرت أبحث عن مقاربة توحد بين ايماني بالله وبكتبه ورسله الموروث والمعزز بالخبرة الحدسية المدركة لأفعال القدير القادر الحكيم المستجيب، وبين منتجات العلم والحضارة المثبتة تجريبيا و التي تفرض ذاتها علينا بنجاحاتها، والتي خبرناها جيدا بدراستنا العلمية ، صرت أبحث عن مقاربة توحد العقل والمنطق ولا تقيم التناقض بينهما ولا تضطرنا للتخلي عن أحدهما، فكانت مسيرة بحث وتأمل طويلة انتهت بمنهج مقاربة فلسفي مختلف للعلم والدين هو ما أحاول التعريف به في المقالات التي أكتبها في هذه السلسلة والتي تتأرجح كما تلاحظون بين الدين واللاهوت وبين الفيزياء والعلوم مرورا بالفلسفة والمنطق والأخلاق والسياسة ذهابا وايابا وتغوص عميقا فيهم جميعا ، وقد سجنني بشار مدة كافية لإنجازه ومراجعته وتبيان خصوبة تطبيقاته العملية، وهذا ما أحمد الله الذي قدره لي عليه.

ليس من الصعب البرهان على ارتقاء الأنواع فهو حقيقي فيما يخص الجسد الذي تسكنه النفس … لكن من الصعب البرهان أو قبول  أن من يتحكم بالحركة ويوجهها هو الصدفة العمياء … وأن كل هذا الكون الجميل المنضبط مخلوق من عماء وانفجار مادي مكون من طاقة بلا وعي … ( الفلسفة المادية ) ، بينما تفترض (الفلسفة المثالية) أن من يتحكم به وبكل حركة ويوجه الأحداث فيه ، لتقع وتحدث في مكان معين في زمن معين، دون غيرها من الاحتمالات هو فاعل مدرك له ارادة حرة خلاقة تختار ما تريد ، وقادرة بالتالي على فعل ما تريد ، وتحمل نفس نظام المعرفة والعقل الانساني الذي هو مما علمته له والهمته به و استخلفته بسببه . ( راجع مقالنا السابق الوجود العدم )

يمكن استنباط قوانين الوجود المجردة عن الزمان والتي تفترض التواجد المكاني الواحد ، وتجربتها في المختبر واثباتها بعد جمعها معا في مكان وزمان محدد … لكن في الواقع المتحرك ومن بين عدد هائل من الاحتمالات الممكنة، هناك احتمال واحد يحدث بسبب اجتماع عناصره في مكان وظرف مناسب للحدوث …

السؤال : من هو الذي يحرك هذه العناصر ؟ من الفاعل الذي يتحكم بالحركة وبالزمن ليحدث هذا القانون دون غيره من بين عدد كبير من الاحتمالات ؟ … هنا التجربة الدينية الأهم ، و هنا الوسيلة للتعرف على الخالق (ليس قراءة في كتاب مسطور) بل احساسا في حركة الأحداث وتقديرها (قراءة في كتاب الطبيعة)… خاصة عندما ندرك الحكمة والغاية والهدف الذي يجعل بعض الأحداث تحدث دون غيرها، فهي ارادة القدير الذي يقدر ويرتب ، والأهم من ذلك هي امكانية التفاعل مع هذه الارادة المحركة والتواصل معها والطلب منها … وهذه التجربة الخاصة التي تحدث في القلب حيث تتواصل ارادتين (ارادة الخالق والمخلوق)، وحيث الصلة التي تقوم بينهما (هي الجوهر الحقيقي الأول لكل ايمان) بغض النظر عن شكل المنظومة الدينية التي تلونت بحسب التاريخ والجغرافيا والثقافات والرسالات.

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ  )

ثانيهما- خطأ توظيفي أنتج التكفير : وهو الخلط بين مفاهيم الفيزياء وعقلها ، وبين مفاهيم المجتمع وعقله ، واستيراد العقل العلمي وأدواته لفهم الظواهر المجتمعية … فالوجود المادي للمادة العاطلة غير الحية له صفات ثابتة تعبر عنها الفيزياء كعلم للأشياء. وككل علم يكون مقياسه الواقع، والبرهان عليه يتم بالتجربة التي تثبت صحته وجودا ، فالحقيقي هو الموجود، والمعرفة الصحيحة هي ما تتطابق مع هذا الوجود الحقيقي، والبرهان على صحتها يتم بالتجربة التي تثبتها واقعا تجريبيا .. وكل جزء من هذا الواقع هو صحيح كونه موجود، وبالتالي كل جزء من المعرفة به هو صحيح أيضا بجزئه، وبغض النظر عن غيره وكله، فموضوع العلم و عقله يخص معرفة الثابت من الوجود والقابل للتجزئة و للتجربة فيه، وهذه المعرفة تسمى في الدين (علم القضاء) الذي هو ثابت لا يتغير والذي نعقله ونقدر فيه وبه أفعالنا، التي لا تغير قوانين الكون المقضية، بل تختار منها بواسطة العمل أحداثا منتقاة ومتتابعة لخدمة غاية ضمن تصور ووعي مسبق ( وهذا ما يميز العمل الإنساني عن كل الأفعال الأخرى )… والمعرفة بالواقع تحدث بطريقتين واحدة تعتمد الخبرة الحسية،  وتحكم بالحدس  وهي مشتركة في الانسان والحيوان بنسبة أقل، وواحدة تستعمل العقل اللغوي القابل للتبادل والتدوين، وهي ما تميز الانسان (الحيوان الناطق) الذي علمه الله الأسماء .

تتحقق مثلا معادلة التفاعل الكيميائي في كل مرة تجتمع فيها عناصرها معا ، ومن يحكم الحدوث هو ليس تكوينها ولا قانونها الذي جردناه من معرفة الطبيعة، فالمحدث هو من يحرك العناصر ويوجهها لتجتمع في مكان وزمان واحد ليتحقق القانون النظري، وهذا الفاعل المحرك الخفي أو المعلوم ، هو دينيا (القدر ) المحرك الذي يختار حدوث هذا القانون أو ذاك، ليس من خلال تغيير القضاء والعبث به ، بل من خلال انتقاء أي من قوانينه سيتحقق عبر التحكم في حركة العناصر الضرورية لحدوثه دون غيره ، فلو وصل الصوديوم مكان الكالسيوم أو الفلور لتغير الحدث من حيث النتيجة ضمن القضاء الذي هو احتمالات ممكنة متاحة لا تصبح واقعا من دون فاعل محرك، وهكذا لا يعتبر القضاء ملزما للأحداث أو محدثا بحد ذاته، بل هو حقل اختيارات واسع يترك فضاء للحرية غير المطلقة، و للقدر في اختيار ما يريد عبر التحكم بالحركة ( العمل ) … فكل حادثة هي قضاء عندما نجرد الزمان منها ونغيب الفاعل والحركة ، وهي قدر عندما يقوم بها العمل المحرك الذي يتحكم بزمن وجودها معا في مكان محدد وشروط محددة ، فيحول القدر القضاء لحدث واقعي، وهو جوهر الفعل الذي يقوم به الفاعل القدير ضمن القضاء المسبق، فإذا أدركنا هذا الفاعل وتعرفنا على غاياته نكون قد دخلنا تجربة الايمان . وعندما نعمل نحن نعقل بالقضاء ونتوكل بالقدر الذي لا سلطة لنا عليه الا بحدود ما عملنا ويسره لنا .

ليس كل ما هو موجود ثابت التكوين والصفات، بحيث يستمر كما هو عندما يتحرك في المكان أو يتحرك الزمان به ،  ويحافظ على تكوينه وعلى سلوكه وصفاته… فهناك وجود أعقد متحرك التكوين ومتغير البنية ومتعدد السلوك ، كالمادة الحية والكائنات التي تتوالد وتتكاثر وتموت وتحتفظ بنظامها في دفتر داتا خاص بها تنسخ منه برامجها ( روح مكونة ) ، وكذلك الكائن الاجتماعي الإنساني …. وهكذا فعلم تغيرات الهوية في الكائنات المتغيرة هو علم أرقى وأعقد، يدخل في معرفته الاحتمال والتوقع ، ومنها مثلا علوم الاقتصاد والسياسة .. فالمتغير غير تجريبي ولكنه احصائي احتمالي ، وسلوكه غير متوقع إلى درجة كبيرة ، والمجتمع ككائن حي متفاعل مكون من بشر لهم ارادة ورغبات تتأثر بالكثير من العوامل، مما يجعل موضوعها  أعقد بكثير من أن يخضع للمنهج العلمي الفيزيائي المبسط، وبالتالي فإن مقاربة الموضوعات الخاصة بالمجتمع ( كالحق والحقيقة والخير …) تحتاج لمناهج مختلفة عن المنهج العلمي الذي مقياسه واضح وثابت ومطلق وقابل للتجزئة، وهكذا وبالرغم من أن الأخلاق هي عادة تعبر عن قوانين ونواميس الوجود الاجتماعي، والذي لا يبدو ممكنا من دونها … تبقى هذه الأخلاق كغايات عامة وأشكال متغيرة ومتطورة هي بحد ذاتها أيضا، وكذا الحال في مفاهيم مثل الحرية والعدالة والخير  والمصلحة الخاصة والعامة  والسلطة  والتمثيل، لدرجة تجعل كل شيء فيه نسبي ومشروط  ومرتبط بغيره ، ولا يدرك الا كلية ومعا وبشكل سطحي واحتمالي ، وليس ثابتا ولا مطلقا  … ناهيك عن الفعل والتقدير فيه وتوجيه أحداثه المعقدة .

ولكون مجموعة كبيرة من التقييمات للموضوع الاجتماعي المتعدد الجوانب والوظائف تدخل معا ، لذلك لا يمكن قياس كل بند على حدة ومستقلا عن غيره،  لأنه لا يحدث مستقلا عن ظاهرة تعيش كليتها ، وتموت من دون تلك الكلية المتكاملة التي تدير حلقة الحياة المتجددة التي تكونها… فالحرية والعدالة والخير عناصر متداخلة وأحيانا متناقضة وتضخيم أحدها قد ينقص الآخر …. كذلك ذرات الكربون والآزوت والأوكسجين والهيدروجين تصبح مادة حية عندما تدخل حلقة الحياة التي تديمها الروح وتصبح مادة ميته عندما تخرج منها ، وهذا التداخل الديناميكي الداخلي بين العناصر ، أو الخارجي ، يديم الوجود كدوامة حياة قادرة على التكاثر ومعرضة للموت والفناء عندما تنقطع سلسلتها وتتحطم كليتها المتكاملة ديناميكيا، وكما هو الجسد كما هو المجتمع … فالحديث مثلا عن اقتصاد غير وارد من دون الحديث عن دولة ونظام سياسي وحتى ثقافة .. وكما لا يوجد في جسم الانسان جهاز دوران مستقل إلا بشكل مفهومي وتحليلي وظيفي ، كذلك لا يجود في المجتمع أجهزة وأقسام مستقلة الوجود ، وعليه فإن هذا التداخل يجعل من العسير فهمها بالعقل العلمي ، أو اعتماده لتقييمها ، لأنه يسطح المعرفة بها ويقيدها بشدة ويقتل ديناميكيتها ويقيم التناقض بين معرفة الكل بكله ومعرفة الجزء بجزئه المستقل…

شيء من هذا القبيل حصل عندما اعتقدت الشيوعية أنها توصلت لفهم التشكيلات الاجتماعية فهما علميا … فمارست طفولية عقلية وشمولية مفقرة ومدمرة، فتعرقلت وسقطت من دون تأثير خارجي … وقد انتبه الرسول الأمي الكريم مبكرا لهذه العقلية فنصح نصيحته الشهيرة : خذو الدين كله أو دعوه … وهي نصيحة من الرسول تنهى عن أخذ الجزء من دون الكل بكليته المتفاعلة ، فأخذ الجزء لوحده يصبح مشكلة في مقاربة الحق والحقيقة المعقدة التكوين ، وطلبه أخذ الدين كله لا يعني كل شاردة وواردة فيه على حدة ،  فهذا  مستحيل ويتناقض مع مبدأ السماحة الذي عمل به الاسلام، ويتناقض مع أحداث اختصر بها الرسول الدين بخلاصات أخلاقية وسلوكية بسيطة … وبالتالي سيحتاج علم الحي والمتحرك لمناهج مختلفة أعقد وأرقى للمقاربة ( تشكل مناهج الاعتدال والوسطية ) ، أما تطبيق العقل العلمي فسيولد الدوغمائية والشمولية والاستبداد (والكفر والتكفير والتطرف والغلو والخروج )، لأن العلم مختص بالثابت وهو معرفة بمخلوقات الله (كرب خالق قاضي) ، بينما علم الدين هو علم أيضا لكن بأفعال الخالق  وغاياته والتفاعل معها ( معرفة الله كإله فاعل قدير) وكلا النوعين من المعرفة هو هبة من الله تزيد معرفة به كرب وكإله، كقاضي وقدير . لذلك وبهذه الطريقة فقط تختفي حالة التناقض بين الدين والعلم ، وبذلك تستطيع الفلسفة المثالية استيعاب كل مناهج المعرفة واعطاء كل ذي حق حقه وحيز اشتغاله ( منهج الاعتدال ) .

تابع في المقال التالي التكفير في أركيولوجيا العقل العلمي . 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.