يثب

العلم والاستبداد . الدين والدولة

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

حتى قبل أن يعلن  (نتشة) موت الإله ، و (فوكو) موت الانسان ، كان (كارل ماركس) يستكشف قوانين الوجود الاجتماعي الحتمي بكتابه المادية التاريخية ويصيغ نظرية (الاشتراكية العلمية) ، وهي التطبيق العملي للمادية الديالكتيكية العلمية على التاريخ والمجتمع ، مستخدما بالمقلوب ديالكتيك (هيجل) المثالي، الذي حاول وضع قوانين للظواهر غير الثابتة في الطبيعة : فشرح مفاهيم  وحدة وصراع الأضداد والتغير الكمي والكيفي والنفي ونفي النفي ( لكنه تجاهل أيضا فعل الخلق والابداع ولم يربطهما تأسيسيا به ) مما سهل على ماركس سحب ذلك الديالكتيك وتحويله لقانون علمي أيضا … ضمن المسعى الفلسفي العام لاستكشاف نظام الكون المادي والمثالي الثابت والمتحرك … وكله ضمن كوجيتو وبديهية مسبقة مضمرة (إلحادية المضمون ) تقول أن كل وجود حتى لو كان متغيرا أو له نظام وتعقيد متسلسل متراكم ، مع ذلك فنظامه ليس حاصل خلق وابداع، وليس هناك ارادة حرة تحركه، ولا قوة مبدعة توجده وتطوره خلقا مستمرا ، وأنه من الوهم البحث عنها  أو السعي للتواصل معها، بل لا بد من الاعتماد على الذات والعقل فقط ( التجريبي ) ، وعلى العلم والمعرفة والقوانين العلمية ، وكل ما عداها هو احتمالي وارتيابي متروك للصدفة ، و من دون اثبات أي حقيقة علميا وبمعايير العلم التجريبي ، سوف تعتبر مجرد خرافة تخيلها العقل الانساني في مرحلة طفولته، وقد حان الوقت لكي ننضج ، وندخل مفهوم الإله إلى متحف التاريخ… فكل ما نستطيع فعله ليس الصلاة والعبادة والدعاء والعيش بتواصل مع الخالق وفي خدمة القيم التي ارتضاها ( فالدين هو أفيون الشعوب ) . بل هو استكشاف الواقع واتباع المعرفة به فقط وليس الابداع فيه ، لأن وجودنا وكل ما نقوم به هو حاصل قوى غير واعية تحكمنا وتجسدها السلطة المادية، فالخير والشر ليسا خيارا بل نتيجة لقانون، وليس لنا فضل ولا جزاء لو اخترنا أحدهما ، حتى لو ضحينا بمصالحنا فهذا شأننا وهو لغاية شخصية ما ملتبسة، وعلاقة الذات مع الموضوع الواقعي هي دوما وحتما علاقة سلبية…

الفلسفة المثالية بتطبيقاتها التاريخية أنتجت المقدس المتعالي ورفعته فوق الشك والتفكير ، ومنعت نزوله لمستوى العادي ، و بنت التقديس على التحريم بل الاجماع على هذا التحريم ، و على الخوف الأسطوري الجماعي من تدنيس هذا المحرم، وهي بذلك تبني سلطة داخلية قيمية تتحكم بالإنسان من داخله وتستولي عليه وتستلبه وتقيد حريته، لكنها لم تبن سلطة قهر وغلبة خارجية إلا نادرا ، بل اكتفت في الغالب بسلطة عرف وعادة وعبادة، فمملكتها هي القلب والضمير ، بينما مملكة السلطان هي الطرقات والشرطة والحرس المسلحين، ولم تشكل سلطة سياسية قهرية عبر التاريخ كون تلك السلطة بقيت محكومة بعلاقات القوة العسكرية، حتى في صدر الاسلام سرعان ما عادت الدولة لقانونها الطبيعي ( غلبة القوة )  وفي آخر مراحل العصور الوسطى كانت المؤسسة الدينية بأفضل وأعلى بنائها تقف إلى جانب السلطة القهرية أو تباركها ، ولم تكن مصدرها ولا حاكمها.. وعندما تطورت الحضارة الحديثة أبعدت نهائيا سلطة الدين في صعيدين : سلطته الاعتبارية على رجال السياسة وسلطته الاجتماعية، ولم تستبدل سلطة القوة والغلبة بل حررتها من عامل القيم ، وكرستها بدخول عامل المال ، و جيرت صلاحيات سلطة الدين للدولة القهرية التي صارت تراقب وتعاقب وتحاسب على ما كان يراقبه ويحاسب عليه الدين والضمير ، عبر مؤسسات المراقبة والمعاقبة والتربية والتوجيه والتحكم والسيطرة والقمع، التي تطورت بفعل الحداثة وانهيار النظام البطريركي وقيام الدولة الحديثة بدلا عنه ،  فأدى ذلك لنوع من الشمولية العنيفة والطاغية باسم العلمنة والعلم والحضارة .

لقد دمرت الفلسفة المادية المبنية على العقل العلمي  المقدس المتعالي ، ودمرت سلطته الاعتبارية والعرفية الاجتماعية والضميرية ،  و حررت الانسان من التابو والمحرم والشريعة والقيم ، فأطلقت وحشيته وشهوانيته ، وسلمت مقاليد أموره للدولة الشمولية الجبارة، وأنتجت لنا نظما للثقافة والسياسة أطاحت بالقيم الانسانية والجمالية والروحية  … مثل هتلر وستالين وموسوليني وماو ، ثم كاسترو وبول بوت وتشاوشيسكو وميلوزوفيتش ورضا بهلوي وحافظ أسد وصدام حسين والقذافي . وكل النظم المستبدة التي تعتمد العقل الدوغمائي الشمولي العلمي والعلماني، والتي صنعت مقدسات على طريقة الدين، لكنها دنيوية وشهوانية ومجرمة . و لم تلغ العبادة والتقديس، بل جيرته لتأليه البشر ، وألغت الأخلاق والقيم المتعالية من التداول الرسمي ، وألغت الابداع والحرية ، وكرست قدسية وعبادة الفرد والزعيم وصورته وأقواله التي فاقت الكتب المقدسة مديحا وتبجيلا ، وخفضت الدين الذي هو تسامي نحو الحق والقيم، لمستوى خدمة المصالح الفردية والجزئية ومستوى السياسة الأنانية ، وأنتجت نوعا من رجال الدين وضيعين ومنحطين يدرّسون النفاق والاذعان ، بينما سيقوم من يرد عليهم من باب الدين وعبادة الله ، باستخدام هذا الدين للسيطرة على الدولة الشمولية المستبدة ذاتها ، والحكم من خلالها بذات عقليتها وفلسفتها وعلاقاتها ، مدعيا أن لهذه الدولة ضمير ديني بعد أن أصبحت تحت سلطته ، وأن لها صفة تمثيلية لله الواجب العبادة، هذا الخلط المفهومي بين سلطة الله وسلطة الدولة أتاح لمستبدين ومجرمين آخرين استخدام الدين واستغلاله سياسيا لخدمة أغراضهم الشهوانية عندما يفترضوا بأنفسهم أنهم الدين ومن يمثله، بطريقة معكوسة متجهين من الدين نحو السلطة القهرية الترهيبية، ناقلين القدسية من المتعالي المجرد الحاكم للضمير طوعا وحبا  إلى البشري المتجسد على شكل قادة أو خلفاء، و باستعمال ذات العقل العلمي المتجبر وذات أدوات الدولة الحديثة القهرية ، بعد أن استعملوا العلم في قراءة الدين وتفسيره وتطبيقه ، فخرجوا علينا بما يطابق نوازعهم عبر قراءات مجتزأة  ومضللة وخارجة عن السياق العام .

وتحول الانسان من عبادة الله الذي خلق ووهب الحرية ، ومن احترام مقدساته التي فيها الخير ، إلى عبادة البشر والأيديولوجيا الدنيوية ، ولكون مثل تلك المقدسات المصطنعة الترهيبية غير قادرة تلقائيا على ولوج الضمائر ، كان لابد من تحويل الانسان إلى كائن هزيل مسلوب لا حول له ولا قوة ، ينزل للشوارع بأمر ويحتفل بأمر ويرقص بأمر ويبكي بأمر ويموت من أجل الخطط الحزبية والقضايا النضالية التي تخدم زعامة صاحب الأمر المستبد به ، وممارسة كل طقوس التذلل أمامه ارضاء لشهوانيته السلطوية المتألهة كطاغوت، وتكريس الاستلاب السياسي مع الاستلاب الاقتصادي مع الاستلاب العقلي محدثة استلابا مطلقا ثلاثي الأبعاد ، مغطى بقشور استهلاكية لا تمت للإنسانية ومعانيها بصلة، بل تشبه العلف الحيواني أو الوقود الضروري لعمل أي آلة تخدم في حظيرة السلطة. وتحول الانسان لرقم في حسابات الاستهلاك والقوة العسكرية ، والذي لم يعد ذاتا تقابل الوجود ولا مقدسا يساويه قيمة . لأن عبوديته لله قد جيرت لعبودية للطاغوت . فإذا انتفض على هذه السلطة وسعى لاستعادة سلطة الدين المغيبة ، فوجئ بمن ينتظره ليبني نمطا سلطويا مشابها يستبدل الديكتاتور بخليفة يفترض بنفسه أنه ممثل الله وأداته في الأرض ، ويمثل الدين والضمير اضافة للسلطة السياسية التي ينتزعها ببيعة الترهيب ، (فالله لا يستطيع أن يحقق ارادته من دون سلطة الحاكم ، الحاكم الذي صار بديلا عن الضمير وعن ملائكة الله ، وطاعته من طاعة الله وعقابه هو عقاب الله ).

لم تنتج لا الفلسفة المثالية ، ولا الفلسفة المادية نظاما للحرية والابداع وسقط كلاهما في أنماط من الاستبداد المقدس . والنظام الديمقراطي استطاع الوجود فقط بعد نزع صفة القداسة عن السلطة وتحويلها لشيء تعاقدي حر ، وبعد أن ميز بين سلطة الضمير التي هي مكان سلطة الدين ، وبين سلطة الدولة والنظام والقانون التي هي من عمل القضاء والشرطة وحدودها حفظ السلم ، بينما اعتبر المتدينون الذي قرأوا الدين قراءة علمية أن حاكمية الله تشترط وجودهم هم في السلطة وطاعتهم المطلقة ، وتجاهلوا أن لله ملائكته التي تتحكم بكل شيء ولا تنتظر ارادة البشر أيا كانوا . وأن غاية الله من الخلق هي الابداع وهو ما يتطلب أكبر قدر من الحرية والمسؤولية .  وأن وظيفة الدين هي ايجاد المقدس والمتعالي والقيمي الذي يتفوق على الأناني وعلاقات القوة ، والذي يقدس ويرفع فوق كل مصلحة ويصبح ملزما لكل سياسة ، ومثاله حقوق الانسان ، والمعايير الدولية ، والنظام الحقوقي القانوني الدولي … فبدل تديين السياسة وجعلها خاضعة للمزيد من القيم والضوابط الأخلاقية ، جرى تسييس الدين وجعله خادما لمصالحها وأنانيات أفرادها وعلاقات القوة التي تحكمها ، أي تحويله بالتالي لأداة قهر وترهيب بيد السلطة . فالخلط المفهومي بين سلطة الله النافذة بكل حال ، وبين سلطة الدين التي هي سلطة الضمير والقيم ، وبين سلطة الدولة التي تنفذها الشرطة والقضاء وهي بحدود حراسة السلم الاجتماعي . سيكون هو بوابة دخول الاستبداد والاستعباد .

وبتغييب الخالق المبدع المتفاعل أو استبداله بالحاكم الأرضي ، وبتغييب الغاية  من الخلق، و بتغييب العلاقة معه والقيم المتحكمة ذاتيا من داخل النفس التي تتواصل مع الخالق والمخلوقات، سوف تعتمد الفلسفة المادية الجبرية التي تقوم على الحتميات على القوة وليس الارادة والجبر وليس الحرية… وسوف تحتاج لسلطة قانونية موضوعية خارجية شمولية متضخمة وجبارة ( الدولة الحديثة بأجهزتها وقدرتها الهائلة على السيطرة والمراقبة والمعاقبة ) لتضمن انضباط السلوك بالقوة القهرية من الخارج، إسوة ببقية الموجودات، حتى إذا ما غابت هذه السلطة الخارجية القهرية ظهرت وحشية الانسان الطبيعية التكوينية فيه (الفيلسوف هوبز ) و التي تحاكي وتعبر عن وحشية الطبيعة العمياء كما يراها العلم المادي …لذلك كانت الدوغمائية والاستبداد والشمولية والعلمية والعلمانية والمادية والاشتراكية مجموعة مترافقات دوما كمتلازمة لتشييء الانسان وتجريده من بعده الروحي ، وتحطيم المقدس المتعالي في حياته، واستبداله بتقديس ترهيبي للدنيوي الرجس المتجسد في ثالوث السلطة والمال والاستهلاك .

لقد قامت أنظمة تطبق (النظريات العلمية الاجتماعية) بارتكاب مجازر رهيبة بحق شعوبها وحق العالم فخاضت حروب تدمير وابادة من دون رادع ولا شعور ، وما فعلته الأنظمة القومية الغربية ، وما فعلته الشيوعية التي تتبنى المادية العلمية في روسيا والصين وكمبوديا وكوريا والعراق وسوريا والجزائر وغيرها ، هو أكبر دليل على فشل العقل العلمي في توليد الضمير والقيم ، و على دوره في توحيش الانسان عندما يتجاوز مجال عمله ويتمدد للشأن الاجتماعي والسياسي والديني .

لقد أنتج العلم حضارة تكنولوجية رائعة عندما عمل في مجال علوم الطبيعية والفيزياء، ولكنه أنتج كوارث وأزمات عندما عمل في غير حقله أي في الحقل الاجتماعي والثقافي والديني والسياسي . حتى الفنون انهارت تماما في الدول الاشتراكية العلمية والقومانية ، بينما أدى العكس أي استخدام العقل الديني المجازي في مجال الطبيعة والفيزياء لتخلف مستمر ومدقع ، وعندما دخل الدين من جديد للحياة السياسية وحاول التحكم بالدولة الحديثة مارس سلطة جبرية قهرية بكل ثقة بالنفس كونه يمثل الآلهة ويستمد شرعيته منها كما يتوهم ، فأصبح هو من يحيي ويميت … بسبب الخلط بين حيز اشتغال العلم وحيز اشتغال الفلسفة ، وبين سلطة الدين وسلطة الدولة وسلطة الله .

وضعت الحضارة الانسانية العلمية المتجبرة التي انبهرت بقدرتها العارفة  العلم على نقيض الإيمان والدين، واستبعدت الإله والعلاقة معه تدريجيا من الحياة السياسية ثم من الثقافة والفلسفة … ولم يعد للدين مكان في الحياة، ولم يعد موت الجسد هو تحرير للنفس ، و مقدمة لحياة أخرى ، بل أقصي الدين عن الحياة ليتخصص بشؤون الموت والدفن، وصارت الكنيسة تبنى وسط المقبرة، وليس وسط السوق والحي والمصنع . حتى (فرويد) ذاته سعى ليثبت وجود ليبدو ودوافع لا إرادية ، هي من تتحكم بسلوك البشر بشكل مطلق وحتمي، وهي من ترسم شخصيته وردود أفعاله ، ليكرس استقالة الارادة واقالة القيم الحاكمة و الأنا الأعلى المنفصلة عن الذات المتصلة بالخالق ، والقادرة على لجم كل الغرائز والدوافع ( الصوم ككتاب يتميز به فقط الانسان العاقل ) ، التي يفترض أن يقوم التدين بتوليدها وجعلها أنا عليا حاكمة قيمية، تحاكي وتلبي ارادة الخالق في خلقه وتتناغم معها كميزة للإنسان العاقل، الذي وهبه الله من روحه العارفة المبدعة المسؤولة والقادرة على الاختيار، والتي ما خلقت إلا لكي تصلي وتتصل بالخالق (الصلاة)، وتحاكي ارادته وأفعاله وتعيش في حضرته المتجلية في كل شيء تكوينا وتشغيلا  خلقا وادامة ( التسبيح ).

( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم )

عندما أنزل الله النفس الانسانية العارفة للدنيا و وهب الانسان نعمة العقل و تحمل المسؤولية، خسر هذا المسكين بتكريمه سعادة الجهل بعالم دنيوي مخلوق على النقص والجوع والألم والمرض والتناقض والصراع والنفي والموت والولادة، و أيضا على الابداع … فأصبحت حياته امتحانا قاسيا للأنفس التي تسكن  الجسد الدنيوي الضعيف القادم من الوحشية، وصارت سلسلة من الشقاء والكد والعناء والقلق والانتظار ، تقطعها لحظات محدودة من متعة التخلص المؤقت من أحد منغصاتها، فالحياة الدنيوية الشقية هذه هي مجرد واجب وامتحان في خدمة غايات هذا الخلق، والتي تنتهي بعودة النفس لعالمها الغير محكوم بالنقص والألم، والتي عليها أن تبحث عن سعادتها بعد موتها وخلاصها، لكن بسبب الفلسفة المادية أصبح عليها أن تبحث عن السعادة في الدنيا البائسة فصارت كمن يسعى وراء سراب، حيث لا فرح بلا حرمان قبله وحزن بعده ، ولا متعة لحظية بدون شقاء طويل ، ولا حلو الا ومعه المر والمقزز، وضخم الشعور بهذا الألم تطور أدوات التواصل، وزاد من ذلك الشقاء مفعول الضمير والذاكرة والتصور، الذي يضيف كسلطة داخلية مسؤوليات جديدة تتطلب التضحية الطوعية بالمزيد والمزيد ، لذلك وجد من يسعى للتخلي عن ضميره وانكار كل قيمية وغاية يشعر أنها سبب في شقائه وتحد من متعته، خاصة إذا امتلك القوة لانتزاع متعته من شقاء الآخرين ( عبر قوة المال والسلطة) وبواسطة شره الاستهلاك المجنون التافه … هنا يعتبر المنهج العلمي أساسا للتخلي عن هذا الروحي المتجاوز، الما فوق، المتعالي على الذات الفيزيولوجية الوحشية والمتجاوز لها ، فالعلم تأسيسيا يرفض كل ما هو وراء الفيزياء ويعتبره تخريفا، و بذلك يؤسس للجبروت والطاغوت والوحشية. وفلسفة اللذة هي التي تدخل أغلب البشر في ضجر واكتئاب معمم، وتسابق مجنون على المتعة والسلطة والثروة والاستهلاك ،  عندما تغير أوليات الوجود من العمل والابداع وشهادة الحق  للمتعة والسعادة، ليس في الآخرة بل في دنيا الشقاء والكد والحرمان. فتخلد جحيمهم  وتحرمهم من سعادة الانضمام لملكوت الابداع في نعيم الحياة الآخرة ( نعيم الآخرة هذا تحول لمجرد نكتة للتندر بسبب شيوع العقل العلمي وطغيانه على الفلسفة) في حين يقدم الكثيرون حياتهم شهداء من أجله ، فيتهمونهم بالجنون .

لقد كشفت الثورة السورية أمرين مهمين :

       1- حاجة النظام السياسي المحلي والعالمي الماسة للقيم والمقدسات التي تتفوق على القوة وتحكمها ، فالعالم بأمس الحاجة لقيم وحقوق ومثل ملزمة مقدسة محترمة من قبل القوى المختلفة كبرت أو صغرت ، وأهمها احترام قيم وعهود حقوق الانسان ، والنظام العالمي ، والقضاء الدولي ، وبرامج التعاون المختلفة … التي تسبب غيابها وتغييبها في مأساة الشعب السوري ونشوء ظاهرة الارهاب كوسيلة وحيدة لمواجهة غطرسة القوة .

       2-امكانية استخدام فهم الدين القاصر والجزئي ، والخلط بين سلطات الدولة والدين والله ، كأداة فظيعة لتبرير الاستبداد والشمولية وطغيان القوة والترهيب البربري . ( الدولة الاسلامية و نظم الاخوان وغيرهم ) نتيجة تسييسهم الدينواستخدام المنهج العلمي في قراءته .

فبدل تديين السياسة أي جعلها خاضعة لقيم ومعايير مرفوعة فوق المصلحة والقوة ، جرى تسييس الدين واستخدامه كوسيلة لإعطاء الدولة القهرية الشمولية الشرعية والمبرر ، بحيث أن قمعها وتجبرها يصبح ارادة الخالق وطاعتها هي طاعته ، ويبرر لها عمليات قمع وترهيب واحتكار وهيمنة … وبذلك تعزز الدولة العلمانية المتسلطة المتحررة من القيم من سيطرتها وشرعيتها عبر الغاء الدين ، وتستخدمه النظم الدينية المستبدة كنقيض لحقوق الانسان والحريات والديمقراطية التي صارت تضيق عليها سلطتها وتجبرها على ترك هامش أكبر لحرية المواطن وحقوقه . فأصبح الخروج عن سلطة هذه الدولة أو مخالفة قانونها يستدعي تطبيق القانون القهري البربري ، أو الحد الشرعي المطبق على كل خارج وكافر ومرتد عن دين الله …

تابع في المقال التالي أين أخطأ المنهج العلمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.