موسكو الأسد : شراكة القمع والفساد

د. كمال اللبواني

kamal

الدكتور كمال اللبواني

إذا كان  مستقبل سوريا مرتبط بسقوط الأسد الذي يعتبرها مزرعته ، فإن سقوط نظام بشار سيشكل خسارة شخصية كبيرة لبوتين و نذير شؤم على نظامه المشابه بالبنية والقيم والسلوك  … وهو عندما يدافع عن بقاء بشار يدافع عن نموذجه ونظامه وبقاءه هو ، لأن نجاح بشار في قهر الشعب السوري سيكون نصرا معنويا لكل الأنظمة المشابهة ، وسيكون استثمارا طويل الأجل يدر المنافع على نظام بوتن، وبنفس الوقت تجربة يستفاد منها في قمع أي تحرك شعبي قادم لا محالة في روسيا ، وغيرها ، والتي نقلت تجربتها الإجرامية في الشيشان لسوريا ولا تريد لها الفشل لأن الشعوب تتعلم أيضا من ثورة الشعب السوري .

وعندما يقدم النظام الروسي السلاح والخبرات للنظام السوري ، و يتخذ الفيتو إثر الفيتو لحمايته ولتعطيل القانون الدولي ، فهو لا يستند لمصالح روسيا وشعبها، ولا لالتزاماتها في النظام العالمي، بل عينه أساسا على حماية نموذجه ، وعلى المكاسب الشخصية التي تحققها عصابته التي تحكم الدولة المافيوية التي ورثت النظام الشيوعي الفاشل في روسيا .. كما ورثت عصابة الأسد النظام الاشتراكي الفاشل في سوريا .

المزيد  في المقال التالي :

الفارق بين الأنظمة الشرعية والأنظمة غير الشرعية أن الأولى تخدم مصالح الشعب ،والثانية تخدم مصالحها الخاصة ضد مصالح الشعب الذي يتحول لبقرة حلوب في مزرعتها، وفي أنظمة القمع والاشتراكية الفاسدة لا يُتخذ أي قرار من دون أن يحقق للمسؤول منافع خاصة . فالشعور بالمسؤولية والمصلحة العامة هي آخر ما يحركه ، وهذا هو تكوينها وسبب فشلها وتخلفها ثم انهيارها … ومكاسب ومتع السلطة الاستبدادية هي من تبرر الوسيلة الفظيعة المتبعة للوصول اليها أو الاحتفاظ بها. فالمسؤول الذي يجهد كثيرا كي يصل للمنصب بطرق منحطة ومذلة وخطرة ، يحركه الطمع في المكاسب الشخصية التي سيحققها له مركزه والتي ستعوضه عما بذله من جهد ، فمركزه في السلطة المستبدة التعسفية يفتح له كل أبواب الفساد فوق كل قيم وقانون أو مصلحة عامة … وتمتعه بسلطة تعسفية ، ونفوذه كمسؤول فوق القانون يؤدي لتغير جوهري في جميع علاقاته ، ويفضي لتجمع الكثير من الشبيحة من حوله ، الذين يخدمونه لشخصه وينتفعون من نفوذه لأشخاصهم … وهكذا يتحول نظام الفساد والاستبداد لعصابات ومافيات تلقائيا ومن داخله وبآلياته البنيوية ذاتها . وتصبح غاياته في وادي آخر لا علاقة للشعب والدولة بها . والتي لا تتحقق من دون حرية الشعب وقدرته على تسمية ومحاسبة المسؤول الذي عليه أن يتصف بالنزاهة وخدمة الصالح العام والقيم الجامعة لكل وجود اجتماعي .

أكبر خطأ يقع به أغلب المحللين السياسيين هو عدم فهم طبيعة هكذا أنظمة، كالمزج بين روسيا الدولة وروسيا النظام ، وهذا الخطأ يتكرر مع سوريا  ومع ايران ، فالكثير ممن يعيش في الدول الديمقراطية لا يفهم ولا يتصور أن تعادي الحكومة مصالح شعبها ودولتها … والسياسة الأمريكية مع ايران أيضا تفترض أن مصالح وسياسات النظام الحالي ستستمر بمقدار استمرار ايران، فإيران في العقل الديمقراطي هي النظام والنظام هو إيران … لذلك تسعى لعقد صفقة ذات طابع استراتيجي مع النظام ، وليس مع الشعب الذي يعارض هذا النظام  ويسعى بكل الوسائل لتغييره… بينما يدرك العارف بطبائع الاستبداد وتصارع العباد أن أي نظام استبدادي عصبوي مافيوي يحكم قبضته على شعبه لم ولن ولا يمثل مصالح هذا الشعب ، ولا يصلح لأن يكون عنوانا للعلاقات بين الدول.

لقد عانينا نحن السوريون الأمرين عندما كان يجري الحديث عن سوريا … أو دمشق … ويقصد بها النظام السوري الذي دأب على القول أنه هو سوريا … حتى لبنان الذي احتله النظام السوري صار يكره سوريا ، ولم تنكشف هذه المصيبة الا بعد أن قام هذا النظام  بكامل مؤسساته بتدمير سوريا بطريقة ما كان ليفعلها أشد أعدائها … ومع ذلك ومع اسقاط الشرعية عن نظام بشار … لم تسقط من ذهن الحكومات الديمقراطية عملية مطابقة النظام بالدولة … فيتكلمون عن دمشق . وموسكو ، وطهران … يقصدون النظام الذي دمر دمشق ، ويغفلون شعوب هذه الدول المسكينة .

من هنا  ولفهم السياسة الروسية يجب أن نميز بين روسيا الأمة – الدولة ، وبين مصالح النظام المستبد الفاسد العصبوي المافيوي  الذي يحكمها، وحسابات شخوصه ومصالحهم التي تقع في المرتبة الأولى من أهداف سياساتهم ، حتى لو كانت على حساب دولهم التي هم مستعدين لتدميرها بالنووي لو هددت كراسيهم … فالوطن هو الكرسي ومصلحة الجالس على الكرسي هي المصلحة الوطنية العليا ، وإما بوتن أو نحرق البلد ….     وبناء عليه  سوف نحلل بطريقة عقلانية وموضوعية مصالح الدولة والأمة الروسية وبنية ومصالح السلطة الحالية فيها لنخلص لتحديد الطريقة التي يجب علينا التعامل مع مبادراتها :

آ- روسيا الدولة :

  • المسيحية الأرثوذكسية :

بعد فتح القسطنطينية على يد الترك العثمانيين عام 1453 ، اعتبرت روسيا نفسها وريثة الكنيسة البيزنطية الشرقية ( الأرثوذكسية )  التي سبق وانفصلت عنها الكنيسة الغربية البابوية (الكاثوليكية) وجعلت من روما مقرا لها ، واحتفظت روسيا القيصرية البطريركية بعلاقة مميزة مع بطريركية انطاكية وسائر المشرق، ومع مسيحيي الشرق الذين تمتعوا بالرعاية الغربية والشرقية المتنافسة على كسب ولائهم … ثم انتقلت بطريركية الشرق لدمشق،  بعد ضم لواء اسكندرونة لتركيا، التي دأبت على طرد المسيحيين عن أرضها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى على يد الجيوش المسيحية الأوروبية. وبقيت سياسات روسيا تدمج بين المصلحة القومية وبين المذهبية الدينية حتى أثناء الحقبة  الشيوعية… ( ميخائيل بوغدانوف مثلا هو نائب رئيس المجمع الكنسي للشرق الأوسط الذي يسمى سنودس فلسطين ، وبنفس الوقت هو نائب وزير الخارجية، ومبعوث خاص لذات المنطقة معا … )

وعندما تقاسم سايكس وبيكو  المنطقة تركوا للروس منطقة رمادية في شمال وغرب سوريا حول انطاكية اعترافا لهم بهذا الرابط التاريخي . ولكن البلشفيين بسطحيتهم السياسية قاموا بفضح الاتفاق، ورفضوا استعمار هذا الجزء بدوافع أيديولوجية … مما سهل على فرنسا تقديمه هدية لتركيا ، وهو آخر لواء من ثمانية ألوية كانت تتبع لولاية حلب أيام الحكم العثماني . فسارعت تركيا لإلغاء أي نفوذ مسيحي فيه ، وهذا ما نقل مركز الاهتمام الروسي لدمشق ، حيث اعتبرت  مسيحيي سوريا الحليف الطبيعي لروسيا بل الرعايا الواجب الحفاظ عليهم ، في مقابل هيمنة الغرب البابوي على جبل لبنان، وفي هذه النقطة يكمن السبب في منع النظام السوري المدعوم من روسيا الذي احتل لبنان من دخول المناطق المسيحية فيه والمدعومة من فرنسا والفاتيكان… وقد وصل حال بعض المسيحيين اللبنانيين لاعتبار فرنسا أمهم الحنون ، وبعض المسحيين السوريين إلى اعتبار روسيا الشيوعية مرجعيتهم ، وأصبح الانتساب للحزب الشيوعي السوري (الروسي الولاء والمدعوم من الكي جي بي والنظام السوري معا ) كأنه جزء من التعبير عن أرثوذوكسيتهم المسيحية … فكل مسيحي سوري هو شيوعي متدين طالما أن القيادة الشيوعية الأممية كانت بديلا عن الكنيسة الأرثوذوكسية ، ومقدسة بذات طريقة تقديسها استبدلت أناجيلها الأربعة بكتب ماركس انجلز لينين .

( راجع في هذا الصدد موضوع الخلاف الذي حصل بين رياض الترك و أغلب المسيحيين في جناحه والذين انشقوا عنه وشكلوا مجموعة مستقلة ( اتحاد الشيوعيين ) بقيادة يوسف نمر  أثناء مؤتمر عام 1978.  وكذلك موضوع خلاف منظمات القاعدة بزعامة مراد يوسف 1982 مع خالد بكداش الذي سعى لهيمنة كردية على الحزب ، ثم تآلف هذين الجناحين المنشقين واندماجهم بسهولة على غير المعتاد ، ودخولهم الجبهة مع النظام  باسم الحزب الشيوعي السوري ذاته بزعامة يوسف فيصل ، وهو في الواقع الجناح المسيحي من الشيوعيين ، إلى جانب حزب بكداش  الكردي الذي انقسم لخلاف شخصي بينه وبين صهره قدري جميل الذي طلق له البنت وخرج بمنظمة حارة الأكراد وسماها مجموعة قاسيون ( لجنة وحدة الشيوعيين ) ، تشارك حاليا في السلطة ، بينما بقي رياض الترك في المعارضة  وخرج من دائرة الشيوعية كلها وسمى جماعته بحزب الشعب وتحالف مع الإخوان المسلمين لتشكيل جبهة الانقاذ ثم المجلس الوطني المعارض في تركيا المتدينة العدو التاريخي للأرثوذكسية ، في حين شكل الشيوعيون العلويون المعارضون للبعث حزب رابطة العمل الشيوعي الذي عاد وتحالف مع النظام بعد الثورة وصار من شبيحته )  .

لقد استمر على مدى القرن الماضي  دعم الروس للتيارات العلمانية اليسارية ، ولتحالف الأقليات الذي حمل لواءها … وشكل مثقفي الروم الأرثوذكس طليعة النضال القومي العربي العلماني الاشتراكي ، والنضال اليساري القومي والشيوعي فيما بعد ، وصاروا هم منظري هذه الأحزاب ثم مهندسي تحالف وحكم الأقليات في سوريا وهم أساس دولته العميقة ( التي يصر الغرب على الاحتفاظ بها ) … واستمر هذا الحال حتى اندلاع الثورة السورية ضد النظام الشيوعي المنهج، وصاحب التاريخ الطويل في محاربة الاسلام ، والذي التفت حوله الأقليات ، والذي استعان بإيران الشيعية ، مما دفع بالثورة لتأخذ صفة سنية متطرفة بقدر الجريمة التي ترتكب بحق أبنائها ، ثم تهديدها  لحكم الأقليات بالسقوط ، حينها صار الروس الذين أيقنوا استحالة انتصار النظام ، وتجنبا لخسارة سوريا ، يخططون لتقسيمها والاحتفاظ بما أمكنهم من الشريط الغربي كقاعدة اجتماعية وعسكرية واقتصادية في المنطقة تابعة لهم، فاستعادوا  بعد قرن ذكريات خريطة سايكس بيكو وطالبوا بحصتهم منها ، وحصلوا على ما يبدو من أمريكا على وعد باحترام مصالح روسيا في سوريا بعد أن أطاحوا بها في ليبيا، لكن هذا الوعد قد تزعزع مجددا بعد دخولهم أوكرانيا ، وبسبب المنافسة من ايران العظمى التي تريد الساحل السوري أيضا .

 

  • الأمة الروسية :

تاريخيا تعتمد الأمة الروسية على قوتها العسكرية التي تفرض هيمنتها على شعوب وأمم أخرى تقدم لها ما ينقصها من الغذاء والحاجات التي يصعب عليها انتاجها بسبب طبيعة الطقس القاسية … فسلتها الغذائية كانت دوما جنوبها وكانت على الدوام تشن الحروب ضد تمردات هذه الشعوب ، وتحارب أوروبا التي تحاول هي الأخرى السيطرة على هذه المنطقة التي تشكل بؤرة الصراع والتنافس بينهما والواقعة جنوب شرق أوروبا حيث استمرت الأرثوذكسية و السلافية فيها ، وشكلت تمايزا عرقيا ودينيا  عبر عنه انقسام أوروبا بعد الحرب الثانية لشرقية وغربية ، وأثناء الحرب الباردة حاول الغرب احكام الطوق حول روسيا السوفيتية … باستعمال تركيا وايران ، فدعمت روسيا الحركات الكردية لإزعاجهما وهذا سبب هيمنة الأحزاب الشيوعية على الحركة الكردية تاريخيا ، وقفزت  روسيا فوق الحواجز بدعمها للأحزاب الشيوعية والانقلابات العسكرية اليسارية في أكثر مناطق العالم لتقويض النظام الغربي الديمقراطي ( الامبريالية ) ، وهو ذات الهدف النازي لكن بطرق مختلفة … فالروس يعتبرون أنفسهم المنافس الحقيقي للغرب على زعامة المسيحية والعالم  ،ولديهم شعور تاريخي متضخم يحركهم دوما حتى في أشد حالاتهم ضعفا ، والغطرسة العنصرية الروسية ، والنزعة العسكرية طاغية على سياساتهم لدرجة العمى التي تسمح لهم بارتكاب أبشع المجازر بحق الشعوب التي يستعمرونها …

وعندما قامت اسرائيل حاولت روسيا الافادة من الصراع العربي الاسرائيلي بكسب ود الأنظمة العربية التي تحتاج السلاح . لكنها أبدا لم تقدم لهم ما يمكنهم من النصر . لأنهم إذا انتصروا تخلوا عنها بحكم الميول الدينية للمنطقة .  وهكذا تعيشت المصالح الروسية على استمرار الصراع في الشرق الأوسط  واستغلته ابشع استغلال ودعمت كل نظم الاستبداد العلماني الاشتراكي فيه . وساعدها في ذلك دعم الغرب الأعمى لإسرائيل .

وعندما حاول الغرب تحريض شعوب جنوب روسيا واللعب على وتر الانتماء الديني لتفكيك الاتحاد السوفييتي ، واستبدلوا حكم الشاه في ايران بحكم ديني على أمل تصدير الثورة لداخل الاتحاد السوفييتي ، فأمر الغرب الجيش الإيراني بعدم قمع الثورة الشعبية التي حولوها فيما بعد لثورة دينية ، وحملوا الخميني لوسط طهران كبطل مظفر وقائد ومرجعية دينية مقدسة عليا، عندها ردت روسيا عليهم باحتلال أفغانستان ، ودعم نظام صدام وتشجيعه على اعلان الحرب لإشغال ايران وامتصاص زخم الثورة الدينية باتجاه بعيد عن روسيا … لكن الغرب حول أفغانستان لساحة استنزاف بواسطة دعم التطرف الاسلامي إمعانا في تحريض الشعور الديني في المنطقة ، وامعانا في سياسته الرامية لتحريض النزعة الاستقلالية في الجنوب على أساس ديني ، ولم يكد الجيش الروسي يكمل الانسحاب منها حتى كان النظام الشيوعي برمته ينهار .. ودول الجنوب والغرب تتخذ مسارها المستقل ، وتتحول روسيا لدولة عسكرية نووية فقيرة ومتعسرة ، لا تملك عمليا إلا جيشها ، وتعتمد حاليا في معظم ناتجها القومي على النفط والغاز .. حتى إذا انخفضت أسعاره تدهور الاقتصاد كليا وبشكل دراماتيكي .

وعندما وصلت النزعة الاستقلالية الدينية للشيشان السنة استنفر الروس كل آلتهم العسكرية لسحقها ، والتي سيستعملونها أيضا لتقسيم  أوكرانيا واحتلال جزيرة القرم وضمها ، لأن خسارتهم لهذه المستعمرات المتبقية الغنية تعني تقويض كل عظمة ومجد روسيا وخسارتها لأهم مواردها ، فعداوتها للثورات ذات الطابع الاسلامي مطلقة وتنبع من هذا الخطر الوجودي الذي يهدد جنوبها ، ويهدد أيضا شرق الصين المسلم … الصين المهددة أيضا بحرب أهلية نتيجة التشوه الاقتصادي الهائل الذي أحدثه النظام الشيوعي ، ثم التحول نحو الرأسمالية بقيادة المافيات الحزبية التي تستخدم الشعب الصيني كعمال بأجر تافه في شركاتها تحت ذل الشيوعية .. على الطريقة الروسية والسورية ، والتي خسرت اقليم دارفور وجنوب السودان الغني بالنفط وليبيا وبالتالي صارت تشعر بالحصار الغربي لها فربطت يد مندوبها بيد المندوب الروسي في مجلس الأمن صعودا ونزولا في مواجهة أي قرار يضعف نفوذ عميلهم الوحيد المتبقي في المنطقة أقصد النظام الإيراني وامتداداته ، والذي يستفيد من الظرف لإقامة ايران العظمى الشيعية الشيوعية النازية .

ولا يتوقع من أوروبا أن تتساهل مع سياسات موسكو العسكرية التشبيحية التوسعية المتجددة والعودة لتحت تهديدها مرة ثانية ، لذلك ستواجهها بسياسة أكثر حزما وجدية في كل مكان في شرق أوروبا والشرق الأوسط أيضا . والصراع عموما يتجه نحو التأزم ، والحرب حتمية مع ايران إذا لم تسلم كل أوراقها للغرب ، وتفك ارتباطها بمحور موسكو ، والنظام الروسي والصيني هم أيضا عرضة لعدم الاستقرار … ونظام بشار آيل للسقوط كفرق عملة ، حتى لو كانت الحرب على داعش تأخذ الأولوية الآن . لأن سقوط داعش يعني سقوط بشار كما كان سقوط بشار يعني سقوط داعش ، فكلاهما وجهان لعملة واحدة . وسقوط بشار هو بداية سقوط لخامنئي ، ومسمار في نعش بوتن .

ب – روسيا النظام :

  بسبب طبيعة المجتمع الروسي المغرقة في البطريركية العسكرية، وبسبب ضعفه الاقتصادي واعتماده على خيرات شعوب وبلدان يستعمرها تأخر في ركب الثورة الصناعية والتطور الرأسمالي، وعجز عن تطوير طبقة صناعية تجارية تقود نهضة اقتصادية واجتماعية وسياسية ، وبالتالي حرم من التحول لمجتمع مدني طبقي قادر على انتاج الدولة الحديثة بطابعها المدني ، ثم الديمقراطي فيما بعد . وبعد خسارة مذلة في الحرب العالمية الأولى انتفض الشعب والجيش الروسي، الذي عانى المجاعة ضد النظام القيصري التقليدي ، ودخل في حرب أهلية مريرة استمرت خمس سنوات انتهت بسيطرة سوفيتيات العمال والجنود ( وهي مجالس محلية ثورية ) قادها سياسيا مجموعة البلاشفة ( الحزب الشيوعي الروسي ) الذي قرر انجاز كل مهام الثورة البرجوازية والثورة الاشتراكية معا وفي مرحلة واحدة ومن دون وجود حامل اجتماعي اقتصادي بل بالاعتماد على الطليعة الثورية المثقفة التي تحتكر سلطة الدولة الشمولية المطلقة التي تمتلك كل مواطن وتسيره ضمن برامجها ، أي بواسطة سلطة الحزب الواحد التي تحكم بالقمع والمصادرة والاستلاب ، لإنجاز التحول التاريخي البنيوي في المجتمع والاقتصاد ( إنجاز مهام الثورة الاجتماعية الديمقراطية : الرأسمالية والاشتراكية معا وفي مرحلة واحدة ) ، وكل ذلك بطريقة قسرية وباعتماد قبضة حديدية ونظام شمولي مركزي يلغي كل حرية وكل ملكية خاصة  و كل آليات السوق … وبالفعل صودرت كل الملكيات الخاصة ، وحول كل الفلاحين لعمال في مزرعة الدولة ، وقتل من قتل وهجر من هجر ، والغيت كل البنى التقليدية  الأهلية و الدينية وتحول كل الشعب لعمال – جنود  أجراء عبيد للنظام ، موحدين بالشكل والحلاقة والطعام واللباس، وصار كل مواطن رفيق – عامل – جندي مطيع مملوك بشكل مطلق للحزب والدولة وينذر حياته من أجل برامجها وفي عبادة رمزها الرفيق الأمين العام رئيس الدولة ( بطرك – قيصر – إله )…

ومع ذلك لم يؤد هذا التحول القسري الشمولي لنمو اقتصادي متوازن وحقيقي ، ولم يؤد لتحول مجتمعي طبيعي مستقر نحو المدنية والحداثة ، وعندما سقط النظام الشمولي الشيوعي بسبب الافلاس المطلق بعد مأساة استمرت 70 عاما ، لم تستطع البنى القديمة استعادة دورها الذي فقدته منذ زمن طويل،  بعد تغير الأرضية التي كانت تقوم عليها ، بل تفكك الرابط الحزبي المخابراتي المؤدلج الذي كان يجمع الدولة، وتحول لروابط عصبوية مافيوية غير مؤدلجة صارت هي التكوين الحقيقي للمجتمع الروسي ما بعد الشيوعية ، حيث لم تنشأ رأسمالية انتاجية وعقارية تحترم آليات السوق وأخلاقيات التعامل ، بل سُرق كل القطاع العام وتحول المسؤولون لرأسماليين شبيحة عبر الاستيلاء على المال العام وملكيات الدولة، وقسمت دولة الحزب الواحد على المافيات الأمنية التي ورثت الحزب الشيوعي ( بوتين ضابط كبير في الكي جي بي ومسؤول بارز في الحزب الشيوعي ) ، وحكمت ليس بمراكز القوى بالحزب ، بل بتحالف المافيا الأقوى التي هي الشكل الجديد لأجهزة الأمن ، والتي تتحكم بالمال و ماكينات العنف وتتحكم بمفاصل الاقتصاد ورقاب العباد . وتشكلت الدولة الروسية الحديثة من دون أحزاب ولا مجتمع مدني ولا بنى أهلية ولا طبقة رأسمالية تتنافس بالإنتاج والجودة … بل على علاقات القوة والجريمة والاستغلال والترهيب … لتصبح روسيا اليوم أكبر  نظام عصبوي مافيوي تشبيحي في العالم ، وهي عندما تدافع عن بشار فهي تدافع عن نموذجها وأخلاقها ومعاييرها ، فبشار وعصابته كأكبر مافيا في الدولة السورية (تكونت هي الأخرى بذات الطريقة ) تشبه بوتين وعصابته في الدولة الروسية … ومصالح هذا ، ومصالح ذاك تتلاقى وتتطابق ، لكنها لا تتماشى مع مصالح الدولة الا بقدر ما يحولها لبقرة حلوب في مزرعة مافياته وشبيحته  …

وما زاد من اندفاع الروس  وتمسكهم بالنظام السوري هو اكتشاف النفط والغاز … الذي احتكرت روسيا وشركات بوتن تحديدا حق التنقيب عليه واستخراجه لثلاثة عقود في سوريا ، لكي تستمر بالتحكم بسلاح الغاز الذي تضغط به على أوروبا… ولا ننسى أن الخلاف الأساسي بين بشار وشيراك قد نشب بعد حرمان توتال الفرنسية من هذه العقود . ولا ننس ما نشر عن ثروة طاغية سوريا وأسرته التي فاقت 122 مليار دولار ، وثروة قيصر روسيا الجديد التي فاقت ال 50 مليار ، ناهيك عن ثروة زعماء المافيات التي تدعمه ، وكلاهما حصلها بالفساد واستغلال النفوذ والتشبيح والاستيلاء على نفط الدولة وتسخيرها، وكلاهما يريد أن يحكم إلى الأبد ، ويزور الانتخابات ويعدل الدساتير ويقمع المعترضين من أجل البقاء بالسلطة .

فعلاقة نظام بشار بنظام بوتن لا تمثل المصالح السورية والروسية كشعوب وأمم ودول ، بل تمثل المصالح العصبوية بين مافيات مغتصبة للسلطة بالتزوير والعنف فوق هيكل مافيوي مخابراتي يعمل بالجريمة والنفط والمال  والدعارة والتجارة السوداء … والشعب الروسي كما الشعب السوري ضحية هذين النظامين . الذين يمثلان توصيفا نموذجيا للدولة العصابة وللدولة التي تتحول لمافيا .

وعندما يقدم النظام الروسي السلاح والخبرات للنظام السوري ، أو عندما يتخذ الفيتو لحمايته وتعطيل القانون الدولي ، فهو لا يستند لمصالح روسيا وشعبها، ولا لالتزاماتها في النظام العالمي ، بل عينه على  الرشوة والهدية … ولو كانت روسيا تتصرف كدولة مسؤولة ذات مصالح لكان من الممكن فتح حوار معها ، وايجاد صيغة مناسبة لتحقيق هذه المصالح ، لكن روسيا مقتنعة أن انتصار الجريمة والمجرمين هو انتصار لنظامها … وسقوطها نذير شؤم على مستقبلها .

في اجتماع طويل مع بوغدانوف صيف عام 2012 لم نستطع التوصل لأرضية مشتركة نبني عليها ، ولم يستطع أن يحدد أي مصالح لروسيا كدولة يخشى عليها ، فكل المصالح المفترضة محقق سلفا ولا يوجد تناقض أو تعارض بين روسيا وسوريا بل بالعكس سوريا لكي تحتفظ باستقلالها ذات مصلحة بتوازن بين الشرق والغرب ، ووجود المسيحيين في المجتمع والدولة يقدم قيمة مضافة ، واستخدام السواحل لخدمات بحرية يعود بالفوائد ، وشراء السلاح غير ممكن من دولة ثانية … وقد عددت له كل هذه المصالح وشرحت له أنها هي ذات مصالح ثورة الشعب السوري … لكن المسألة الجوهرية التي تمسك بها الروس ولم يحيدوا عنها هي بقاء نظام الأسد بتركيبته وتعبيراته الأقلوية ونظامه المافيوي ، وحصروا كل اهتمامهم بتركيبة النظام حتى بنسبة الضباط العلويين في الجيش والأمن التي يجب أن لا تقل عن 60% ، وهذا ما نعتبره شأنا يخص الشعب السوري . لذلك ومنذ ذلك الوقت أصبحت روسيا بالنسبة لي خارج دائرة التفكير، لأننا كشعب قد قرر تغيير هذا النظام الطائفي  المافيوي التشبيحي المجرم وتفكيكه واعادة بناء العقد الوطني على أسس وقيم مختلفة جذريا .

وقد لمح بوغدانوف لوجود توافق روسي أمريكي على بقاء الأسد حتى عام 2014 قبل البدء بالبحث عن مخرج ، ربما لانتظار استنزاف زخم الثورة وقدرات الشعب تسهيلا لفرض حلول تقسيمية عليه ، عبر بوابة جنيف التي تحول سوريا لفيدرالية طائفية يحتفظ كل طرف بوكلائه وحلفائه وعصاباته ضمن نظام تقاسم وتشارك بين هذه العصابات ، يحقق المصالح الخارجية على حساب مصالح الشعب وعلى حساب هوية المنطقة واستقلالها ، ولكن صمود الشعب ورفضه وتعنت النظام  أسقط جنيف . لقد كرر بوغدانوف  عدة مرات … اتفقنا مع الأمريكان على ليبيا فغدروا بنا ، ولن نسمح لهم بأخذ سوريا منا، لذلك قدم لهم كيري تطميناته واتفقوا على التقاسم عبر بوابة جنيف ، التي لن تؤدي إلى حل متوافق عليه غير التقسيم . ثم لعب  ظهور داعش دوره في خلط الأوراق التي لم تنتظم بعد، فالمناطق التي تركت حصة للغرب أصبحت بيد عدوه القاعدة. وصار يريد تحريرها منها على يد الثوار ، من دون اسقاط النظام الذي هو حصة روسيا .

واليوم تحاول روسيا بمباركة أمريكية تنفيذ اتفاقهما وأخذ حصتها ، عبر اعلان نهاية المرحلة الثورية وعقد  هدنة بين النظام والثوار ، واشراك معارضة شكلية بالحكم ، وتوجيه كل قوة الثوار نحو داعش ، و من ثم الانتقال للعمل على استقرار الحدود الحالية المتفق عليها لتوزع القوى ، والتي رسمت تبعا لسياسات الدعم والتسليح بمهارة وسوء نية ، وموسكو مستعجلة كي يحتفظ النظام المنهار المهدد بقدرته على تجديد نفسه  والاستمرار على كيان مصغر هو حصة روسيا من سوريا ، واهمال بقية المناطق ( حصة الغرب ) التي خرجت عن سيطرته لتصبح ساحة استنزاف للآخرين بدل أن يكون النظام مصدر استنزاف للروس، في حال استمرت الحرب عليه . وسبب استعجال الروس ليس فقط تداعي النظام بل تزايد التحكم الإيراني الذي صار هو عمليا من يدير سوريا .

تجتمع المصالح الشرقية والغربية معا عندما يتقاسمون سوريا ، وتجتمع المصالح الشخصية لرأسي النظام  السوري والروسي كشركاء في الطبيعة والفساد والمال ، مع مصالح النظامين كشرعية ومنهج جرمي مخالف لكل المعايير الانسانية والديمقراطية ، لتشكل حلفا لا ينفصم ولا يمكن المراهنة على فصله بينهما … فأمريكا والعلويين يفضلون الاحتلال الروسي على الهيمنة الايرانية، كمنقذ وحيد لهم بعد ما أمعنوا في الحرب الطائفية القذرة التي فرضها سلوك النظام ، لكنهم سيتحولوا بكل حال لعبيد مأجورين عند عصابات تحكمهم  واستعمار جشع ينهبهم . وبينما تنشغل أمريكا بالحرب الطويلة مع السنة الذين يتجهون أكثر فأكثر نحو التشدد والانغلاق والعنف … تستكمل روسيا بناء مستعمرتها الجديدة، ومن يدري قد تغرقها بعدد هائل من الروس كما فعلت في دول أوروبا ، وكل ما تريده حاليا هو وقف إطلاق النار على حدودها، والقضاء على ما تبقى من ثورة في جوارها وداخلها … وهي الهدف الوحيد من حوار موسكو المغفل الأهداف والذي لا يريد تقديم أي ضمانات حول مستقبل سوريا .

(قدري جميل ) الذي فر جده من وسط تركيا وأعطته فرنسا أراضي شاسعة في القامشلي ليتحول حفيده لإقطاعي ماركسي … هو شريك النظام السوري ومافياته المالية ، وبنفس الوقت صهر الزعيم التاريخي للحزب الشيوعي الروسي خالد بكداش ، وهو اليوم أهم معارض سوري تتبناه روسيا وهو من يسمي ويختار الأسماء المسموح لها الذهاب لحوار موسكو ، لكي يعرضوا على النظام الذي له حق الاعتراض … بينما يدربهم ويجمعهم الشيوعيون الأرثوذكس  بدعم مالي من شركاء مخلوف … فالحوار بهذه الطريقة سيكون داخل النظام لتسوية الصفقات الداخلية بين مكوناته ، وليس لإعطاء سوريا حريتها أو لتحقيق العدالة والكرامة لجميع أبنائها ضمن دولة قانون وعدالة ، واعادة بناء عقدها الوطني الذي تحطم بفعل السياسات الطائفية البغيضة ، والجرائم ضد الانسانية …

 مستقبل سوريا الحضاري  مرتبط بسقوط بشار المجرم ، الذي سيكون خسارة شخصية كبيرة لبوتين و نذير شؤم على نظامه المشابه … ونجاحه في قهر الشعب السوري سيكون استثمارا طويل الأجل يدر المنافع، وبنفس الوقت يبقي الطريق مفتوحا  لعمليات قمع مشابهة تواجه أي تحرك شعبي في روسيا أو في الصين أو في إيران … فإغلاق هذا الباب تحت أي بند أو قرار أو نظام دولي هو ما سيواجه فورا بفيتو روسي صيني . حتى لو كانوا يكرهون بشار الأسد ويخططون لشفط أمواله ، وإزاحته قد تكون مقبولة ضمن أي صفقة لكن ليس عبر نظام العدالة الدولي الذي يجب أن يبقى معطلا تحسبا لأي طارئ.

لذلك فالثورة السورية تخدم مصالح الشعب الروسي والايراني والصيني ، بذات القدر الذي تقف أنظمة هذه الدول ضد شعبها وشعب سوريا …  و لذلك أيضا يقع  علي عاتق الشعب الروسي تحدي حضاري كبير في انضاج مؤسسات مجتمع مدني واصلاح اقتصادي بنيوي ، واصلاح ديمقراطي جذري ، والا فإن روسيا تسير مثلما سارت سوريا نحو حرب أهلية جديدة ستكون الحرب في سوريا نزهة بالمقارنة معها … وما سيسرع فيها الحصار الاقتصادي المفروض على روسيا حاليا ، وعليه نعود لنقول أن قدر الثورة السورية أن تغير العالم وتعيد بناء نظامه العالمي وتحرر بقية الشعوب من هكذا نوع من الأنظمة المتحالفة الممتدة من الصين حتى فينزويلا مرورا بروسيا وايران والنظام العربي . وبدل أن نجتمع في موسكو لدعم النظامين الروسي والسوري وتجديد الجريمة ، علينا أن نتابع النضال لإسقاطهما . بالتزامن مع استمرار تدهور الولايات المتحدة التي فقدت قيمها وتخلت عن مسؤولياتها الحضارية والانسانية . لكي ندخل عولمة مختلفة تقودها الشعوب و تحكمها القيم ، وليس العصابات المجرمة والرساميل الجشعة .

هناك مقياس نقيس عليه هو حديث الرسول الكريم ( خيركم خيركم لأهله ) لو كان في النظام الروسي خير لأهله لتوقعنا منه الخير لغيرهم ، ولو أرادت موسكو الخير لسوريا وشعبها لبادرت منذ البداية بمطالبة الأسد بالتنحي واجراء انتخابات حرة برقابة دولية ، ولما قدمت له كل عناصر الدمار ، و ما يزال باستطاعتها اليوم الاعلان أنها تضمن تنحي الأسد لصالح سلطة انتقالية تتفق عليها المعارضة وقاعدة النظام ، عندها سيذهب الجميع من دون دعوة لموسكو . أما أن تدعو موسكو لحوار بين المعارضة والنظام من دون هدف ومن دون مشروع ومن دون ضمانات ، وأن تختار هي من سيمثل المعارضة فهذه مهزلة وخديعة مكشوفة … وإذا كان من سيمثل ثورة الفقراء العرب السنة الذين حملوا السلاح ضد التمييز والقهر والجريمة في لقاءات موسكو هم من أمثال هذه الشخصيات التي هي من صلب بنية النظام وعهره ، وإذا كان الحوار يتم برعاية نظام روسي يحمل كل أنواع الحقد على السنة … فماذا ننتظر من هكذا حوار غير التآمر على سحقهم … وبالإذن من معاذ ووليد ورنده وحسن وهيثم . لن يأتينا من موسكو إلا ما جاءنا من طهران ومن هضاب المزة . ودعوا الشمس لبارئها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.