يثب

متى يعتذر العرب من تركيا ؟

د. كمال اللبواني

بالأمس القريب قرأت تصريحا لجيمس بيكر يطلب فيه من أوباما تكليف الجيش التركي باجتياح سوريا والقضاء على الأسد وداعش معا ، وقبله قرأت خبر تشكيل مجلس تعاون استراتيجي بين تركيا والحكومة السورية المؤقتة … وقد سبق لتركيا أن بادرت لذات الاستراتيجية مع نظام الأسد قبل الثورة ، وبعد أربع سنوات من التعاون الأخوي مع السوريين ومع أول بوادر تنظيم اداري تقوم به المعارضة عادت تركيا لتساهم بقوة في دعم مسار البناء والتعاون بين البلدين والشعبين ، ولا عجب فحقائق التاريخ والجغرافيا والثقافة تفرض نفسها على السياسيين العقلاء .

Untitled

 المزيد في المقال التالي :

في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أدى انتشار الفكر القومي والعصبية القومية عند الترك العثمانيين لحساسية مضادة عند بقية المكونات التي تشكلت منها الامبراطورية العثمانية ، ولعب هذا الفكر القومي العصبي المستورد المناقض للدين دورا في اضعاف الامبراطورية وتسهيل تفكيكها وهزيمتها واحتلالها من قبل قوميات أخرى في أوروبا معادية لها ومتحالفة على ابتلاعها…

ولعبت ما سمي بالثورة العربية الكبرى أثناء الحرب العالمية الأولى دورا في طعن هذه الخلافة في قلبها وقتلها عندما تحركت بتشجيع بريطاني وفرنسي للحرب ضد جيوش السلطنة المنهمكة في الجبهات ، ولم تكد تفرح الثورة العربية بانتصارها حتى وقعت تحت نير استعمار أشد عنصرية واستغلالا وفتكا مما سمي يومها بالهيمنة التركية . ولم يستطع الأتراك نسيان ذلك حتى الآن ، فهم عندما يذكرون العرب يذكرونهم دوما مع صفة الخيانة ( أربشا خيانات ) .

ويبدو لي أن الحرب العالمية الأولى لم تنته بعد، وأن السفر برلك والحرب والهجرات ما تزال قائمة على قدم وساق في المنطقة حتي بعد قرن كامل من الزمن … فما أشبه الأمس باليوم .. ( حروب في كل مكان ، مجازر وتطهير وهجرات ومجاعات …. جيوش تنهار ودول تنهار .. وتدخلات أجنبية …. )                     أذكر القصص الكثيرة التي كان يحكيها لي شهود عيان عن تلك المرحلة . فثلاثة من أعمام أبي شاركوا في حرب السفر برلك ( النفير العام ) عاد منهم واحد فقط بعد أن قاتل لسنوات في جبهة البلقان ، بينما استشهد الثاني ، وفر الثالث عبر البحر نحو أمريكا اللاتينية ، بينما عاش الأطفال والنساء والشيوخ حياة مجاعة حقيقية وضربتهم الأوبئة حتى تدهور عدد السكان … ولا أريد فقط أن أركز على وحشية الحرب وسلوك الدول بل أيضا على انطلاق وحشية الانسان والمجتمع ذاته تماما كما يحصل اليوم … وينطبع في ذاكرتي ما تعرض له الجيش العثماني المهزوم من مجازر يندى لها الجبين على يد السكان الجائعين الذين كانوا يعترضون خط الحديد الحجازي ويقتلون ويسرقون الجند العائدين لديارهم . وأذكر أن أحد العشائر كانت تجرب بنادقها أيها الأقوى في اختراق أجساد صفوف هؤلاء الجنود المنهزمين .. وهي ذات العشيرة التي سترحب فيما بعد بالاستعمار الفرنسي ، وتسود طيلة عهده و تجرب أيضا دقة بنادقها في التصويب على البشر … ثم ستعمل مع نظام البعث ، وما تزال تشبح مع النظام بعد الثورة وتجرب بنادقها في المدنيين … مع أنها من العرب السنة المتمسكين بنظام القبيلة ، ومثلها يتكرر في كل المناطق … وأذكر أن جدي كان يترحم على أيام الأتراك ، ويفضلها على أيام الاستعمار الفرنسي ، والذي كان برأيه أفضل كثيرا من مرحلة الاستقلال ، فقد كان يرى أننا ذاهبون من سيء إلى أسوأ ونحو الخراب لأننا (نضع العلم الدنيوي فوق الدين وبديلا عن القيم ).

فالتناقض بين القبيلة والدولة ، والعصبية القبلية والمواطنة ، وبين العصبية القومية مع المدنية والحضارة والانسانية ما يزال يطبع ويتسبب في الصراعات التي لا تنتهي حيث حلت العصبية القومية وبأي شكل تمت … وسبب تخلف مجتمعاتنا عن ركب المدنية والديمقراطية هو استمرار هذا البناء الأهلي التقليدي وعجزنا عن تفكيكه وتحويله للرابط التعاقدي المدني . فالسلطة عبر التاريخ العربي الإسلامي لم تكن سلطة دين وعقد بقدر ما كانت عصبية قبيلة . ولطالما ارتبطت العروبة بالقبلية وعجزت عن تجاوزها ولطالما ارتبطت القبلية والعصبية القومية بالجاهلية والعنصرية . بينما كان الإسلام هو وجهها الحضاري المدني .

فالدين هو ما دان له الناس ، والمدينة هي الحاضرة التي تدين ، والمدنية هي الانتماء للقيم والمعايير وليس العصبيات . المدنية والحضارة والسلم كانت وما تزال مرهونة بتسويد القيم والأخلاق والمؤسسات المنفذة لها ، والتي يشكل الدين كمنظومة معرفية فلسفية قيمية مصدرها الأساس ، كعقيدة وانتماء والتزام ذاتي ، وفعل خادم لها . وكما فعلت تركيا وتخلصت تدريجيا من ارث الغزو الثقافي القومي العنصري الغربي الذي دمرها … كان علينا نحن أيضا أن نتجاوز هذه العنصرية التي انتقلت للكرد هذه الأيام والتي ستبقى مصدر صراع لا أمل في نهاية له مع بقائها .

مرت سنوات على المأساة السورية ، ولم يتغير موقف تركيا الأخوي والأخلاقي والديني من الشعب السوري ، ولم يظهر في يوم أو في موقف أن تركيا تفكر بشكل انتهازي أو أناني في تعاملها مع الأزمة السورية ، ( فقط المعارضة العلمانية والأحزاب العنصرية هي من تشوش على هذا التعامل الانساني ) في حين تعرض السوريون لشتى أنواع التمييز والظلم في بلادهم وعلى يد إخوانهم وفي أكثر من دولة عربية ، وبعض الدول العربية ما تزال تمد النظام بالسلاح والرجال لقتل السوريين ، وأغلبها يغلق الطريق أمام فرارهم من أتون الحرب ، ومن فتح حدوده عاد لإغلاقها ، بل و مارس التضييق المشين على اللاجئين عنده باسم مصالح الدولة ، ودول الخليج الميسورة الصديقة لم تستقبل لاجئ واحد فوق أراضيها في حين استقبلت أوروبا نصف مليون حتى الآن . وكلهم نسو الأخوة القومية ، ونسوا أيضا الدين الاسلامي ، ومعاملة المهاجرين في المدينة … يتبجحون بالعروبة وبالإسلام، وهم لا هذا ولا ذاك سلوكا وفعلا، لأنهم ينتمون لدولة ليس فيها قيم وليس لها هوية ..

لقد حان الوقت لكي نبدي نحن كسوريين الامتنان والشكر المتناسب مع نبالة الموقف التركي ، كما يجب أن نفكر بمصالح شعبينا البعيدة المدى ، حيث أثبت قرن كامل من الزمن خطأ فك الارتباط مع تركيا . حتى تكالبت علينا الأمم واستخفت بألمنا ومصابنا بل صارت تستثمر فيه وتبقيه … إن خيبة أملنا من النظام العالمي ، ومن موقف الدول الصديقة ، ومحدودية الدعم الشقيق واشتراطاته … كل ذلك يجعل خيارنا هذا منطقيا ومتناسبا مع الواقع الفعلي والاحتياجات الملحة ، والأفق الاستراتيجي …

إنني أدعو رموز المعارضة السياسية الذين لم يلوثهم الفساد والوكالة للآخرين ، لاتخاذ المزيد من الخطوات العملية والرسمية في هذا الاتجاه لمتابعة الخطوات المشتركة وتطويرهاوكلي أمل أن تتعاون تركيا مع كل أطياف المجتمع السوري وكل اتجاهاته الحزبية لنبني التحالف الراسخ بين الأوطان … وليس بين عصبيات الأحزاب …

الشمس التي غابت عن بلادي لن تشرق من موسكو ولا واشنطن ولا نيويورك ولا القاهرة بكل أسف … لا بد لنا من حليف جدي مخلص ومجاور وقادر، ولا بد لهذه الصداقة أن تحقق مصالح مشتركة لكلا الطرفين … ولا بد من البدء برسم ملامح مرحلة جديدة تعاونية اتحادية في الشرق الأوسط تحفظ السلم والاستقرار، بدل الانجرار للصراعات الأثنية والعرقية والطائفية التي ستدمر كل شيء … فشمس الشرق الأوسط تشرق عندما نبدأ بمسار تعاوني قيمي أخلاقي بين مكوناته ودوله ، ونخرج من مسار التنازع والتقسيم والعنف والهيمنة والاكراه والتعصب والاضطهاد والاحتلال والتهجير …

وهذا ما يعزز أكثر وأكثر ضرورة التفكير الجدي ببناء تحالف استراتيجي بين الشعبين السوري و التركي ، بل وضع برنامج اتحادي متطور تبعا للظروف والامكانات والاحتياجات … ليس فقط القيادة السياسية الحالية ، وليس فقط السياسات الراهنة ، بل المصالح المشتركة البعيدة المدى تفرض علينا كمعارضة اتخاذ قرار تاريخي يرسم استراتيجية اتحادية مع تركيا ، يبدأ بدعم غير محدود لموقف أردوغان وحكومته من الأزمة السورية ، خاصة لجهة حماية المدنيين واغاثة الشعب المنكوب وفتح جسور التعاون واعادة البناء . فأردوغان وفريقه أشخاص يذهبون ، وتركيا تتعرض للكثير من محاولات الزعزعة ، وعدم الاسراع في بناء علاقات اجتماعية واقتصادية راسخة تفرض نفسها … سيكون نوعا من التقصير والاهمال في الافادة من الفرص التي يتحها التاريخ .

كما ندعو الدول العربية الشقيقة وبشكل خاص المملكة العربية السعودية والشعوب العربية خاصة الشعب المصري أن تعيد بناء علاقات التعاون والتحالف مع الشعب التركي ، فكل قضايا المنطقة لن تحل من دون صيغ تعاون اقليمي ، ولا مكان اليوم للضعفاء في العالم الحديث الذاهب نحو الاندماج فوجودنا وهويتنا ومصالحنا مرتبطة بتعاوننا … والخطأ التاريخي الذي حدث في الحرب العالمية الأولى يجب أن يصلح في الحرب العالمية الثالثة التي تحدث بالتقسيط … ويجب أن نتحلى بالشجاعة لنقول للأخوة الأتراك {لقد أخطأنا }…

شكرا تركيا شكرا أردوغان بما يمثله من نهج وقيم … والشكر موصول لكل شعب يريد التعاون والتحالف على الحق والخير والكرامة … و ليسقط الطغاة والمجرمون والمتعصبون وكل من سولت له نفسه استباحة الدم والشرف وحقوق الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.