شريعة الغاب واستعادة النظام

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

تسمي المعارضة السلطة الحاكمة بالنظام ، وهو يعترض على هذه التسمية ويعتبرها تهمة لمن يطلقها عليه، لأنه ليس نظاما بل هو الوطن كما يتوهم ، وتسمي المعارضة ثوارها التطوعيين بالجيش الحر الذي هو أيضا أبعد ما يكون عن الجيش والنظام … وهكذا تحول النظام الحاكم المفترض لعصابة أشرار اختطفت السلطة والشعب والدولة وعاثت بها فسادا … وتحولت الثورة عليه إلى فوضى عارمة عندما افتقدت للنظام والإدارة والتحكم والمراقبة والمحاسبة بسبب فرض قيادة سياحية لها في الخارج من وكلاء الدول … مما أدخل البلاد في مرحلة كاملة من الفوضى والجريمة ، زاد عليها دخول عصابات ومليشيات أجنبية بقصد السلب ، وقيام امارات ارهابية شرعها طوع بنانها …

كل سلطة ونظام يتطلب وجود مجتمع واقتصاد وسيادة قانون متوافق عليه ومؤسسات قضائية قادرة على تطبيقه، وسلطات سياسية وادارية مفوضة تؤمن موازنتها من ريع هذا الاقتصاد وتسهر بدورها على حراسة السلم الأهلي والنظام العام ، ومن دون هذه الحلقة المتكاملة تنهار الدولة وتتحول لدولة فاشلة ، وقد كان من الممكن قيام سلطات محلية بديلة في المناطق المحررة لو تأمن وجود حياة اجتماعية واقتصادية مستقرة . لكن براميل النظام كانت ترهب وتقوض كل وجود مجتمعي ، لذلك كان الحظر الجوي والمناطق الآمنة هي نقطة البدء في إستعادة أي نظام … فالمسألة ليست في اختراع قيادات وسلطات في استانبول وغازي عنتاب ، ولا في صياغة التوافقات والأوراق في القاهرة وموسكو ، بل في تأمين شروط استعادة الحياة على الأرض ، الأرض المنكوبة التي لا تستطيع أن تنتج تلقائيا سوى سلطات التطرف والترهيب التي تكيفت مع غياب الأمن والقصف ولم تعتمد على اقتصاد وتوافقات المجتمع الذي أخضعته بالقوة والقهر كما يفعل النظام تماما.

مشكلة التسميات الخاطئة أنها تشوش الوعي وتضلل الغير خاصة الأجانب ، فعندما نسمي عصابة الأشرار الحاكمة بالنظام .. يتوارد تلقائيا لذهن الأجنبي نقيض النظام وهو الفوضى … لذلك يصرون على بقاء النظام وعدم تقويضه ، لأن تقويضه يعني تعميم الفوضى … لكن ماذا لو كان هذا النظام ليس نظاما بل فوضى كاملة وشريعة غاب ، وأداة لتقويض أي اجتماع انساني سياسي حضاري؟؟؟ :

يوصف النظام السوري بالغريب والعجيب ، فعندما جاءت مجموعة خبراء اقتصاديين لدراسة حالة الاقتصاد واقتراح الوسائل الناجعة لمعالجة مشاكله ، وجدوا أنه نظام لا تنطبق عليه أي من المعايير العلمية والخبرات العملية التي تعلموها ،فسعر حديد البناء مثلا يتغير ويتبدل ، ليس تبعا لأسعاره الخارجية ولا للرسوم والجمارك ، بل يضاف عليه تبدل أسعار التهريب الذي كان في فترة من الفترات الوسيلة الوحيدة لاستيراده ، وهكذا كان يتقلب هذا السعر تبعا لسعر فتح الطريق المرتبط بالضابط المكلف بمراقبة الحدود ، وتبعا لبعد وقرب منطقة الاستهلاك عن الحدود ، وتبعا لسعر الشعير والتبن الضروري للبغال التي تنقله عبر الجبال … وهكذا فشلت محاولات الأسد الإبن بالتطوير والتحديث ، لأنه يرْكب نظاما لا يسير على قوانين ونظم طبيعية معروفة ، بل مصمم عجائبيا تبعا لمصالح ونزوات عصابة قوننت سرقاتها وسرقت قانونها واستخدمته للتشبيح ، فإذا طور القوانين لا شيء يتغير .

هذا قبل الثورة … أما بعدها فما يحدث أصبح أكثر غرائبية وعجائبية : أسعار مرتفعة جدا ولا علاقة لها بالتكلفة بل بتسعيرة ادخالها عبر الحواجز وسياسة توزيعها ، فكل سوريا محاصرة بنظم جمارك متباينة ، وللسلعة سعر مختلف باختلاف درجة الولاء وبحسب من يسيطر على المكان… الأعمال شبه متوقفة ، والدخل متدني وغالبا معدوم ، لا علاقة للأجر بتكلفة المعيشة ، ولا بالجهد المبذول ، والرواتب الحقيقية تدفع خارج نظام الرواتب المعروف … النشاطات الاقتصادية المعتادة متوقفة بينما تعمل منشآت جديدة طارئة بشكل استثنائي تبعا للحاجات الطارئة وتبعا لشراكاتها مع الحواجز والقوى التي تتحكم بأمن المنطقة ، أما نظام نقل وتبادل العملة فهو مستور وبشبكات خاصة وعمولات خاصة حسب مصدر المال ودرجة خطورة نقله ( من الخارج أو من الداخل ، بالعملة الصعبة أم بالمحلية ، وبحسب خطورة الجهة التي تأتي منها أو تذهب اليها ونوع آيديولوجياتها : موالية ، تشبيح ، محايد ، معارضة ، متطرف ، ارهاب )

غريزة البقاء هي الوحيدة التي تتحكم بالبشر : لا نقل ولا طاقة ولا خدمات ، خطف و اعتقالات ، حواجز ، اعدامات ، قصف ، جوع ، حصار ، قنص … الفقير جائع بردان مرعوب هائم أصبحت حياته تقتصر على الغريزة ، والغني صار فقيرا وصارت حياته أيضا تتبع الغريزة ، لم يعد يشعر بالغنى ولم يعد أحد يتوقع المساعدة من أحد … لسان حالهم جميعا ربي أسألك نفسي ۔( وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) ولسان حالهم هلك سعد انج سعيد ، ليس هناك تسامح في موضوع الخبز ، أو الوقود ، وليس هناك أمل أبعد من الحاجز القادم ، وكل شيء متوقف على مزاج العسكري والضابط ، فقد تخسر على أي حاجز كل ما تحمل ، وقد تخسر حريتك أو حياتك حتى لو لم تخرج من البيت … و في كل لحظة وكل مرحلة هناك مواجهة مباشرة مع كل الاحتمالات وأولها الموت المجاني ، هذا التوتر المستمر يدمر كل ما هو فوق غريزة البقاء ،مناظر القتل والأشلاء يومية وعادية ، جثث الناس تعامل كأي قمامة ، حياتهم ممتلكاتهم أجسادهم وقتهم كرامتهم ، كلها مستباحة للجميع ولمن شاء .

الحيوانات الشاردة ماتت من الجوع بسبب البشر الشاردة التي أخذت رزقها ، التسول هو الوسيلة الوحيدة لمن انقطعت به السبل أو تقدم به العمر وفقد المعين ، البيوت والممتلكات مهجورة ومستباحة والعربات التي يجرها البشر والطنابر ( بسبب غلاء الوقود ) تتنقل بينها باحثة عما تسرقه منها ، لكن لا توجد سيولة للبيع فسوق الحرامية الذي كان عند جسر شارع الثورة والذي انتقل للمحلق الجنوبي صار يغطي كل سوريا ، ونشأت أيضا أسواق السنة التي تبيع المفروشات والممتلكات المسروقة من قبل عافش وغيره ، لكن من يملك المال ليشرتي ؟؟؟

المال اليوم هو ما يبقيك حيا ، والحصول على المال ليس بالعمل ، بل بالتسول من الداخل أو الخارج ، أو بالخدمة عند العصابات النظامية والحرة التي بسبب فقرها أيضا صارت تشبح في مناطقها ، كما نشأت هناك شبكات تعاون بين شبيحة النظام وشبيحة الحر وصارت غريزة البقاء تحكمهم وليس الانتماء السياسي ، فالجوع أقوى من الأيديولوجيا ، وبسبب المصالحات صار الانتقال من حاجز الحر لحاجز النظام سهلا وبالعكس أيضا بسبب خلافات النظام وصراعاته … التجنيد الإلزامي لم يعد مجديا ، بل صار التجنيد الطوعي هو السائد مستغلا الجوع ، وهذا لا يخضع لأي معيار … فبسبب الجوع تتجند عند مجموعة شبيحة أو حر أو داعش لافرق ، فقط تنفذ ما يطلب منك دون تفكير وبمقابل راتب ، لذلك ترى يافعين وصغار وفتيات يشاركون في مهمات عسكرية وأمنية التي أصبحت تعتمد أساسا على مرتزقة . حتى الخدمات الطبية للنظام لم تعد تعمل من دون الرشوة :التموين بالذخيرة والامداد الجوي والمدفعي أصبح بثمن ، وفي الطرف الثاني يمكنك تشكيل عصابة خاصة بك ، أو أن تنضم لمجموعة عصبوية ، وهناك متعهدين لعمليات الجيش الحر وبثمن أيضا ،مقايضة الذخيرة بالخبز والدخان صارت تشبه لعبة تبادل أوراق البوكيمون بين طلاب المدارس !!

لولا تدفق المساعدات الانسانية من الخارج لهلك نصف الشعب السوري ، والتي توزع بطريقة غريبة وعجيبة ، عصابات تنظم لك كل شيء حتى تهريب أبنائك من الخدمة العسكرية، وتسفيرهم وأيضا تهريبهم لأوروبا … خدمات تسويق المخدرات للمنازل متوفرة وعلنا، على الحواجز هناك سوبر ماركت يبيعك ما تريد حتى اللحم الأبيض . البنات المزينات يتجمهرن عند الجنود المتوحشين ينتظرون الحصول على أي منافع مقابل جسدهم … الاتجار قائم بكل شيء حتى بالأطفال المخطوفة وبالمعلومات عن السجناء ، كل شيء متوقف ما عدا الانترنت كوسيلة وحيدة لبقاء التواصل ، شحن الموبايلات يتم بمولدات على الجهد العضلي … باختصار دولة فاشلة ومعارضة فلتانة و أسر تتفكك أبناء تضيع ووطن يحتضر .

نساء ينتظرون خبرا عن أولادهم المفقودين أو المعتقلين ، شبان يعيشون في القفر وعلى الجبهات بلا مأوى ولا غذاء غير ما يحصلون عليه من الغزو والسطو … رجال قابعون تحت الأغطية تقية البرد لا يملكون إلا أن يقرأووا في القران الكريم عل الله يغير من حالهم ، وعمال يبحثون عما يمكن حرقه من حطب وعلب وقمامة ليبيعونه … مشردين هنا وهناك ومحاصرين في كل مكان يموتون من الجوع والبرد والقصف ، نظام يحاول تهجير وتشريد وتدمير حياة أكبر عدد من السكان بعد أن فقد القدرة على السيطرة عليهم ، مراكب تغرق في البحار، ومعارضة سياحية ضربها الفساد ، ومقاتلين ثاروا على العصابة فصاروا ارهابيين …

يتحدثون عن بقاء النظام ( أي نظام !!!) بالأصل لا يوجد نظام

يتحدثون عن بقاء قاعدة النظام ومؤسساته ( أي قاعدة وأي مؤسسات !!!) هي قاعدة تشبيحية يحكمها نظام الغابة والعصابة ، ولغت في دماء وأعراض وممتلكات الناس .

يبحثون عن معارضة معتدلة (فلا توجد الا في ذهن ومخيلة المهلوسين )

يسألون أين الشعب السوري ؟ نقول أصبح بين محاصر مسلوب أسير ، ولاجئ لاحول له ولاقوة ، ولم يعد هذا الشعب قادر على تشكيل أي حالة اقتصادية سياسية .

باختصار ما يحصل هو قتل جماعي للوطن والدولة ، ولأنه يحدث على أيدي السوريين أنفسهم ، فهو انتحار جماعي وحرب أهلية بنظر الأجنبي … وفشل للدولة والاجتماع السياسي الحضري … ولا يعتبر أي أجنبي أنه مسؤول عما يحدث ، أو عليه واجب تجاهه … وقد فقد تعاطفه الإنساني خاصة بعد أفلام الإرهاب التي وجهت إليه .

لذلك اعادة بناء سوريا تتطلب تقويض كل ماهو قائم :مؤسساتي وقيمي (هارد وير وسوفت وير معا )، ثم اعادة بنائه من جديد وهذا هو الشيء الوحيد الذي يعيد الاجتماع الانساني لسوريا . وبانتظار ذلك سوف تستمر عمليات الهدم والتفكك بكل الوسائل والطرق حتى يأذن الله ۔ فالحل في سوريا ليس حلا سياسيا بين كيانين ونظامين ( ارهابيين متوحشين ) ، بل هو عملية تفكيك واعادة تركيب جذرية وشاملة لكلا الطرفين ، ولكل شيء من الثقافة والاقتصاد والاجتماع وصولا للسياسة ونظام الدولة .

والثورة مستمرة في مرحلة التحطيم ، حتى استكمال هدم كل شيء قائم وخاصة النظام وكل نظام ، واسقاط كل الأنظمة العصبوية المتوحشة للنظام و المعارضة أيضا… لتبدأ بعدها مرحلة البناء .

ولاختصار الطريق يجب البدء في انشاء جسد سياسي وطني جديد انتقالي ، وتأمين مناطق آمنة يستعيد فيها المجتمع حياته الاقتصادية لتباشر هذه السلطة السياسية الجديدة عملها ضمنه وبالتوافق معه … ثم التوسع نحو بقية المناطق التي تنتظر هكذا مخلص …

وهذا لن يتم من خلال المصالحة بين السلطة المجرمة والمعارضة الفاسدة المتطرفة ، بل من خارجهما كليهما ، لأنهم لن يتفقوا أو يختلفوا إلا على باطل . و هذا لن يتم تلقائيا من دون مساعدة دولية خاصة في المنظور من الأيام والسنوات . فالذي يبحث عن حل عليه أن يبدأ من المكان الصحيح وبطريقة صحيحة … وأغلب الشعب ينتظر هكذا مسعى … قلنا ونكرر منطقة آمنة في الشمال برعاية تركية ومنطقة في الجنوب برعاية أردنية وعربية ، وسلطة انتقالية محلية قضائية سياسية قادرة وفعالة . وغير ذلك مجرد طهي للحصى .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.