الرافعات السياسية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يبدو أن مصير الدول الضعيفة مرهون بإرادة الغير ، فالنظام السوري استعان مبكرا بالرافعة الإيرانية التي سيطرت عليه ، والمعارضة السورية استعانت برافعات أخرى استولت عليها هي الأخرى …. وهكذا كانت حصيلة أربع سنوات من الثورة السورية هي موت سوريا الأسد (سوريا النظام ) وضياع المناطق المحررة من يد الشعب السوري واستيلاء قوى متطرفة عليها ، وتشرد الشعب وتمزق العقد الوطني وخراب الدولة والوطن … فقد كانت نتيجة تدخل هذه الرافعات المختلفة والمتنازعة هو قتل سوريا كدولة مكونة من أرض وشعب وسلطة موحدة.

فما هي هذه الرافعات الاقليمية التي ساندت المعارضة ، وماذا كان دورها …

نضيف هنا مصطلحا جديدا لقاموس السياسة، اعتمادا على تجربتنا في الثورة السورية وعملنا في صفوف المعارضة ، فمن هو معايش للحياة السياسية للمعارضة يدرك أن هناك الكثير من الأشخاص يقفزون فجأة للصف الأول ويجتازون مراحل تحتاج عادة لعقود وسجون وثقافة وخبرة، ولكنهم من دونها جميعا يقفزون من الصفر التقريبي الذي يكتب ثلاثة أصفار فوق بعضهم ، إلى الرقم الأول الذي يوضع على يمينه ويساره عدد كبير من الأصفار … فكيف يتم ذلك ومن يقوم به … سنحدد هذا المفهوم السهل نظريا من خلال عرض نماذج عملية عايشناها ، وهذا العمل لا يجب أن يعتبر تجريحا بأحد لأن العمل السياسي عمل عام يؤثر بمصالح الجميع ، وبالتالي يجب أن يبقى عرضة للنقد والتقييم من قبل العامة ، لكي يتمكن أي شعب من تطوير حياته السياسية وتجاوز أخطائه … فالسياسة ليست غرفة نوم خاصة من المعيب دخولها… إنها شارع متاح للعامة وهذا هو شرطها ، أما من يعتبرها عالما خاصا مغلقا مغلفا بالأسرار فهو من أتباع الطريقة الماسونية أو مذهب التقية لا فرق ، لكنه في كل الحالات يوحي أنه يمارس شيئا خسيسا يريد أن يخفيه لأن كشفه بمثابة فضيحة ، لذلك يعتبر الشفافية التي هي الجزء الأهم في الديمقراطية عدوانا شخصيا عليه وعلى حزبه السري ( عصابته) .

لقد التزمت منذ بداية عملي السياسي بمحاربة الاستبداد والفساد والتعتيم والقمع الذي يخدمهما مستخدما الكلمة والموقف ، وعاهدت الناس على الشفافية وفضح الخطأ ، وعلى الصدق معهم ، وقد ترتب على هذا أن أكون صديقا حميما وضروريا لكل من يقف في موقع المعارض بل أمامه عندما يكون هناك دفع وتضحية وخسائر، ثم بعد ذلك مباشرة أخسر أغلب أصدقائي ورفاقي ( إلا من رحم ربي ) عندما يصبحون في موقع المسؤولية . فهم يصفونني بالصلب وبالمعارض العنيد عندما نعمل معا في مواجهة المتغطرس ، ثم فجأة يصفونني بالمزاجي والمتقلب، عندما يصبحون في موقع المسؤولية ويقومون بتكرار أفعاله وتقليده ، فهم وبحسب فهمهم للسياسة لا يفهمون أن صداقتي معهم كانت مبنية على موقعهم وليست على شخوصهم ، وأن معارضتي لا تهدف لتبديل الأشخاص بل تغيير النظم … ويتهمونني بتفريق صفوف المعارضة لأنني لا أسمح لهم بالتوافق على ضلال وخسة وتستر مشترك وتقاسم الكعكة سرا . و يخشون كثيرا من سلاح فتاك هو قول الكلمة الحرة التي فتحت أمامها وسائل التواصل الهائلة ، و من شجاعة الاعلان عما يفعلوه سرا … وهذا السلاح وهذه المبادئ أعتبرها ضرورية جدا في عملية تغيير نظام الحياة السياسية التي أنتجت نظام الأسد وأمثاله في معارضته التي لا تعارض منهجه بل شخصه وتقوم بتكرار أفعاله .

ما نقصده بالرافعة السياسية ليس القاعدة الاجتماعية التي ترفع السياسي في النظم الديمقراطية ، بل هي الأدوات الخفية التي تعمل في غيابها ومن دونها لإنتاج زعامة ما ، عندما تعمل أيدي خفية عملا متناسقا في أكثر من مجال على تحضير وتهيئة شخص لشغل منصب لتحقيق هدف ما من خلاله، عندما يصبح هو صاحب القرار شكلا بينما مضمونا يبقى هذا القرار بيد من شغله واستأجره … وعادة لا يستأجر القوي الأمين ، بل الرخيص الضعيف المرتكب المطيع ، الذي يفضل مصالحه الخاصة على قيمه وواجباته ويقبل خيانة الأمانة والقسم الذي يقسمه عندما يتولى المسؤولية تجاه من يصبحون تحت سلطته ، والذين تحرمهم الرافعات السياسية القوية من تنصيب من يريدون ويثقون به بالتجربة والخبرة … فركوب الرافعات هي طريق سهل لكل انتهازي ومتسلق ، وهي أيضا وسيلة لسرقة المناصب والسلطة من صاحبها الحقيقي، وهي شكل من أشكال الاستبداد أو الاستعمار وباب للخيانة إن كانت بأيد خارجية …

يبدأ عمل الرافعات بالانتقاء من سلة المعروض والمتاح للبحث عن الشخصية المناسبة المضمونة الولاء ، وهذا لا يكون تبعا لقدرات الشخص، فذلك غير مطلوب أصلا لأن الجهة الرافعة هي التي تشتغل بينما هو سيكون مجرد واجهة ، فعدم امتلاكه لرؤية وقناعة و عدم ارتباطه بالناس هو شرط أولي لازم ، فيستبعد تلقائيا كل ذو موقف وخبرة ووطنية وأمانة .. فالتجربة العملية في هذا المجال تؤكد حتمية تمرد أي شخص له موقف ورؤية وقناعة عندما يمتلك السلطة والشهرة. لذلك فأول المحرمات هو اعتماد هذا النوع من الشخصيات، الذي لا يمكن أن يظهر في ساحة القيادة إلا إذا كانت الحياة السياسية ديمقراطية فعلا ، وكان الاعلام نزيها، ولا يستخدم المال السياسي ، وكان القرار للشعب ، ولهذا السبب تصطدم أي دعوة لوضع معايير شخصية ، أو آليات ديمقراطية للتمثيل بجدار من الصمت والتجاهل والمنع دوما . فهي تعني نهاية النفوذ والتدخلات ، فمن حيث المبدأ يعتبر هذا الباب كافيا لفرز مدمر حيث يصعد الخفيف ويطرد الثقيل ، ويستبعد الوطني ، ويستعمل الوكيل … وهل تاريخ المعارضة السورية غير هذا ، دائما وأبدا يتم اخيار شخصيات كرتونية هزيلة منفصلة تماما عن الشعب وعن الواقع ومن دون خبرة ولا تاريخ سياسي في كل مفاصل المعارضة وقياداتها ، وتمنع كل آلية تمثيل حقيقية لقوى الثورة والمجتمع وتستبدل باعتماد مجالس معينة من قبل الأوصياء أصحاب الرافعات …. هل هذا برأيكم حدث صدفة طيلة اربع سنوات !…

ثانيا مرحلة التحضير ويتم خلالها ربط مصالح الشخص بمجموعة عوامل يمسكون بها … ثم أخذ مستمسكات خطيرة عليه تضعه تحت التهديد ، فالفقر والعوز والطمع والتكتم والأنانية والارتكاب، هي مواصفات مطلوبة للنجاح في امتحان التوظيف عند الرافعات .

ثم تبدأ مرحلة الإخراج وهي تشمل التلميع الاعلامي والتواصل الديبلوماسي الرفيع ، وشراء المطبلين والمزمرين ، ورشرشة القنبس حوله وحواليه ليحيط نفسه بهالة تبعد عنه كل مخلص وصادق وعفيف وكريم وناصح ، وتجعله فوق أي نقد وتجند حوله حشد من المداحين ، وجيش من الشتامين لكل من يخالفه أو ينتقده …

المرحلة الرابعة هي وضعه في المكان الذي سيقفز منه للمنصب وترتيب آليات فوزه به من خلال التحكم المسبق بقرارات أعضاء الهيئة التمثيلية أو شراءها في حينه … كما يحصل في الإتلاف ، حيث يوجد عدد كبير من الوكلاء المدعمين بعدد من التبع الذين يصوتون حسب التوجيهات ، وتتوفر عدد من الأصوات معروضة للبيع دوما في سوق المزاد تشترى عند الحاجة … ومن يشغل الرافعات يحرص على وجود هكذا مجالس تسهل عمله .. ويمنع أي اصلاح جدي فيها ، من حيث آلية الاختيار ومعاييره وتجديده ، أو النظام الداخلي .

المرحلة الخامسة تشغيله وتسييره والدفاع عنه ، وسحب القرارات اللازمة منه والتي تمرر أيضا بالتدليس والخسة وشراء الضمائر والتزييف والخداع …

المرحلة السادسة رميه عندما تنتهي المنفعة منه … والتخلص منه دفنا للسر ، ليلقى مصير أي قمامة .

من أهم رافعات المعارضة السورية وسبب مصائبها في ذات الوقت هي الرافعات الخليجية التي تعتمد أساسا على المال، فهي تعطي المال لوكيلها وتجلس تتفرج عليه ،لأنها لا تملك المؤسسة الإدارية التي يجب أن تشغله كغيرها من الرافعات الدولية التي تستخدمه كغطاء شكلي فقط لأنها تعرف أنه تافه وتختاره لهذا السبب . لكن الرافعات الخليجية تعطيه المال ولا تساعده ، فيشتري الذمم والمنصب ثم يفشل في كل المهام الموكلة إليه حتى التي تخدم الرافعة ذاتها ، وهذا ما حصل مع زعامات الإخوان بالرافعة القطرية ، ومع الجربا وشتله بالرافعة السعودية . فلا قطر ولا السعودية لديهم مكتب أو فريق عمل قادر على تسيير الملف السوري حتى لتحقيق مصالحهم كدول ( لأنهم يعتمدون نظام البداوة بدل المؤسسات ) … فغياب المؤسسة ، والتعويض عنها بزيادة المال ، هي مواصفات الرافعات الخليجية ، وهي من أفسدت الثورة بإفساد أخلاقها وتحويلها لثورة تسول وارتزاق ، وبتدمير مؤسساتها وتحويلها لمراتع الفشل وورشات للتخريب . وبالتالي هي من تتحمل المسؤولية الأساسية عما آلت إليه حالها، فالشعب لم يقصر في التضحيات ، لكن النقص الحاسم كان في الإدارة والتنظيم والتحكم والقيادة، الذي سببه الاتكال على المرفوعين برافعات قطر والسعودية، الدولتان اللتان ستدفعان الكثير الكثير في النهاية ثمن ما اقترفت أيدهما، عبر تمدد الإيراني وتمدد التطرف الذين حدثا بسبب اضعاف الثورة وتفشيلها عن سوء نية أو جهل ، فلكل امرئ ما نوى ومكر السوء يحيط بصاحبه .

الفارق البسيط بين المرفوع برافعة وبين المرتفع بعمله … أن دور ووجود المرفوع ينتهي تماما بمجرد عزله من منصبه وتخلي الرافعة عنه ، بينما لا يتأثر كثيرا من يفقد منصبا إذا كان يتملك القدرات ، فالحياة السياسية ليس فقط ممارسة السلطة ، بل معارضتها وصنعها من جديد ، أي العمل الفكري والثقافي والبحثي والتحليلي مع الرأي العام وفي مؤسسات المجتمع ، وهي متاحة لكنها لا تعطي الميزات التي تمكن المسؤول فيها من الاختلاس والرشوة وتحقيق المنافع الأنانية ، فالعطاء السياسي متاح للجميع ، لكن المكسب الشخصي المأمول من ورائه غير متوفر إلا لأصحاب المناصب في النظم الفاسدة … لنتذكر بهذا الصدد بعض الأسماء الفارغة التي انتهت للصفر بمجرد انتهاء ولايتها ، ولنتذكر أن الذي يبقى بعد التخلي عن المنصب هو السياسي الحقيقي … فالكراسي هي من تصنع الحثالة وتجعل منهم سياسيين ، بينما هي من تقيد السياسي الحقيقي الذي يضيق بإكراهاتها ذرعا .

أول المرفوعين برافعة في قيادة المعارضة السورية هو برهان غليون الذي استدعي على عجل لحضور مؤتمر الإخوان في بروكسل ، والذي لم يسبق أن أعلن أنه معارض بل عرف نفسه كمثقف ، وبقي تحت سقف هيئة التنسيق يرفض أي تدخل لإسقاط الأسد أو تسليح للشعب حتى وهو يرأس المجلس الوطني .. والمثال الصارخ هنا هو فيلم العبور للداخل الذي صورته و بثته قناة الجزيرة بطريقة تلميعية فاقعة ، جعلت من دخوله بطلا للعبور بينما يعيش ملايين الشعب السوري تحت رحمة همجية النظام ، كذلك تغطية النفقات الهائلة لتنقلاته ولقاءاته وقيادته للثورة من الفنادق ومقاعد البزنس في الطائرات ، وعندما واجهته شخصيا بالحقائق المرة بعد خروجي من سوريا في تونس ربيع عام 2012 قال لي بالحرف أنه بمثابة وزير خارجية ( يقصد سياحة ) ومن يريد القيادة فليعود للداخل … ؟ وبذلك دشن طريقة جديدة في السياسة والقيادة من خلال السياحة ، وأصبحت نموذجا معتمدا في المعارضة السورية حتى الآن يقع عليه إثمها …

ثم تلاه دعم تيار عماد الرشيد ليبيا ومن وراءه أمريكيا ، والذي توقف فجأة بقرار لا نعرف حتى الآن أسبابه ، ثم تلاه جورج صبرة وعبد الباسط سيدا وبقية زعماء المجلس الوطني العشرة المبشرين بالجنة الذين حصلوا على كل التسهيلات والدعم بما فيها الجنسية من الرافعة التي تشغلهم والتي حرصت على نقلهم جميعا للهيمنة على الائتلاف وما يزالون ، يتلقون الرواتب والأوامر منها .

وبعد ذلك جاء دور معاذ الخطيب الذي تفاجأ عندما وجد نفسه مرشحا وحيدا لرئاسة الائتلاف الذي يضم عددا هائلا من ديوك السياسة ، صمتوا جميعا عن الصياح وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح ، عندما اشتغل توافق الرافعات برعاية أمريكية وبزيت قطري ( وقد اختير شخصيا من أجل التفاوض مع النظام فيما بعد ، وهو ما أعلن عنه في مبادرته الشهيرة ) …  و معه جرى رفع مصطفى الصباغ كلاعب حديث وطارئ غير معروف سابقا ، وتحول بفضل الدعم المالي للاعب مهم عندما فصّل النظام الداخلي للإتلاف بحيث يضع كل الصلاحيات بيد الأمين العام الذي سينتخب له ، ويمنع تعديله من دون الحصول على أغلبية الثلثين المستحيلة لأن الرافعة تملك أكثر من النصف … وللحق فإن صعود معاذ هو نموذجي لعمل هذه الرافعات ، يكفي عدد الوكالات الاعلامية التي كانت تحضر مؤتمره الصحفي لتعرفت أنها تفوق أي زعيم عالمي ، ولو عرفت الدور الذي كان يحضر له ، لفهمت لماذا حدث هذا ، فهم يريدون شخصية دينية دمشقية وسيمة ومن دون تاريخ سياسي لكي يكرسوه زعيما شعبيا يسوق في اللحظة المناسبة فكرة الحوار مع النظام التي توافق عليها الروس والأمريكان ودعمها ومولها وما يزال مجموعة تجار دمشق الذين دعموا وثبتوا حافظ ثم ولده … والتي يعرفون أن الشعب يرفضها لذلك يجب الاحتيال عليه وخداعه لتمريرها .

ثم جرى تلميع مناف طلاس ليكون بمثابة القائد العسكري الأعلى للجيش الحر … وفيلم انشقاقه بالتزامن مع مؤتمر باريس ، ولقاءاته الرفيعة وجولته على زعماء الدول بمجرد خروجه وتغطية العربية التلميعية له هي من جعل الشعب يرفع شعار ( العربية أن تغسل أكثر ) ،

ثم جاء دور تلميع ريما ورزان وسهير ، والشخصيات النسائية التي حظيت برعاية فرنسية مميزة لزوم الديكور الفرنسي عن ثورة حداثية علمانية … ، وبعد ذلك جاء دور ميشيل الذي كان متفرجا فتبنته السعودية لمواجهة تيار الإخوان والنفوذ القطري التركي ، وقد حظي ميشيل بدعم أكثر من رافعة لدرجة ظن أنه هو الثورة ولا قرار إلا عن طريقه … لكن السعودية ووضعت أمامه أحمد الجربا… فقام أحمد باستخدام ميشيل واستثمره جيدا حتى فقد بالتالي ميشيل صبره عليه ودارت بينهما حرب طاحنة انتهت بانتقال ميشيل للرافعة القطرية كليا وتحالفه مع الإخوان الذين صعد على سلم الخلاف معهم بالرافعة السعودية، بينما فقد الجربا تباعا الفريق الذي ساعده على البروز … وتحولت قناة العربية لقناة تتفوق على قناة الدنيا في الرخص الدعائي المكشوف والممج خدمة للرافعة السعودية وممثلها الجربا … لدرجة جعلت هذه الوجوه مكروهة أكثر من خلقة بشار بسبب دعايتها الرخيصة لهم . وللحق نقول أن الوحيد الذي استطاع تبديل الرافعة بمهارة هو ميشيل الذي ابتدأ صعوده بالحرب ضد الإخوان ، ثم انتهى للتحالف معهم ، في حين فشل برهان بالتخلي عن الدعم القطري ، واقناع السعودية بأنه رجل وسط أو توافقي .

أما روسيا وايران وحلفائهم من القومجيين المقاومين العرب ، فشكلوا هم أيضا رافعة لمعارضة سورية تخدم النظام … ومثالنا عليهم هيثم مناع المدعوم من المخابرات الإيرانية ، وحسن عبد العظيم المدعوم من المخابرات المصرية .

من يعرف كواليس محطات الاعلام يعرف بالقوائم السوداء والقوائم الذهبية … فالجزيرة مثلا منضبطة جدا في هذا الموضوع، وتعتمد قوائم تنظيم الإخوان المسلمين الذين يتحكمون بها ، ثم تعلمت منها العربية وفاقتها ، وهكذا حتى المحطات الأكثر احتراما مثل سكاي نيوز وفرانس 24 والبي بي سي … ومن يعرف آليات الحصول على التمويل والتسهيلات يعرف كيف يتيسر المال الوفير لشخص دون آخر . ومن يعرف آليات حجز اللقاءات والزيارات وترتيبها ، يعرف كيف تستخدم الديبلوماسية هذه لتلميع فلان أو فلان . لأنه لا يوجد ولا اجتماع واحد للمعارضة مع الأجنبي كان جديا أو ناقش قضية جدية … فالمدعو مفهوم أنه طرطور وأمي ولا يمثل شيئا ولا يعقل أن يقوموا هم بمناقشة الأبله الوكيل … فكل لقاءات المعارضة كانت بروتوكولية ودعائية وتخدم فقط هدف الاستعراض في الواجهات …

وعندما طرحت موضوع التوسعة في الائتلاف كنت أقصد احداث توازن في الرفع يصب في مصلحة الثورة ، ويكسر احتكار الرافعة القطرية التركية الفرنسية ، وكنت ألحظ تحركات هذه الرافعات التي كشفت الكثير من وكلائها ومن أدواتها عندما احتدم الصراع حيث تمركزت مجموعة رافعات في فندق شيراتون أتاكوي ، ومجموعة أخرى في فندق بولات … وحمي الوطيس بينهما ، وتداخلت الاتصالات ، حتى تدخل وزراء الخارجية مباشرة … وانتهت المعركة على ما انتهت عليه التوسعة من خلط للأوراق ودخول المزيد من الوكلاء وحملة المناشف من دون الشخصيات القوية التي استبعدت كليا … وانتهت بفوز حرج للرافعة السعودية . فدخل الائتلاف في مرحلة من الاستقطاب والانقسام ، ثم مرحلة من التفكك لدرجة أن الوكلاء صاروا يتصرفون من تلقاء أنفسهم بعد أن تراجعت قيمة الائتلاف ، مما افقد الأتراك صبرهم ، وجعلهم يلملمون هذا الجسد المتداعي من الوكلاء ، لكونهم قادمين على استحقاقات خطيرة تتعلق بالأمن القومي التركي ، لا تحتمل ولدنات أعضاء الائتلاف ، وهو ما ترجم أخيرا بفوز د خالد خوجة .

الرافعات كما وجدتها وصنفتها تنقسم بشكل أساسي لثلاثة ، وهذا لا يعني عدم تداخلها وتعاونها أحيانا ، فالرافعة الأولى قطرية ، وقد تحالفت مع تركيا وفرنسا وكانت على خصومة لفترة طويلة مع الرافعة السعودية الإماراتية البريطانية الأمريكية . وصراعهم على الأراضي السورية والمصرية والليبية يقلع العيون ، قبل التهدئة التي شهدتها الحرب بينهم مؤخرا ، وتحولها لحرب تدليس ومؤامرت وبالواسطة ، وفيما يخص المعارضة السورية دعمت هذه الرافعة بشكل أساسي حزب الإخوان مطعما ببعض الواجهات العلمانية الأقلوية ارضاء لفرنسا والتي شكل المجلس الوطني بواسطتها واشرافها . والذي كان نتيجته طغيان الطابع الاسلاموي والطائفي على الثورة . من خلال سياسة الدعم التي وجهت كلها عبر اقنية تنظيم الاخوان ، الذي عمل على افشال قيام أي مؤسسات وطنية .

الرافعة الثانية الهامة هي الرافعة السعودية الاماراتية المنسقة مع امريكا ، والتي صحت متأخرة على تقدم وتحكم قطر … وبدأت النضال للجمها وقد كنت ممن شكل لها فريقها وهندس خطط تقدمه في صعيد الإتلاف بعد الحصول على وعد بتقديم دعم جدي بالمال والسلاح والقرار لصالح الثورة السورية … وهو ما لم يتحقق أبدا . فسرعان ما جرى التلاعب بالأسماء واستبدلت بوكلاء وضعاف النفوس والطراطير ضمن تسوية أفضت لضم المتردية والمنطوحة والمعلولة لجسد الائتلاف بقيادة كيلو الجربا الذين قوضا كل هذا الزخم وأوصلا الائتلاف والثورة كلها إلى حالة فشل تامة ، مما سمح لداعش وأخواتها بالسيطرة على كل المناطق المحررة ، فموضوع خسارة الأرض كان بسبب وحيد هو نقص الإدارة والقيادة والتنسيق ، وليس الدعم لأنه لو قدم كل أنواع السلاح وكل المال من دون ادارة وسيطرة وتحكم ومحاسبة ، لاختلف الثوار وتقاتلوا عليه وباعوه أو سلموه ، بالأصل كان تقديم المال من دون مؤسسات هو أحد أهم عناصر افساد الثورة وافشالها ، ولو وجدت ضوابط وادارة للشأن المالي ثم للشأن العسكري والخدمي ، لما كانت هناك كل هذه المنظمات وأمراء الحرب . لذلك أعتبر أن الرافعة القطرية أدت لأسلمة الثورة ورفع شعارات الجهاد وغياب المؤسسات … واحداث قطيعة بين الأرض والقيادة ، وفتحت باب الفساد . واستكملتها الرافعة السعودية بتدمير كل ما كان قائما وتسليم هذه الأرض لداعش بسبب تسيبها وشللها وبخلها وفساد طرقها …

هناك رافعة ثالثة هي الروسية العربية المقاومة المتحالفة مع ايران ، عملت مع التيارات القومية ومع معارضة الداخل التي تعمل بإشراف النظام وتحكمه بالترغيب والتهديد … وهي اليوم في تصاعد ، وقد استطاعت اختراق الرافعتين وشراء ولاء الكثير من رموزها مستغلة عدم انتظام الدعم الخليجي الموسمي وبحسب المزاج .

هناك رافعات لا تخص دولا … بل مجموعات ونخب طبقية داخلية ومتجاوزة للحدود دولية ، وأهمها رافعة شبكة مخلوف أسد المرتبطة بشبكة من رجال الأعمال السوريين وغير السوريين والموزعين في دول العالم خاصة في النمسا ودبي ولندن ، والتي هندست مجموعة كبيرة من المنظمات والمعارضين المندسين الذين أغرقوا صفوف المعارضة ومنهم اليوم من يركب الباص لحوار النظام في موسكو وغيرها …

وهناك رافعة أخرى هي رافعة تجار دمشق التي تعمل من خلال الرافعات الثلاثة وبشكل مستقل معا ، فهي ليست على عداء مع أي نظام بل تريد وقف الفوضى التي تهدد ممتلكاتها ، وتحتضنها دولة اسبانيا والنمسا شكلا وهي ذات ارتباط وثيق بمصالح وأجهزة ومنظمات عالمية غير حكومية لكنها تصنع الحكومات … لكن عملها بطيء بسبب طبيعتها النخبوية التي تتناقض مع مرحلة الثورة . وبسبب بخلها الشديد بالمقارنة مع الرافعة النفطية والأهم منها الغازية ، فلم تعرف المعارضة السورية أكرم وأكثر سخاء من اليد القطرية، وهذا لا يعتبر دعما للثورة بل من وجهة نظر أخرى افسادا لها عندما يتم عن طريق غير مؤسساتي .

وهناك شبكات تمويل ودعم مختلفة عملت على تسويد أشخاص وتيارات سياسية وأيديولوجيات ، وأهمها شبكة تمويل جماعة الإخوان ( الإرشاد والدعوة ) التي وضعت مقدرات مالية كبيرة في خدمة الحزب ورموزه ومؤسساته العسكرية والاغاثية مثل هيئة حماية المدنيين ، والدروع …. والتي تسعى لأخونة الدولة السورية .

وكذلك شبكة تمويل التيار السلفي الوهابي الجهادي وفريقه الفقهي والاعلامي الجبار الذي غذى التطرف والتشدد ومهد الأرض لنشوء داعش .

وآخرها شبكة تمويل القاعدة التي تمتلك مصادر دعم هائلة ، ومتنوعة بما فيها دول مستترة تستخدمها لخدمة أغراضها …

هنا يتبادر سؤال عن الرافعة الصهيونية الماسونية … وهو سؤال محق وأساسي يجب الحديث عنه احتراما للذات وتبعا للمقدمة التي بنيت عليها … وبحسب خبرتي العملية ومتابعتي الجدية لهذا الموضوع أريد تثبيت النقاط التالية : لا يوجد لديهم خطة واضحة مفصلة المراحل ومحددة الشخصيات ، وما تزال كل الاحتمالات والسيناريوهات واردة وهم يتعاملون معها جميعا بطريقة انفعالية وليست فاعلة ، ولا يوجد فريق عمل متخصص قادر على هذا العمل ، فحجم الكادر الإداري لإدارة ملفات هذه القضايا يجب أن يكون كبيرا جدا ، وحجم موازنته وموارده تفوق قدرة اسرائيل ودولتها وحكومتها … فالحديث عن تحكم اسرائيلي باللعبة هو مجرد وهم ، لكن التدخل يتم في النقاط الأساسية والمفاصل ، وعادة عبر دول أخرى ، فإسرائيل تحرص على عدم الظهور وتكره جدا الاعلام والعمل العلني، لأن ذلك يحرجها ويجعلها مضطرة لتبني موقف علني مسؤول يحرمها حرية المناورة فهي تعتمد على اللعب بالعوامل وليس صناعتها ، ولا تريد تحمل مسؤولية أفعال المحسوبين عليها … ولا تريد لهم أن يخسروا بإعلان التحالف معها نظرا لحالة العداء ، وهي لا تملك الكثير من المعطيات والعوامل ولا الكوادر ولا التمويل ونفوذها عند الدول في تراجع دراماتيكي سريع … ونحن نبالغ جدا بقدرات وقوة اسرائيل وهذا يريحهم ، ويبرر فشلنا ، لذلك فالمصلحة في هذه المبالغة مشتركة … وهي تفهم تفاهة دور المعارضة ولا تستثمر فيها بل تركز ما لديها من قدرات على بناء شيء حقيقي مفيد على الأرض وبالداخل ، فحجم عملها هناك أكبر بكثير من وجودها في الواجهات السياسية التي لا تعيرها الاهتمام . والمتروكة أمريكيا للاعبين المحليين، وهو ما يفقدها خاصة الرافعة السياسية لأن نشاطها في الداخل هو أمني عسكري فقط . فالذي يراهن أو يريد ركب الرافعة السياسية الإسرائيلي ( وهم كثر أكثر مما نتخيل ) فليتفضل من دون إحراج لأنه لا توجد رافعة من أصلها صالحة للعمل في سوق التجارة السياسية السورية ، وباب الانتهازية مغلق في العلاقة معها فهي تأخذ أكثر بكثير مما تعطي ولا تزرع الأوهام ، وتفهم حالة العداء المستفحلة ولا تتوقع وجود أصدقاء في الطرف المقابل .

قد تملك اسرائيل قوة نارية ضخمة ، وقوة استخباراتية نوعية منظمة ، وكلمة مسموعة في بعض الدول ، لكنها أبدا عاجزة عن تغيير مسار شعب أو رأي عام ، حتى عرب ال 48 ، أو الضفة الغربية أو غزة . فما بالك بسوريا ومصر والعراق … في السابق أيام الانقلابات العسكرية كان يكفي تجنيد ضابط ومساعدته لكي يتم التحكم بالبلد كاملا .. لكن هذا العصر انتهى عمليا وأصبح كل نظام مجبرا على بناء شبكة من العلاقات والمصالح الداخلية حتى لو كان مستبدا وعميلا بشكل مطلق …

اسرائيل تفضل التواصل غير المباشر … و هناك من تساعدهم بعلمهم أو غالبا من دون علمهم ، خاصة في بداية الثورة ، في مجالات كثيرة منها ما يتعلق بفتح قنوات التواصل لهم مع الغرب وتزكيتهم عنده ( وهذا سلاح ذو حدين ، لأن الكثير من الدول الأوروبية تعلن حبها لإسرائيل وتبطن كراهية ) ، أو في تقديم العون التنظيمي ، من قبيل الحوار بين المكونات المجتمعية ، والتفاعل مع الأقليات ، والبرامج السياسية والدستورية ، والعدالة الانتقالية ، وخطة اليوم التالي ، ومسارات أخرى سياسية وثقافية هي من كانت وراءها وتهيئ لها الداعمين والراعين ، وأغلبها عبر تقديم التمويل من الكونغرس أو من مجموعات مالية أمريكية مرتبطة به … بهدف توجيه الثورة باتجاه الديمقراطية لأن اسرائيل تؤمن أن نمو المجتمع المدني سوف يلغي احتمال التطرف ويقوي فرص السلام …

في المنفى لا يمكن أن يتم أي نشاط سياسي من دون تمويل ضخم للانتقال والاجتماع . فكيف إذا كان هؤلاء لاجئين مشردين يعوون من الجوع … وهذا مختلف تماما عن الحياة السياسية الطبيعية التي تمول نفسها من مساهمات أعضائها الذين يعيشون ويعملون فوق أرض تجمعهم . ليست المسألة أن تقرر أنت وتبادر أنت …فهذا مستحيل تقريبا ، والممكن الوحيد هو البعبعة والفضح ، كون الرافعات تعتمد على التكتم والريش المنفوش وهذه نقطة ضعفها ، فإذا نتفت الريش يظهر الجسد الهزيل ، أي الممكن من الخارج هو فقط تخريب عمل الرافعات الذين اعترفوا بوكلائهم فقط (ممثلا شرعيا وحيدا للشعب السوري) ، الذي لا يعرفهم ولم يختارهم ولم ينتخبهم ، ويشتمهم ليل نهار … أما العمل الإيجابي البناء من الخارج والمهجر فهذا ضرب من الخيال … وكل من يتحرك من بيته يحتاج لممول ، وكل ممول له شروط وأي شروط … إنه الركب ودنلدلة القدمين ، ولا توجد في سوريا طبقة رجال أعمال وطنيين ، بسبب التشوه الكبير في البرجوازية السورية التي نشأت فقط وقت الانتداب ، ثم استولى عليها نظام التأميم ليستبدلها بطبقة منتفعين لصوص شركاء لهذا النظام حتى العظم وأداته في نهب واستغلال قطاعات الشعب التي لم تستطع الدولة استعبادها … وكل من يقول لي عن رأسمالي سوري نزيه أو نظيف في الداخل أو الخارج سيفاجأ بأن شيطان النظام كان قد ابتلعه وهضمه ، أو أن الجشع المالي لم يترك أحدا دون أن يلوثه بل يغرقه حتى الأذنين في مستنقع الفساد والمال الحرام …

وإذا كانت أدوات وموجهي الثورة هم هؤلاء فلا تتوقعوا إلا تجديد النظام بصيغة أسوأ بكثير ..

فالأساس في السياسة والاقتصاد هو القيم ، والحق والنزاهة والمسؤولية والمحاسبة . وهي كلها أشياء مفقودة تأسيسيا في مؤسسات الرافعات … وعليه لا يبدو هناك أي أمل جدي قبل تدمير كافة هذه البنى واعادة البناء من الصفر وبشرط ابعادها تماما عن السياسة والاقتصاد والوطن … وهي مسؤولية داعش والنصرة التي تكفلت بتدمير كل شيء وتنظيف الأرض وحراثتها . لكي يمكن بعدها اعادة بناء المجتمع بطرق جديدة ، من دونها هي أيضا . لأن الدول ستضطر لمحاربتها .

في مقال سابق كنت أحاول تمرير فكرة بسيطة هي النزاهة المالية … وهذه الفكرة هي التي ستجعل كل السياسيين وأعضاء الائتلاف يرفضون أو يتجاهلون أي عملية إصلاح فهم يفهمون الإصلاح كما يفهمه بشار وهو اصلاح جيوبهم … أما تباكيهم ودموعهم على الثورة فما هي إلا دموع تماسيح .

نفهم أن المسافة التي تفصلنا عن الديمقراطية التي هي هدف مباشر للثورة مسافة طويلة وأن الطريق نحوها متعرج ، وأننا ما نزال في مرحلة التفكيك والتجريب ، والتي نحاول من خلالها انضاج القيم والمعايير من خلال التجربة المريرة ، وعندما ننجح في شرحها وتوضيحها وتصبح مقنعة بالدليل والتجربة المرة عندها نكون قد نجحنا في انضاج معايير الديمقراطية كثقافة . بعدها نتوقع أن يحرص كل من يعمل في البناء على مراعاتها خوفا من وجع تكرار المصائب التي حلت بنا عندما افتقدناها … فالعمل اليوم ليس إصلاح ما هو فاسد ومعطوب من أساسه . بل انضاج الوعي بهذا العطب والخلل مع استكمال الهدم ، وصولا للأرض التي سوف يأتي اليوم الذي نبني عليها من جديد ما دمرناه وقوضناه ويحتاج بناؤه لوجود ثقافة جديدة تنتجها مرارة التجربة … هذه هي طريقة تقدم الشعوب التي لا تتعلم من الدروس النظرية ولا من النظريات والخطابات ، بل من خبرتها العملية وقصص معاناتها التي تدخل كل بيت وتسيطر على كل حديث ونقاش …

الديمقراطية لا يمكن أن تعمل كنظام للسياسة من دون ديمقراطيين مقتنعين بها ويدافعون عنها ويحترمون معاييرها ويعتبرونها ضمانتهم … أي من دون ثقافة الديمقراطية ذاتها والتي معيارها المؤسسة المنضبطة ، والتفويض الواضح ، والشفافية والمراقبة والمحاسبة والنزاهة وتسويد الصالح العام والاحتكام للشعب وتنظيم خلافاته وتبايناته ضمن اللعبة التداولية السلمية … فالحياة السياسية الحالية هي تسابق وتخاطف وحرب بين كلاب مسعورة جائعة للمال والمناصب التي تسخرها لمصالحها الخاصة وتستخدمها كمزارع … والموضوع ليس أن ننظم انتخابات ، ولا أن نغير أوراق أو نكتب وثائق ودساتير ، ولا أن نصدر بيانات بل أن نغير القيم والدوافع والمعايير التي تعمل حقيقة وفعليا في أنفسنا وتحكم علاقاتنا … ( لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ولا تتغير الأنفس بإلقاء العظات ولا سوق الناس بالعصا ولا بسرقة قرارهم وحريتهم … بل فقط عبر تغيير قناعاتهم الحقيقية التي لن تحدث من دون تجربة مرة ودرس قاس يشارك فيه غالبية الشعب … وهذا ما تقوم به الثورة … فينطبع عميقا في ذاكرة الشعوب ويورث ثقافة لأجياله … نحن نحمل ثقافة المزرعة والعشيرة والاستبداد والسلطنة بنوعيها الحديث الستاليني النازي ، والقديم السلطاني الخلافي الذي يستخدم الدين كأداة قهر وتطويع سياسي … ولم نفهم السياسة إلا كصراع وتصفية وقمع وقتل وسجن ، وتآمر وتدليس واستخدام نفوذ وسرقة وفساد وكذب … فماذا نتوقع من السياسيين غير هذا …

نعاني اليوم مرحلة من الانقسام بين رافعتين سعودية ورافعة تركية ، وبينما تستقيل ظاهرا قطر تحت الضغط السعودي ، تمسك تركيا عمليا بوكلاء قطر وتحاول إدارتهم وهم يشكلون ارثا ثقيلا عليها في زمن قد تضطر فيه لاتخاذ قرارات خطيرة … بينما الرافعة السعودية تسعى لسحب الاعتراف من الائتلاف التركي نحو جسدها الجديد بقيادة الجربا وتحت الرعاية المصرية وبالتنسيق مع هيئة التنسيق ، وذلك عبر تقديم المزيد من التنازلات المبدئية المطلوبة غربيا لتجميع قوى النظام والمعارضة معا في خندق واحد ضد ما يسمى قوى التطرف … وبذلك تحقق هدفين أولهما القضاء على فكرة الثورة والربيع والتغيير العربي الذي يهدد النظم ، ومحاربة التطرف الذي يهددها أيضا … بينما يخسر الشعب السوري قضيته كاملة ، ويتمتع الأسد الولد بحكم سوريا لعقود أخرى … لذلك نحن نعول على القيادة السعودية الجديدة ، والجهود التركية المبذولة لعودة التنسيق والتعاون الخليجي التركي … في تغيير هذا الوضع المأساوي .

ومع ذلك تبقى مشكلة الرافعات قائمة وتبقى شرعية السياسي تستمد من الغير وبغير طريقها الطبيعي … أي تمثيله وارتباطه وتفويضه الحر من قوى الأرض والشارع ، فهو سياسي بمقدار ما يحمل من أيديولوجيا لها شعبية ، وبمقدار ما يحصل على تفويض بالتمثيل .. وغير ذلك سنبقى نعاني من أزمة تمثيل وشرعية تتسبب في صراعات وفرقة وتنازع وأحيانا تجرنا للخيانة .

وفي النتيجة لن تعود سوريا التي عرفناها للحياة فما جرى أكبر من أي حل يمكنه اعادة الأمور للوراء … وسوريا الدولة الضعيفة المستبدة بعقدها الوطني التكاذبي الذي تأسست عليه يوم الاستقلال قد انتهت إلى غير رجعة … هذا ما أوصلتنا اليه الرافعات … والمرفوعين وسلامتكم وصحتكم بالدنيا …

ومن دون معجزة الهية تقلب هذه المعطيات لا أمل في الخلاص لأي من مكونات الشعب السوري قبل سنوات عجاف أخرى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.