يثب

ماذا يطبخ تجار الشام على نار جهنم

د. محمد كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

في الثمانين كاد نظام حافظ الأسد أن يسقط عندما أضربت المدن السورية كلها ، لكن زعامة تجار ومشايخ دمشق ( بأسمائهم المعروفة ) يومها رفضوا المشاركة في الإضراب العام ، ووقفوا مع النظام الذي استعاد السيطرة بالتدريج وقمع واعتقل ، ثم توج قمعه بسحق مدينة حماه ، وفرض نظاما من الخوف والفساد ثلاثين عاما بعدها . حتى اندلعت الثورة مرة أخرى ، والتي هي ثورة الحرية والكرامة ، وثورة المساواة أيضا، بالنظر لكون جل من نهضت على أكتافهم هم من الفقراء ، ولهذا يتركز القمع على أحيائهم وقراهم ، التي أصبحت رمادا بعد عين .

وتأخرت ثورة مدينة حلب بسبب بعض تجارها الذين ساندوا النظام ومولوا شبيحته ، بعكس تجار حمص مثلا ، واليوم تتكرر المحاولة من قبل بعض تجار دمشق لتقديم حبل النجاة لنظام الفساد والاستبداد ، بحجة الحوار ثم الحل السياسي الذي من شأنه أن يعطي للنظام الزمن الكافي (سنة ونصف) ، ليعيد بناء تحالفاته ، ويحصنها ، ويقمع الباقين تحت مسمى الإرهاب والتطرف ،أو ينفصل عنهم نهائيا في دولة مستقلة ، ومن يقوم بهذه المحاولة هم ذاتهم رموز ذات الشريحة الاجتماعية الاقتصادية ( فالآباء أنقذوا الأب المجرم ،والأبناء يحاولون انقاذ الابن الأكثر اجراما ) أقصد بعض تجار ومشايخ المدينة أصدقاء السلطة وشركائها .

عبر التاريخ الإسلامي السني ، تكرس حلف تقليدي غير نزيه بين التاجر والحاكم والشيخ ،فالمستبد يقمع والتاجر يربح والشيخ يلطف الصورة ويعطيها الشرعية والقدرية. تحالف قديم رسخ الاستبداد والتخلف والجهل والفقر طيلة قرون . بسبب جشع التاجر ، وطغيان الحاكم ، ونفاق الشيخ ، ولذلك يندر في التاريخ أن تدافع دمشق المحكومة من قبل هذا الثالوث غير المقدس ، عن أسوارها أمام أي من الغزاة ، بل كانت كرامتها وحريتها تأتيها من ريفها رمز العزة الذي يعيش حياة التقشف ولا يبخل بالمال والولد كلما اقتضت الضرورة ، ومن يعرف دمشق يميز بين الجواني والبراني ( داخل وخارج السور ) ويعرف تاريخ ونوعية كل حي أو قرية أو ضاحية . أو حتى عائلة . دمشق العريقة في التاريخ ، تحتوي كل المتباين وكل المختلف وتستوعبه فيها البطل والتقي والشهم وفيها الأناني والذاتي الذي لا يرى سوى مصلحته الخاصة ، وهي ليست على نمط واحد من الثقافة ، أو مكونة من طبقة اقتصادية واحدة منسجمة ، أو حتى ذات مرجعية دينية موحدة . ولكن لتاريخها السياسي طابع يكاد يوجد في كل المدن الاسلامية ، وإن كانت هي نموذجها ، محكوم بثالوث المستبد والتاجر والشيخ ، وهذا لا يعني عدم وجود نوع آخر من التجار الأخلاقيين أو من المشايخ المخلصين لله ، الذين دفعوا حريتهم وثروتهم بسبب ذلك . لكنهم ليسوا الطرف المهيمن في عصر الاستبداد الذي يفرض سلطته وثقافته .

والاستبداد الذي ترسخ في العقود الأخيرة بحافظ الأسد ثم بولده ، جاء مدعوما من ذات الشريحة ، وزرع سوريا بكل ألوان الفساد والإفساد وخرب الاقتصاد والانسان والقيم والوطن ، وحوله لمزرعة تشبيح ، وتكيف معه شريحة من المنتفعين السقط ، ومنهم وأهمهم اجتماعيا بعض التجار ، و بعض المشايخ الذين تلونوا بألوان النظام وشاركوه ، في حين أن أغلب من رفض هاجر إلى دول أخرى ، أو انتهى في السجون ، وعندما قامت الثورة ظن الكثيرون أنها سرعان ما ستنتهي بإسقاط النظام على الطريقة المصرية ، فاندفع البعض لركوبها بطبعه الانتهازي ، لكن مع طول المدة وارتفاع الثمن بسبب تشكل حلف دولي لإنقاذ النظام ، ونجاحه في تحويل الثورة لحرب اقليمية ، إلى حد ما ، عاد قسم منهم للتحالف معه ، ومحاولة انقاذه خاصة بعد أن هددت مصالحهم وثرواتهم وامتيازاتهم بشكل جدي ، وأصبحوا لا يثقون بالقادم الجديد . فتنادت هذه الزمرة للعمل بمساعدة روسية وايرانية ودولية لتجديد الحلف الطبقي الاقتصادي الذي يحمل النظام ويديمه حتى لو تغيرت رموزه . في محاولة متجددة لوأد الثورة السورية التي تبشر بتغير جذري في المنطقة .

وها نحن نحذر من خطورة محاولة مد حبل نجاة للنظام ، تحت أي مبرر ، ومن خطورة اعادة تشكيل حلف غير نزيه لتجديده ، مكون من رموز الفساد والثروة الملوثة ، وكل المنتفعين السابقين من النظام ، والمتضررين من الثورة ، والمدعوم من طابور خامس يفكر بطريقة غريزية ،لم يفهم ولا يريد الثورة ، ومن كل الخائفين من الخطاب والمظاهر المتطرفة والمتعصبة التي طغت على الثورة ، هذا الحلف كبير لدرجة قد تكون كافية لعزل الثوار ، واتهامهم بالتطرف والارهاب ، ومن ثم العمل على هزيمتهم عسكريا باسم الحكومة الانتقالية والحل السياسي وفرض الأمن ..   أي في النتيجة قتل الثورة و الحفاظ على النظام الطبقي القديم الذي يكرس فقر الريف وتبعيته واستغلال كل فئات المجتمع من قبل ذات ثالوث الشر. لكي يبقى الأسد رمز انتصار ايران وروسيا و عنوان هزيمة الثورة ، ونحذر من أن يلاقيهم في منتصف الطريق مشروع التحالف الإخواني الإيراني الذي تقوده مصر ، فنذهب نحو نوع جديد من الاستبداد ، المترافق مع هيمنة وغزو استيطاني يكرس ، بل يخلد ، خنوع وبؤس فقرائنا وريفنا الذين يشكلون الأغلبية . وبدل أن يكون انتصار الثورة السورية بوابة للتغيير في كل المنطقة ، تصبح هزيمتها بوابة للجمود والتخلف ولتكريس حالة الذل والتبعية والفقر والجهل للغالبية ، والتي هي متعة السلطة المطلقة المستبدة المالكة للثروة أيضا .

لهذا نحن في هذا السياق مضطرون لضخ شعارات جديدة وأهداف جديدة اقتصادية هذه المرة ، لهذه الثورة تتعلق بمحاسبة رموز الفساد والإثراء الفاسد ، وتعويض المتضررين وما أكثرهم من مال هؤلاء شركاء النظام . فالثورة لا تكتمل من دون تفكيك المنظمة الأمنية والاقتصادية التي قام عليها النظام البائد . واقامة العدالة الاجتماعية والاقتصادية ،

و نحن نطلب من كل شريف في دمشق وخاصة من تجارها إعلان موقف صريح وواضح من النظام والثورة ، وكذلك من جماعة الإخوان المسلمين اعلان موقف صريح وواضح من النظام الإيراني وقطع كل صلة معهم ، ومن الثوار الكف عن رفع الشعارات التي تثير مخاوف الكثيرين وتستفزهم ، والانغماس جميعا في ثورة الحرية والعدالة والحق ، الحق الذي وحده قادر على جمعنا ، وإلا فستكون حربا طويلة ليس فقط مع النظام ، بل بين مكونات المجتمع ، و بين طبقاته أيضا ، حرب مساواة وعدالة ، وليس فقط حرية وكرامة ، وفهمكم كفاية

(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.