حديث الثورة “طائفية يا روح”

أنا- محسوبكم وخدام الطيبين- لا أحبُّ الخطابات الإنشائية، والعاطفية، والتصريحات المُعَدَّة للتصدير، فهذه الأشياء تندرج تحت مفهوم الكذب والحذلقة. ولذلك يستحيل أن أبدأ كلامي بالقول، على طريقة أطفال طلائع البعث: ثورتنا ثورة حرية- لا عنصرية ولا طائفية!!..
النظام السوري، منذ بداية الثورة، كان منسجماً مع نفسه، وطبيعته، إذ تكرمتْ علينا نائبةُ بشار الأسد بثينة شعبان بتصريح ناري يتبنى الخطاب الطائفي، صراحةً، ثم عكست التهمةَ- كما هي العادة- على الآخرين، أي على الثوار.
الثوار، بالفعل، لم يكونوا- وقتئذٍ- طائفيين، وهتافاتهم ضد الطائفية كانت حقيقية، وصادقة، لسبب بسيط هو أن الجماهير لا تتعاطى السياسة، وأكثر ما يُزعجها دبلوماسيات السياسيين وتورياتهم وتكتيكاتهم.
لنعد قليلاً إلى الوراء، لنقول: استولى الجنرال حافظ الأسد على السلطة في السادس عشر من تشرين الثاني «نوفمبر» 1970 بانقلاب عسكري خسيس أطاح برفاقه جماعة 23 شباط «فبراير» 1966 الذين عُرف عنهم الزهدُ والتصوف بالفكر القومي والاشتراكي.
ومع أن اللواء صلاح جديد (العلوي) هو القائد الحقيقي لحركة شباط فقد احتفظ لنفسه بمنصب رئيس إدارة شؤون الضباط، فقط، ولم يندفع إلى رئاسة الجمهورية، وتركها للدكتور نور الدين الأتاسي (السني).. وأسندت وظائف أخرى مهمة لشخصيات من مختلف الطوائف..
وعلى الرغم من كثرة الضباط العلويين في الجيش السوري، تلك الأيام، وقيادة صلاح جديد، لا أن «الشباطيين» تجنبوا استخذام الطائفية، فهم كانوا يساريين قوميين، متبنين للقضية الفلسطينية، معادين- بالفعل وليس بالشعارات- لأمريكا وإسرائيل، ولدى أول امتحان جدي لتوجهاتهم أمر صلاح جديد (والأتاسي طبعاً) بتسيير قوات بريةً إلى شرقي الأردن للدفاع عن الفلسطينيين في أيلول 1970.
ومن باب التذكير أقول إن القيادة القطرية لحزب البعث في ذلك العهد أصدرت قراراً يشترط على مَن يُرَشَّح لنيل رتبة (عضو عامل) في الحزب أن يَدْخُلَ إلى الأرض المحتلة ويقوم بعملية ضد إسرائيل!.. وقد أدى ذلك إلى طرد عدد كبير من الانتهازيين من حزبهم.. وكانوا يسببون للرفيق البعثي فضيحة بجلاجل إذا ضبطوه يدخن تبغاً أميركانياً، حتى لقد رُويت عن أحد المسؤولين الشباطيين نادرة تقول إنه كان يحمل علبتي تبغ إحداهما أمريكية مخبأة تحت الثياب، والثانية، العَلَنية، سورية من ماركة “الناعورة” التي كانت تعرف باسم ظريف هو “جنط 24”!!
لستُ، والله، بصدد الدفاع عن البعثيين سواء أكانوا «آذاريين» أو «شباطيين»، أو بطيخين مبسمرين، فلهذا الفكر القومي مثالبُ تكاد أن تكون مستحيلة الحَصْر، ولكن ما أردتُ قولَه هو أن استيلاء حافظ الأسد على السلطة قد جاء، زمنياً، بعد موقفين خسيسين تاريخياً ارتكبهما، الأول يتعلق بإصداره أمر الانسحاب الكيفي للقوات السورية من القنيطرة أثناء حرب حزيران «يونيه» 1967، بوصفه وزيراً للدفاع، والثاني امتناعُه عن مؤازرة القوات البرية السورية التي علقتْ في شرقي الأردن تحت رحمة الطيران الإسرائيلي والطيران الأردني.
ومن ثم.. حينما قررت القيادة الشباطية إقالته من منصبه سارع إلى الانقلاب، واحتلال البلد.. وكان هذا التاريخ، تاريخ السادس عشر من تشرين الثاني 1970، برأيي، هو نقطة الانطلاق التاريخية للطائفية في سوريا، وتكريسها، وتصعيدها، ثم تحولها إلى نهج عام أدى إلى تدمير القسم الأكبر من سوريا، وما يزال يفتك بها حتى الآن.
لم يَسْعَ حافظ الأسد، خلال كافة مراحل حكمه، وبالأخص منذ أواخر السبعينيات، إلى إخفاء تبنيه للطائفية، أو تمويهها، ولا سيما في قطاعات (الجيش- الأمن- الاقتصاد- الإعلام).. وما يعرفه السوريون جميعهم، أن أي شخص سوري قادم من أية طائفة أخرى غير الطائفة العلوية، إذا تبوأ منصباً كبيراً في الدولة، كان يَعرف، مسبقاً، أنه أقل أهمية وفعالية واحتراماً من مثيله العلوي!.. بل أحياناً يكون التفوق بالأهمية لمن هو أدنى رتبة منه، كما هو الحال في القطعات العسكرية حيث يرتجف معظم الضباط الكبار خوفاً من (ضابط الأمن) ذي الرتبة الأدنى غالباً.
هذا الوضع الشاذ الذي خلقه حافظ الأسد بقصد الحفاظ على حكمه المفتقر إلى الشرعية بتوريط قسم كبير من أفراد الطائفة العلوية في السلطة، وتوريط أبناء الطوائف الأخرى (بالترغيب والترهيب) بالانخراط ضمن ما عُرف باسم (طائفة النظام)، قد أدى إلى احتقان كبير في المجتمع السوري أدى إلى انفجار الثورة السورية في أواسط أذار 2011، وكانت، في الحقيقة، ثورة ضد النظام السوري ليس فقط لأنه طائفي، بل لأنه استبدادي، ديكتاتوري، قمعي، إلغائي، إقصائي، سارق لخيرات البلاد..
ولكي تكتمل هذه الصورة أحب أن أقول إن شريحة لا يستهان بها من الثوار، أرادت، بعد تسلح الثورة، واتساع رقعة حرب الإبادة التي تشنها إيران وحزب حالش وكتائب العباس ونظام الأسد على الشعب السوري، تبنت الخطاب الطائفي المضاد، وارتفعت، ثم اتسعت، الأصوات التي تريد إعطاء الطابع الإسلامي (السني) للثورة، ولمشروعات الحكم القادمة..
ههنا أحب أن أقول شيئاً، هو الشيء الذي دفعني لكتابة هذه المقالة، وهو أنني أرى: أن الثورة السورية لا يمكن أن تنتصر ما لم ترجع إلى منطلقها البدئي، أي أن تكون ثورة سورية مدنية، غير طائفية، ضد النظام الطائفي القائم..
وحتى لو سقط النظام.. سوف يستمر نزيف الدم السوري، والخراب.. إلى حين أن يتخلى بعض المسيطرين على الأرض عن طائفيتهم، والسماح للثورة أن تفتح صدرها للسوريين جميعاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.