يثب

من يتحكم بداعش وما هي حقيقتها ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

سألني أحد العاملين الهامين المنغمسين في الملف السوري وقبله العراقي سؤالا فيه تحدي معرفي ومعلوماتي قائلا : ما هي داعش ؟ فلم أجبه في حينها وأحببت أن أجيب بمقال أنشره يختصر ويوضح تكوين داعش وسلوكها الغريب الغير مفهوم للكثيرين بسبب التشويش المتعمد الذي يحيط بهم ويتعمدونه ، وبسبب التوظيف المفرط لهذه الظاهرة من قبل كل الأطراف حتى طغت على ما عداها من مسائل …

في الواقع هناك تصورات ومفاهيم متباينة ومتناقضة عن داعش واستخدام دعائي مفرط لها … فالغرب يرى فيها مجموعة آيديولوجية ارهابية دينية تختصر عصارة التشدد والارهاب العالمي ، والمعارضة السورية ترى فيها فرع استخباراتي ايراني ، والنظام يرى فيها التطرف السني الارهابي الكامن في الشعوب العربية السنية، والدول الخليجية ترى فيها فرع القاعدة الذي يهددها ، والكرد يرونها الذراع العربية المعادية لها في حربهم القومية… وهكذا تتعدد التقييمات تبعا لموقع الناظر ، وتبعا للسلوك غير المنسجم الذي تسلكه داعش ، والتي تستخدم بدورها أسلوب الترهيب المفرط والمبالغ به لتحقيق غاياتها … لكن لفهمها على حقيقتها علينا دراسة بنيتها وتطور تكوينها التاريخي… عندها نفهم لماذا وكيف داعش هي كل ذلك جميعا ومعا .

في البنية :

تتألف داعش من مجموعة من حلقة داخلية مكونة من رجالات الاستخبارات العراقيين السابقين الذين عملوا في نظام صدام ، وهم من يدير فعليا داعش ، وهم من يلبسونها عمدا الثوب الجهادي العالمي ، ويستخدمون هذه الآيديولوجيا المتشددة ، لأنها تؤمّن لهم جيشا من المجاهدين المستعدين للقتال والموت من أجل قناعاتهم … وهم يعتمدون بشكل مفرط على الارهاب والترهيب للتحكم بالمنظمة وفي تحقيق غاياتها … فالشكل الجهادي القاعدي الارهابي يغطي البنية الاستخباراتية القمعية التي تطمح لتأسيس دولة ذات مصالح تحكمها سلطة مستبدة بالحديد والنار والترهيب ، وهم يستخدمون أبشع أنواع العنف والترهيب ويهتمون بنشره وتوزيعه كسلاح شبه وحيد يملكونه ويهتمون به وخبروه طويلا كما سنبين ، كما ويستخدمون البغدادي وغيره من الشرعيين والمجاهدين ويرفعونهم ويخفضونهم وفقا لمتطلبات تحكمهم باللعبة التي توصلهم لهدفهم المنشود وهو اقامة دولة على بقعة من الأرض ، والعودة للسلطة المطلقة التي فقدوها ، وهم من أجل تحقيق ذلك يحتفظون سرا بعدد من التفاهمات مع النظام العراقي والسوري والإيراني وغيره في المنطقة ، ولديهم خطوط تواصل معها … والتي سبق لهم وتعاونوا معها في نهاية حقبة صدام وبعده ، وهم يحاولون استخدامها كما تستخدمهم الآن أيضا لخدمة مشاريعها ، وهذا هو سر قوة داعش وخدمتها لمشاريع مشبوهة.

فالبغدادي هو مجرد واجهة دعائية يشغلونها وليس له أي سلطة فعلية ، كما أن الشرعيين عمليا هم أيضا أدوات في مشروع دولة استبدادية تستخدم الاسلام لفرض تحكمها … والشرعيون في غالبيتهم من السعوديين مع بعض التوانسة ويتعرض أي منهم للاغتيال عندما يخرج عن السيطرة أو يتدخل في الإدارة … بينما الولاة والقادة الفعليين فهم في أغلبهم من العراقيين المخلصين الذين خبروهم، هذا لا يمنع من استخدام واجهات مختلفة لكن يتم التحكم بها من قبل عراقيين يساعدونهم … فالعراقيون في داعش عموما يقودون ولا يقاتلون، وغير مهتمين بالشأن الديني والفقهي كثيرا ، وقد تركوا هذا الشأن للدعاة السلفيين الخليجيين غالبا ، بينما يقع عبء القتال على الشيشان والروس والترك والآسيويين المهاجرين أساسا ، ويختص فقراء السعودية بالعمليات الانغماسية … ويهتم التونسيون بتنفيذ المجازر الوحشية والترهيب ، في حين يُستَخدم السوريون كدرجة ثالثة في الحراسة والحواجز والمهمات الادارية ويمنعون من القيادة … ويقوم الأجانب بالعمليات الهوليودية والاعلامية وشبكات التواصل ….

من دون المجموعات التي أعلنت ولاءها شكلا وتقية لا يتجاوز تعداد عناصر داعش المنتظمين في سوريا والعراق ال خمسين ألفا ثلثهم من المهاجرين المنقسمين لثلاث أقسام عرب وهم الأغلبية وآسيويين وغربيين … منهم ما لا يتجاوز العشرين ألفا فقط من المقاتلين الفعليين . ولديهم موارد مالية ضخمة وثروات ومخزون كبير جدا من الأسلحة ويتحكمون بمساحة جغرافية واسعة وحاضنة سكانية كبيرة …. لكن قوة داعش الأساسية تكمن في الخوف الذي تزرعه داخلها ومنها وحولها والترهيب المتعمد الذي يسبقها والذي تحرص على إثارته بكل الوسائل وأكثرها بشاعة والتي تحرص على تصوريها وتوزيعها .

كما أنه ليس من السهل اختراقهم والتلاعب بهم كما يتوهم البعض ، وهم قد نجحوا في التكيف مع عمليات التجسس ، وكذلك الضربات الجوية التي لا تعتبر حاسمة على الأرض … ونجحوا في اكتساب ولاء العديد من القبائل خاصة النصف بدوية ، كما ويزداد عددهم رغم القصف نتيجة الظروف التي يعيش بها سكان الحاضنة الشعبية التي تفضل داعش المتداخلة معهم على الاحتلال الغريب أو النظم الهمجية ، خاصة من أولئك الذين يخشون التطهير العرقي الذي تمارسه ميليشيات الشيعة في العراق والكرد والعلويين في سوريا … كما ويستمر تدفق الأجانب ضمن سياسة دولية تهدف للتخلص منهم رغم كل الكذب في هذا المجال … فالكثير من الدول ساهمت وتساهم بصمت وسرية في ترحيل الكثير من أنصار الفكر الجهادي العالمي من بلدانها للمحرقة السورية العراقية ، وبعض الدول توظف داعش في تبربر تنفيذها لمشاريعها وتستفيد من داعش في محاربة خصومها على الأرض ، وبعضها من يغذي طرفي الصراع . بما فيها النظام السوري الذي يسهل لداعش التوسع على حساب مناطق الجيش الحر ، بينما تقوم داعش بمساندة النظام عندما يتعرض للهجوم ، وما تزال تمده بالنفط وتبتعد عن طرق تواصله .

 

في التطور التاريخي :

في أواخر سنوات نظام صدام العراقي حسّن هذا النظام علاقاته بسوريا وايران للهروب من الحصار … وعندما غزت أمريكا العراق وفككت المؤسسات العسكرية والأمنية الحاكمة … احتفظ بعض ضباط الأمن النافذين ( كعصابة حاكمة ) بعلاقاتهم وروابطهم بين بعضهم ومع الدول التي تواصلوا معها سابقا … وكذلك حافظوا على بعض البنية التنظيمية الداخلية التي سبق وحكموا من خلالها الجيش والحزب والبلاد . واحتفظوا بمقدار كبير من الثروة التي امتلكها النظام ووزعها في الداخل والخارج قبيل وأثناء الغزو … اضافة لتوفر السلاح الذي نهب من مستودعات الجيش العراقي المنهار ، والتعاطف الشعبي الذي أعقب همجية القوات الأمريكية والحكومات الطائفية التي رافقته وتبعته .

وعندما بدأت المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي … سارعت كل من سوريا وايران لمساندتها ماديا وعسكريا ، وارفادها بالمقاتلين المتشددين الإسلاميين الذين يحملون آيديولوجيا العداء لأمريكا والغرب عموما ، والذين تعرفت اليهم وجمعتهم خلال خبرتها الطويلة في الحكم ، ومن خلال التعاون الاستخباراتي مع بقية النظم … واعتمدت على شبكة العلاقات الاستخباراتية التي تربطها برجال العهد السابق الذين شكلوا حلقة داخلية استثمرت ووظفت الآيديولوجيا الجهادية المحلية والعالمية والمتطوعين القادمين للقتال في مقارعة وزعزعة الاحتلال الأمريكي .. بعد أن شعرت سوريا وايران وغيرها من النظم في المنطقة بخطر امتداد وتوسع السلوك الأمريكي لبلدانها ، وهو بالضبط ما هددت به إدارة جورج بوش الإبن .. لذلك تعاونت معظم الأنظمة يومها ضمنا على افشال المشروع الأمريكي في العراق عبر استخدام الجهاديين الاسلاميين (العدو العالمي لأمريكا ).. ولو كان ذلك على حساب مذبحة الشعب العراقي وتفتيت العراق كدولة .

سبق للمالكي قبل أن ينتقل من الحضن الأمريكي للحضن الايراني أن أعلن صراحة أن النظام السوري هو من يدعم الارهاب ويسعى لتدمير العراق … لكنه بعد ذلك أدرك توجه الأمريكيين لخسارة المعركة ، وفهم اللعبة وتحالف ع ايران وحافظ على درجة من التفاهم مع النظام السوري ، وكذلك مع المنظمات الارهابية المقاومة السنية التي تم توظيفها بانتظار خروج آخر قوات الاحتلال الأمريكي نهائيا …

ومع انطلاق الثورة السورية وفشل النظام السوري في قمعها ، باشرت ايران وسوريا والعراق وحزب الله استراتيجية جديدة تهدف لالصاق تهمة الارهاب في ثورة الشعب ، تهميدا وتسهيلا لسحقه برضى وتعاطف غربي ، فجددت ونمّت وعززت راوبطها القديمة الجديدة مع مشغلي ومديري الحركات المتشددة في العراق وفي سوريا أيضا ، وأطلقت قسما من المتشددين الذين سبق وأوقفتهم من سجونها … وأفسحت لهم المجال للتوسع والانتشار، وسهلت لهم الحصول على مخازن السلاح هنا وهناك ، وعلى الموارد المالية والنفطية ،وسهلت انتقال المقاتلين المجاهدين الأجانب للمنطقه، وامتنعت عن استهدافهم وحربهم وما تزال … وهم بدورهم دخلوا المناطق السورية ولم يحاربوا النظام بل المجموعات المحلية الثائرة ضده …

لكن المجموعة الاستخباراتية العراقية المتحكمة باللعبة لم تستطع السيطرة على كل الجماعات الجهادية العالمية المتمثلة أساسا في جبهة النصرة يومها ، ولم يسهل عليهم السيطرة عليها جميعا ، فأحدثت الانشقاق الشهير بين داعش والنصرة … وهكذا أصبحت النصرة مجموعة جهادية هدفها مقارعة النظام ، ومنفلتة من سيطرة الحلقة الأمنية الداخلية العراقية التي أسست داعش ، رغم أنهما من منبت آيديولوجي واحد ، لكن يختلفون بالتوظيف وبالقيادة ، فتميزت داعش كمؤسسة أمنية تستعمل أيديولوجيا الجهاد لكنها تسعى جديا وسريعا لاقامة دولتها وليس اسقاط النظام . من خلال عملها العسكري الهادف للاستيلاء على الأرض والموارد في المناطق الأضعف ( المناطق المحررة التابعة للجيش الحر المحروم من القيادة والدعم بسبب تنصيب قيادة مزيفة سياحية في الخارج للثورة ) واستطاعت داعش التقدم السريع في هذا المجال من خلال تفاهماتها مع النظام السوري والعراقي والإيراني وغيره من الأنظمة وتلقيها الدعم الخفي من أكثر من لاعب … و بسبب انكشاف هذه الحقيقة المتناقضة مع الآيديولوجيا المعلنة استعر الصراع التناحري بين الجيش الحر ومعه النصرة ضد داعش ، وتمرد تباعا أعضاء من داعش مرة بعد مرة …

توافقت استراتيجية داعش مع استراتيجية النظام الايراني الذي لا يتوقع أن يتحكم بكل العراق ، ويفهم أنه في النهاية عليه القبول بالتقسيم ، وقيام دويلة سنية بأصغر حجم ممكن( لذلك يُفضل أن تكون هذه الدولة ضعيفة ومحاصرة ومعادية للغرب والنظم الخليجية والعربية ومتفاهمة معه ، لكي تتحقق له الهيمنة على المنطقة) ، وذات الشيء ينطبق على النظام السوري الذي تخلى عن استراتيجية حكم كل سوريا وبدأ يبحث عن حدود تقسيمية يمكنه الدفاع عنها … لذلك فالتفاهمات الإيرانية السورية مع داعش هي حقيقة قائمة ومبنية على مصالح مشتركة وتثبتها التطورات على الأرض …

الذين يشغلون داعش هم من العراقيين السنة رجالات النظام السابق الذين لا يقدسون صدام ويعتبرونه مستبدا وطاغية دمر بعبثيته كل شيء ، ويختلفون قليلا عن البعث الذي ما يزال يستوعب أغلب الحاضنة المجتمعية التي يفكرون بحكمها من خلال الشريعة الاسلامية الطائفية وليس الحزب القومي البائد ، والتي تتيح لهم الاستبداد أيضا لكن باسم الدين ، وتعفيهم من لعنة الديمقراطية … وعندما انتفض الشعب على المالكي بالتعاون السري مع الكورد الراغبين في اعلان الانفصال ، وحرروا الموصل وبقية المدن السنية .. سارعت داعش لركب الموجة وللاستيلاء على مخازن السلاح والعتاد ومنعتهم من التقدم نحو بغداد وصوبت عملها نحو منابع النفط مما استوجب التدخل الأمريكي العاجل … واستنفر الكرد الطامعين هم أيضا به وتقدموا لتوسيع نفوذهم… وبينما ايران تحقق التقدم المتوافق عليه في مناطق داعش في العراق ، فإن تركيا لا تجد في داعش عدوا مباشرا لها أو تهديدا عليها ، وهي لا ترى ضيرا في اقتتالها مع حزب العمال الكردي الإرهابي هو الآخر الذي يهدد أمنها القومي ووحدتها … وهي لا تمانع في ترحيل المناصرين لهما للاقتتال في سوريا . ولا تفكر في كسب عداء هذه الدولة الجديدة التي يرجح أنها ستستمر طالما هي تخدم سياسة التقسيم التي يبدو أنه قد تم التوافق عليها بين الأمريكان والروس والإيرانيين والأوروبيين.

في التوظيف :

في النهاية داعش وجدت بمصالح دولية واقليمية ، والحرب الأمريكية الغربية عليها غير جدية ، ومن سيهزمها على الأرض هو من سيخضع هذه الأرض لنفوذه ، وفي النهاية سيغيب الطابع الجهادي العالمي عن هذه الدولة ( الخلافة ) المنكمشة لتظهر بنيتها الحقيقية (الاستبداد السني المعروف الذي يعيش خارج الحضارة ويلغي أي أفق لعودة صيغ العيش المشترك بين التنوع الذي تشهده المنطقة )

وجود داعش هو ضرورة قصوى للنظام السوري وايران وانفصاليي الكرد وأمريكا ولا يضر باسرائيل … لذلك فالدولة الاسلامية باقية ، رغم التحالف المعادي الهادف لتغيير طبيعتها وليس القضاء عليها … ورغم أنها صنيعة مخابراتية تتاجر بالجهاد والدين ، فنحن لا نتوقع أن تُهزم بجهد دولي ، لأنه غير جدي على ما يبدو ، بل ستهزم من قبل المجموعات الانفصالية التقسيمية في المناطق الراغبين بالتوسع فيها ، ثم بعد استقرار حدودها سيتم السعي لتغيير سلوكها وتجنب خطرها في تصدير الارهاب فقط ، مع السماح لها بممارسته محليا وعلى حاضنتها …

داعش تكشف حجم التعقيدات وحجم التآمر الدولي على المنطقة وسوريا والعراق ، ولذلك لا نتوقع لها أن تزول إلا فقط بارادة (الشعب ) المتضرر الأساسي من مشروع التقسيم والاستبداد والتخلف في المنطقة …

أقول هذا لكل من يتوهم أنها عدو أمريكا أو ايران أو أنها تمثل الاسلام أو ستقيم الخلافة المنشودة، أو أنها ستقارع الغرب وستعيد أمجاد العرب أو تنصر السنة… فداعش هي مجرد وسيلة مؤقتة في ايدي كل هؤلاء تخدم غاياتهم ومشاريعهم ولن تكون أيا مما تدعيه ، ولن تحقق أيا من الآمال التي تتاجر بها ، وأي مشروع حضاري للمنطقة لا يمر ولا يتقاطع مع داعش وحالش وأشكالهما … مع العلم أن هكذا مشروع حضاري ليس من اهتمامات الغرب المغرق في الأنانية والضغينة حتى الآن .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.