جنيف 3

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

تمر الأيام ثقيلة على الشعب السوري الذي وقع بين محاصر ومشرد ومصاب ، و تتأخر الحلول العسكرية ، وتتكاثر الجهود الدولية العقيمة لوضع حد لهذا التدمير المنهجي ، والسبب في تأخر الحل هو عدم توفر البديل المرضي للأطراف النافذة المتباينة المصالح فيما بينها ، والمتفقة إجمالا على عدم تمكين ثورة الحرية والكرامة من النصر ، خوفا منها ومن مفاعيلها على نظام المنطقة ، ومع ذلك يبقى الشعب السوري هو الرقم الصعب في هذه المعادلة الذي عجزت القوى والمؤامرات على تقليصه ، والذي ينتقل من شكل لشكل في المقاومة والقتال ، ولا يهادن ولا يتراجع .. وفي كل مرة يبحثون عمن يفترضون أن بامكانه تمثيل هذا الشعب وجره لقبول تسويات غير مشرفة ، يكتشفوا في النهاية أن ما بأيديهم مجرد دمى لاقيمة لها ولا فائدة ترجى منها … فالثورة التي قوضت النظام ، وجعلته يستمر فقط على العون الخارجي ، قد قوضت أيضا كل أشكال قيادات المعارضة المصطنعة والمزيفة التي فرضت عليه .

يحضّر المجتمع الدولي من جديد لعقد مؤتمر جنيف 3 … في محاولة جديدة لفرض حل سياسي للأزمة السورية ، وهم سيتجاوزون الائتلاف الذي اعتبروه سابقا الممثل الشرعي الوحيد ، ويضمون اليه مسار القاهرة وموسكو .. و باريس ودبي وطهران … فالائتلاف ثبت أنه غير ممثل للشعب بل ممثل عليه ، وبالتالي غير وحيد في قدرته على تمثيل المصالح المختلفة للدول الراعية ، والهدف العام لهذا الجمع الجديد هو الهيمنة على القرار وتخفيض السقف المطروح … وبنفس الوقت يضغطون على الأطراف المؤيدة للنظام للقبول بفكرة التخلي عن شخص بشار انقاذا للنظام الطائفي الأمني القائم … وهذا الحل الذي يسعون لتمريره في جنيف 3 الذي سيكون قابلا للانعقاد خلال أشهر ثلاثة ، سيصطدم بعقبات كثيرة ، أولها القوى الداعمة للنظام ، و تركيبته الداخلية ، وثانيها قوى الثورة التي ذهبت في مسار آخر لا تعنيه أي من هذه التسويات ، والمدعومة هي الأخرى من قوى اقليمية ، وسيواجه عقبات اضافية من الشعب السوري الذي لا يقبل بهذا التمثيل المكون من حشد من الانتهازيين الفاسدين المنفصلين عنه والمتعيشين على جراحه ، والذين يتم سوقهم لاتخاذ أي موقف من دون الأخذ برأي الشعب ومصالحه … ولا يقبل بمشاريع القوى المتطرفة التي هيمنت على العمل العسكري .

اليوم تتسرب أخبار عن عزم السعودية برضى مجموعة أصدقاء سوريا على تركيب توليفة ما للوفد المفاوض في جنيف القادم ، بشرط أن يتبنى هذا الوفد سقف ومطالب السعودية ويأتمر بأمرها ، ويقبل بما يتم التوافق عليه مع ايران التي تفاوض أمريكا على الملفات الاقليمية … والذي يفترض تمريره في مسار جنيف 3 . هذا إذا نجح وتم على خير وصدقت النوايا .

لكن الفشل المحتمل ، بل المرجح لهذا المسار الجزئي، أو لمجمل التوافق مع ايران وروسيا … سيضيف الزيت على النار ويدفع أكثر وأكثر نحو اندلاع حروب اقليمية أصبحت معالمها واضحة… فإيران إما أن تلتزم بالضمانات التي قدمتها لوقف برنامجها النووي العسكري ، بحلول بداية الصيف أو ستتعرض لضربة عسكرية تعيدها للوراء … ، وإذا التزمت ايران ببنود الاتفاق ، وسلِمت من الضربة على رأسها ، فهذا يعني أن الجهود ستصب لقصقصة استطالات إيران وأذنابها في المنطقة والتي تتعيش على زعزعة الاستقرار واثارة الحرب وتفكيك الدول … وهذه الحرب على الأذناب قد بدأت عمليا في اليمن ومرشحة للامتداد نحو سوريا ولبنان … وهذه ستكون الخطة البديلة عن فشل جنيف 3 … فالسياسة عادة تجرب الحلول السلمية ، وحيث تتوقف السياسة تندلع الحرب ، وعندما تتوقف الحرب تشتغل السياسة …

والمشكلة المعقدة في المنطقة أن الأطباء الذين يطرحون أنفسهم لمعالجة مشاكلها هم ذاتهم مرضى بأكثر من مرض ، ولديهم ما يكفي من المشاكل التي تهدد وجودهم .. وعليه فإن المنطقة كلها قد دخلت مرحلة التغيير الذي لا يمكن تجنبه ، و نظامها الراهن يرقص رقصة الموت على ايقاع الحروب الأهلية الشاملة الخارجية والداخلية معا ، والتي لن توقفها مبادرات هزيلة وإصلاحات أهزل منها … والشرق الأوسط برمته على موعد مع موجة جديدة من العنف والجنون … توقيتها هو الفشل المحتوم لجهود فاشلين ومزيفين … لا يفهمون التاريخ ولا يحترمون ارادة الشعوب …

والمشكلة الأعقد هي عدم القدرة على فرض الحل السياسي الذي لا أساس مادي أو أخلاقي له ، مع عدم القدرة على الحسم العسكري ، مما يعني عمليا استمرار تعايش السياسة والقتال معا ، وخوض الحروب على وقع مبادرات السلام ، كما حصل ويحصل في لبنان والعراق وغيرها منذ عقود … وهذا يعني استمرار الواقع الراهن المأساوي بطرق مختلفة ، وكل ذلك بانتظار تغير شامل في بنى ونظم وثقافات المنطقة ، التي صارت كلها بالية وغير قابلة للحياة ، ودخلت في تناقضات جوهرية قاتلة ودوامة من العنف والتخلف لا تستطيع الخروج منها ، وتنتظر دفنها افساحا بالمجال لمولود جديد يتناسب مع هذا العصر .

نقول لراكبي الأمواج من المعارضة السورية المتسلقة ، وللساعين منهم لركوب الموجة الجنيفية الثالثة الجديدة : حاذروا من الغرق في بحرها المتلاطم ، ونقول لقوى الثورة ومناضليها الحقيقيين كونوا كصخرة تتحطم عليها كل الأمواج …

فالمرحلة القادمة ليست حساب الكميات وتوازناتها ، بل اكتشاف نوعيات مختلفة قابلة للحياة ، فالقاعدة التي بنيت عليها كل نظم ومنظومات الاستبداد والفساد في المنطقة قد انهارت وتداعت جملة ، واستقرارها قد ولى لغير رجعة ، و تراكمت فيها الأزمات و سادت فيها الصراعات الداخلية والخارجية ، وانطلقت كل قوى التقويض والهدم التي تعمل بجد ونشاط .. بانتظار الوصول لتأسيس قاعدة جديدة يقوم عليها الاجتماع الإنساني في هذه المنطقة .

وازدواجية الحرب والسلام والتجريب ستحكم المرحلة القادمة ، التي ستتميز بمزيج من الحروب غير الحاسمة مع مبادرات السلام الفاشلة ، بانتظار المولود الحضاري الجديد … الذي لن يأت من التزاحم على الكراسي بين الكثرة الانتهازية ، بل من ابداع الحلول الجذرية لتناقضات الواقع والعقل المتعامل معه … وهذا هو جهد القلة المخلصة القادرة على الابداع ، و لطالما كان الكرام قليل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.