ملامح سيناريو الحل الذي سيفرض في سوريا

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

مع تسارع الأحداث التي توحي بضرورة ايجاد حل للمسألة السورية ، ومع القناعة المتزايدة بأن أي حل سياسي لن يكون ممكنا بعد كل هذا القتال وكل هذه المجازر ، التي تم التغاضي عنها عمدا وعن سابق اصرار للوصول إلى هذه النقطة … يبدو أن الظروف قد نضجت لفرض الحل المخطط له دوليا ، وبالتوافق بين روسيا وأمريكا القائم منذ بداية الثورة السورية ، والذي كان يتعمد إطالة أمد الصراع كل هذه الفترة وادارته بالطريقة التي أدت لهذه النتيجة من قبل كل الأطراف وبمشاركة كل اللاعبين ضمن ايقاع مرسوم …

حاليا تبين أن الجهد الدولي الهزيل المبذول للحل كان المقصود منه اضاعة الوقت فقط ، بانتظار موت سوريا سريريا ، عبر فرض حالة من الضعف والتشتت على المعارضة لكي لا تسقِط النظام الأقلوي الهش والذي كان هو هدفا بحد ذاته ، وكذلك السماح بنمو الحركات المتشددة وهيمنتها لتشجيع تحالف الأقليات … وتشجيع دخول الميليشيات الشيعية و السكوت عن ارتكابها للجرائم في الطرف الآخر دعما لبقاء النظام عبر فرض المزيد من الانقسام المجتمعي …

في النهاية وبعد سنوات كل الأطراف المكونة للشعب السوري نضجت بل اهترأت وهُددت تهديدا وجوديا بكل ما في كلمة تهديد من معنى ، وصارت تقبل بأي مخرج يقدم لها ( الخبز والأمن والدواء لجراحها) ، رغم مظاهر تضخم الشعارات والأيديولوجيات الحالمة ( الخلافة السنية ، والامبراطورية الفارسية الشيعية ) . ونضجت معها أيضا الدول المعنية التي صارت تقبل بأي سيناريو في سوريا يجنبها المزيد من الضغوط والتهديدات …

وعليه ومع تسارع وتيرة المعارك على الأرض وميلها بشكل واضح لصالح الثوار المجاهدين … وتداعي النظام وتآكله من الداخل ، وتهديد الأقليات (الحليفة للأجنبي ) بالتهجير جملة من المنطقة … تسارعت الخطط والخطوات نحو فرض حل تقسيمي لسوريا والعراق وحتى لبنان … يعيد رسم خريطة المنطقة بتوافق أمريكي روسي ورضى أوروبي واسرائيلي …

ما يظهر وما يرشح وما يشير اليه توزع القوى ومسار الأحداث هو الآتي :

  • تميل تركيا لفرض منطقة آمنة في الشمال ودعم المعارضة الاسلامية السنية فيه ، وهذا قد أصبح واقعا ومقبول أمريكيا ، بشرط الالتزام بمحاربة الإرهاب وعدم الدخول للمناطق الكردية ،
  • وتميل الأردن والسعودية بتعاون اسرائيلي لفرض منطقة آمنة في الجنوب أيضا وتصر على فرضها بالتزامن مع الشمال ، وقد سبق وأخرت الموافقة على فرضها بالشمال فقط للضغط باتجاه فرضها بالجنوب أيضا ومعا .. والسبب هو وضع مدينة دمشق .. حيث الخلاف القائم على اعتبار دمشق جزءا من الجنوب وعدم تركها بيد حزب الله وايران التي تفاوض أمريكا على حصتها في الشرق الأوسط … ففصل دمشق عن الجنوب وتقاسمه ليس أفضل لاسرائيل من الحفاظ عليه ككيان واحد .. لأن توسع الأردن باتجاه جنوب سوريا سوف يوحد الجبهة الشرقية التي فيها أغلبية من أصول فلسطينية . ناهيك عن احتمال قيام مربع ايراني قريب في المنطقة غير منضبط وغير مستقر وموطنا للحركات الارهابية، وهو ما استدرج مواجهة عسكرية مباشرة بين ايران واسرائيل في المنطقة يتوقع أن تتفاقم بسبب سلوك حزب الله الذي يبني نفوذه تحت شعار مقاومة اسرائيل .
  • بينما تنتظر روسيا بفارغ الصبر التدخل التركي العربي في الشمال والجنوب ، لتتدخل هي لحماية الطائفة العلوية في الساحل ، وهو ما باشرت بوارجها بفعله ، وهو ما يفضله العلويون على السيناريوهات الأخرى : أي القبول بحكم الأغلبية السنية بعد أن أدميت وثخنت جراحها على يد شبيحة العلويين والشيعة ، أو الإتكال على الإيراني الذي يبدو أنه غير جاد في حمايتهم بعد عجزه عن حماية حلفائه في اليمن ، ناهيك عن نظامه الإسلامي الذي لايطيقه العلويون ، ومن هنا الخلافات الكثيرة التي اندلعت بينهم حتى وهم يواجهون المتطرفين السنة معا في المعارك … فالزواج بين العلويين والشيعة واضح أنه عقد متعة محدود لا يدوم ولا ينجب ، بعكس مستقبل العلاقة المتوقع مع الروس الأرثرذوكس الصليبيين وهو المجرب تاريخيا .
  • وهكذا تشعر إيران بشكل متزايد أن مصالحها تختلف عن مصالح روسيا وتتجه للتناقض معها مع اقتراب زمن القسمة ، وهو ما ينعكس على شكل تصفيات متبادلة وصراع داخل النظام ، و تشعر أنها خرجت من اللعبة من دون غنائم ، فيتوقع أن يتحرك حزب الله المدعوم من الحرس الثوري وميليشيات شيعية أخرى ليحتل منطقة واسعة باتجاه حمص والقلمون واستبدال سكانها ، ويحاول توسيع دولته ومربعه الإيراني في المنطقة والمنفلت من أي ضوابط ، وسيحاول الاحتفاظ بدمشق وجنوبها أيضا وفتحها ساحة حرب . لكن حلمه هذا يبدو صعب المنال ضمن الظروف والتوازنات الحالية إذا استمرت اسرائيل على موقفها منه . ويمكن لهذه الخطوة المغامرة أن تكون نهايته كحزب مسلح واستطالة ايرانية في المنطقة .
  • بذات الوقت يتجه الأكراد بالرغم من خلافاتهم الداخلية الكبيرة بشكل متزايد لاعلان استقلالهم وانضمامهم لكردستان العراق .. وهذا السلوك مدعوم من قبل الأمريكان والروس والأوروبيين واسرائيل … والهدف البعيد من دعمه ليس حب الشعب الكردي بل تمديد هذا التمايز والتقسيم لداخل تركيا ثم ايران تمهيدا لتفكيكهما أيضا في المرحلة اللاحقة ، وهنا تبرز عقبة جديدة في وجه تركيا لن يكون التغلب عليها سهلا ولا بسيطا .

وعليه فالمعارك الأخطر المتوقعة في السنة القادمة:

هي معركة دمشق التي ستحاول ايران المدعومة من روسيا الاحتفاظ بها والتي ستكون معركة قاسية ومدمرة بشكل مميز ، نظرا للحقد التاريخي على دمشق وتاريخها ، ورغبة معظم الأطراف المتحاربة في احتلالها أو تدميرها . وكسب معركة دمشق والقلمون سيكون هو عنوان طرد النفوذ والاحتلال الإيراني …

وكذلك معركة حماه وحمص التي هي أيضا سترسم حدود الدولة العلوية -الروسية وراء ضفة نهر العاصي الغربية و التي كانت حصة روسيا من اتفاقية سايكس بيكو ( اللون الرمادي التي تشمل أيضا لواء اسكندرون ) ، والتي رفضت تسلمها السلطة البولشيفية الشيوعية يومها ، وعادت روسيا الجديدة للمطالبة بها متحمسة بدافع اكتشاف النفط والغاز في الساحل الدافئ ، وحاجتها لتشكيل كماشة على عدوها التاريخي ( تركيا ) خاصة بعد أن تغاضى الغرب عن اعادة احتلالها للقرم وتمددها في أوكرانيا ، و عن مساعدتها العسكرية المباشرة لقوات الأسد .. هنا ستلعب روسيا دور المساند والحليف ليس فقط للأرمن والبلغار واليونان بل للعلويين الكلزيين والحيدريين الذي يعدون بالملايين خاصة في انطاكية وجنوب تركيا وللأكراد أيضا …

وهنا ستكون المواجهة الأكبر بين تركيا وروسيا ، في حين تقف أوروبا متفرجة على هذا الصراع وتكتفي بدعم ناعم للأقليات والأكراد الذين هم أيضا يعدون بالملايين في تركيا ولهم تاريخ في نزعتهم الانفصالية عنها… وهكذا تستكمل الحرب العالمية الأولى أهدافها … ويتم القضاء النهائي على الدولة العثمانية وعلى حلم استعادتها المتجدد مع صعود حزب أردوغان وتقاربه مع العالم العربي والاسلامي …

في حين سيشعر الإيراني أنه الخاسر في سوريا التي يتقلص نظامها ليصبح محمية روسية ، وغدا في لبنان ، حيث سيُفرض واقع جديد على حزب الله يجبره على تسليم سلاحه للشرعية … وستصبح ايران ذاتها في الطريق نحو الفوضى والتفكك بسبب فشل نظامها وعجزه واعتماده المتزايد على الفوضى التي ستدب داخله يوما ..

العراق بدوره يصبح ثلاثة ، وداعش تنتهي لدولة سنية في البادية العراقية والسورية وعاصمتها الموصل … وتتحول للاعتدال بقدرة قادر وبالزمن المطلوب وتخلع بدلتها الجهادية وتظهر حقيقتها الصدّامية ،

بينما تقوم دولة حلب الإسلامية برعاية تركية وقيادة إخوانية مرتبطة عميقا بدوائر ومحافل دول شمال أوروبا ( بريطانيا وألمانيا ) ،

و تقوم دولة دمشق المدنية برعاية عربية وقيادة تقليدية ذات ارتباط تاريخي بمحافل ودوائر دول جنوب أوروبا ( فرنسا واسبانيا وايطاليا ) ،

و تقوم دويلة الساحل الروسية العلوية بحماية الأساطيل الروسية وبسيطرة المافيات وشركات النفط وتجدد التواجد الصليبي قبل ثمانية قرون وتستكمل سيطرته على شرق المتوسط .

وقد يتجه لبنان أيضا للمزيد من التفكك بالمعية بعد أن فشل في البرهان على قدرته على البقاء كدولة ذات سيادة يحكمها عقد اجتماعي مدني … فلبنان المصطنع بعد 70 عام على استقلاله لم يصبح وطنا .. وبقي مجرد محميات ومناطق نفوذ للأجنبي ، وستزداد تبعيته وربما سيتجدد احتلاله .

في ذات السياق ينتهي تماما ذكر الدولة الفلسطينية التي ستصبح بحكم الواقع شرق الأردن ، مع منطقة حكم ذاتي تابعة لها في الضفة ضمن الدولة اليهودية ، وتغيب نهائيا مسألة اللاجئين الفلسطينيين ، لأن أغلب شعوب المنطقة ستصبح لاجئة ومهجرة …. ضمن سياسة لبننة الشرق الأوسط .

عندها قد يجتمع مجلس الأمن وينجح في اصدار قرار ملزم تحت الفصل السابع يطلب من جميع الفرقاء وقف اطلاق النار ، وتثبيت الحدود القائمة التي ترسم الخريطة الجديدة للمنطقة ، بعد أن شاخت خريطة سايكس بيكو وهرمت وحان وقت دفنها ، وقد بدأت بمحو حدودها كل من داعش وحالش وستتابع جحافل جيوش دول الجوار ذلك عن قريب .

ليبدأ بعدها الصراع الداخلي على السلطة والثروة داخل كل كيان ، بين أمراء الحرب وبين وكلاء الأجنبي المحتل والشعب العائد الذي فقد كل شيء في هذه الحرب الضروس …

هذا ما يريده ويفكر به داعش السني وداعش اليهودي وداعش الأرثوذكسي وداعش الكاثوليكي وداعش البرتوستانتي وحالش الشيعي وعافش العلوي …. ولكن هذا ما يهيئ أيضا وبذات الوقت لاندلاع حرب طاحنة بينهم جميعا نظرا لتداخل الخطوط الحمر ، لذلك وخوفا من التورط في هكذا حرب يريدون فرض ما يريدون عبر بوابة الحل السياسي الذي يبنى على تفاهماتهم وتقاسمهم … خوفا من اصطدامهم ببعضهم ، فالحل السياسي المنشود ليس شيئا آخر غير تقاسم النفوذ في المنطقة وتقسيمها ، واستمرار حرب الإنهاك هو الوسيلة الوحيدة لفرض القبول به مع الزمن ، وهي سياسة أوباما في سوريا …

Untitled-2

وفي كل حال هذا لا يتناسب مع مصالح الشعوب ولا يتناسب مع متطلبات الحضارة وهو سيضيف المزيد من الأزمات التي اندلعت على شكل ثورة وصراعات ولن تنتهي بتكريسها ومفاقمتها … وعليه لا يجب اعتباره قدرا ، بل هو فقط احتمال وخطة يعمل عليها الغريب ، يجب أن نفكر فيها ونضعها بالحسبان ونسعى لتقويضها ، كل من الموقع الذي يوجد فيه ، فالحل ليس أن تنتصر داعش على داعش أخرى ، ولا أن يتعايشوا معا في حالة تصارع دائم على حساب تقسيمنا واضطهادنا كشعوب تاريخية سكنت المنطقة وعاشت تاريخا مشتركا فيها عبر العصور … لأن منطق العصر وروحه ومنطق الدين ورسالته ومصالح الشعوب والقوميات هي في مكان آخر يرسم طريقا آخر للسلم والعدل والتعاون والإخاء … وهذا لن يكون ممكنا من دون جهد فاعل ومخلص نبذله جميعا لتبديل هذا السيناريو ، وهزيمته نهائيا لصالح مشروع آخر للمنطقة وحدوي وليس تقسيمي ، سلمي وليس عسكري أخلاقي وليس جرمي … ينقذها ويعيدها لواجهة الحضارة … وهو ما سيتحقق أخيرا بإذن الله ومشيئته التي هي فوق كل مشيئة …

أقول ذلك لأن المنطقة التي تشهد أعنف الصراعات هي بذات الوقت ذات تاريخ متداخل وثقافة متجانسة وأديان سماوية مشتركة ، ولأنه ببساطة لن يكون صعبا عليها اعادة بناء الوحدة بينها ، فمتطلبات الاقتصاد وحدها قادرة على اعادة توحيد حلب ودمشق وتوحيدهم مع الموصل ، ولن يكون صعبا بناء مشروع وحدوي مع جهات ذات أهمية في لبنان والأردن وتركيا وغيرها ، وليس صعبا على تركيا تجاوز هذا الامتحان الوجودي الداخلي ، كما ولن يكون صعبا ايجاد قطاع واسع من الأخوة الكرد يفضلون تحقيق حلمهم القومي من خلال مسار وحدوي سلمي ومن دون المرور بصراعات مريرة مع كل جيرانهم وأشقائهم في المنطقة ، أما الإحتلال الروسي أو الايراني للساحل أو لأي منطقة في الداخل فسيتحول لأفغانستان جديدة ، ولن يكون صعبا على الجهاديين اشعال النار تحت قدمي الروسي والإيراني (الذين يعانون من مشاكل وصراعات داخلية جدية وواعدة ) … خاصة بوجود أكثر من مليون ونصف سني ، والكثير من العلويين الذين يفضلون العودة الآمنة لوطنهم الموحد ، بعد أن زجهم النظام في معركة بقائه، وفي حال تهجير السنة من الساحل أو اضطهادهم فيه ، أو التمادي الإيراني باستباحة دمشق … فسيكون ذلك المبرر الكافي لاشعال حرب جهادية ضد هذا الكيان الجديد … فالتقسيم ممكن في حالة الحرب تبعا لأمكنة الجبهات ويستمر فقط بوجود الاحتلال ، لكنه من دونه ، أو في حال السلم فليس له أساس جغرافي أو مجتمعي أو اقتصادي ، علاوة أنه يسير بعكس التاريخ والعصر الذي يوحد ويدمج الكيانات ويقفز فوق الحدود التي تتحطم بمجرد تحقيق الديمقراطية وتحكيم العدالة .

فالمنطقة اليوم تشبه لوحة شطرنج يتحرك عليها اللاعبون الكبار الذين يفتقدون للقيم والأخلاق ويتبارون في ارتكاب الجريمة … لكن من سينتصر أخيرا ليس القوى الخارجية الأكبر والأسرع حركة ، والتي ستقوض جهود بعضها البعض ، بل البيدق الذي يتقدم بروية ويصل لخط النهاية ويصبح ملكا ، وهذا لا يعتمد على قوة السيف بل على قوة المعرفة بالحق والعدل والقيم والقدرة على تجسيدها .

ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.