يثب

كل وطن وأنتم بخير (المبادرات الوطنية وإحياء الموتى)

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدولة حالة متقدمة من الاجتماع الإنساني ، تقوم على مزيج من التعاقد والقهر ، فهذا التعاقد لا يشترط قبول وموافقة كل شخص يجد نفسه فيها ، بل يشترط استمرار خنوع أو قبول الأغلبية بهذا العقد القابل للتجديد والتعديل ، وهو عقد السلم ( الإسلام ) الذي يُحتَرم فيه القانون ( الشريعة ) ويُطبَق على البشر المجتمعين وبينهم ، والذين يتشاركون العيش فوق أرض محددة ويقيمون سلطة قوة تطبق هذا القانون عليها وعلى سكانها … فالدولة تتألف من أرض وشعب وسلطة ( أداة قهر تطبق القانون والشريعة التي يتوافق عليها الناس إذا لم تكن تعسفية ) … هذا لا يعني أن الدول تقوم على أوراق أو تبنى من أوراق ونصوص فقط ، بل لابد لقيامها من استعمال القوة المستمدة من بشر لهم ارادتهم ولهم ظروف تسمح أو لا تسمح بإقامة دولتهم هذه . فقيام الدول وفشلها يعتمد على توازنات حركية بين هذه العوامل ، أي أن الدولة ليست شيئا خالدا أو مقدسا ، بل هي حالة اجتماع سياسي توجد وتزول بالتوافق أو بالقهر والغلبة ، كما شرح ابن خلدون .

والدولة السورية هي دولة مصطنعة صنعها الاستعمار ورسم حدودها وأقام سلطتها ونظامها ثم أعطاها الاستقلال المزعوم وأراد أن يجعل منها دولة ذات هوية تاريخية ، ومن شعبها أمة عريقة تشعر بالشعور الوطني ، واستمرت هذه الدولة الوليدة طالما استمر القهر ، المدعوم من التحالف النخبوي بين ملاك الثروة و قادة الجيش الذين حكموا البلاد بالإستبداد ، وتوهمنا جميعا أن المجتمع قد انصهر وقد قبل بهذا المصير الذي رسم له ، حتى استخدمت قوة الجيش من أجل السيطرة على الثروة ( التشبيح ) ، وفرضت حالة من الاستعباد على عباد الله السوريين وصارت سجنا يسعى الجميع للتحرر منه .

لكن ومع قيام الثورة ضد الاستبداد والاستعباد ، وانهيار دولة السجن ، تبين لنا وتكشف مدى انفراط العقد الوطني ، ومدى غيابه ، ومدى سوء كل ما هو مصطنع وقمعي … فالوطنية لم تظهر عند رجال الأمن الذين واجهوا الدفعة الأولى من المحتجين ، ولا عند المسؤولين ولا السياسيين ولا العسكر .. وهكذا انتقلت هذه الروح الفاقدة لأي شعور بالوطن والمواطن … لبقية مكونات المجتمع ، بما فيها قيادات المعارضة التي ادعت الثورة من أجله والتي لم تزد وطنية عن النظام بل سارعت لسرقة قرار الشعب والمتاجرة بمصير الوطن واسمه وهويته ومستقبله وثروته… وتبين لنا بالتجربة مدى تراكم الكره التاريخي والخلاف القيمي ، ومدى انحطاط أي روح وطنية بل أخلاقية وإنسانية عند الغالبية في كل المكونات بكل أسف … حتى شاهدنا أبشع وأشنع وأنذل المجازر ترتكب بأيد أبناء الوطن الواحد ضد بعضهم البعض … والتي تحظى بتأييد ومباركة الزعماء والقادة ورجال الدين من كل الأطراف …

ليس أدل ولا أوضح من هذه الدلالة على انفراط العقد الوطني وعلى فشل الدولة السورية المصطنعة … ولا يحتاج المرء إلا لمشاهدة صور الأقمار ليرى كيف تحولت حمص وحلب لركام على يد الجيش السوري ذاته ، فلا تعني هذه الصورة سوى دمار الوطن والعقد الاجتماعي (الذي لم يتم بالتراضي ) بل فرضه المستعمر ، الذي أدار الأحداث في سوريا حتى استكمل تدميرها بالكامل …

هناك في المجتمع الدولي والعربي اليوم من يقول بسخف وغباء وخبث : لماذا لا تتوافقوا أنتم السوريون ، ولماذا لا توحدوا رؤيتكم ؟ ويدعونا لجنيف وموسكو والقاهرة والرياض … فيصدقهم السياسيون البسطاء ويتنطح الكثيرون ليطلقوا المبادرات الوطنية ، ويكتبوا الأوراق .. ويجمعوا التواقيع … بانتظار أفعال يقوم بها المجتمع الدولي ؟ وهو انتظار سيطول ويطول …

فكل ما يكتبوه يغيب عنه أمر أساسي هو الفاعل … كل المشاريع المقدمة والمطروحة تبني على دور للأمم المتحدة في اسقاط الأسد واقامة سلطة انتقالية ومحاربة الارهاب ، واعادة اعمار سوريا ، وفقط باتخاذ القرارات … وهي تعكس حالة المعارضة السياحية التي انفصلت عن الأرض وضيعت كل الوسائل وصارت مستأجرة للدول وتعيش على حسابها ولخدمتها ، لذلك لا ترى فاعلا إلا تلك الدول …ولكن هل كل الشعب السوري يعيش كما يعيش الائتلاف المعارض في فندق الفيندهام في استانبول على راتب قطري ، وينتظر القرارات والجيوش الدولية والمصارف لكي تعيده لبلاده …؟؟

لا أبدا فالشعب السوري الذي وقع بين قتيل وأسير ومحاصر ومشرد يفهم جيدا أن المجتمع الدولي هو من عطل العدالة وعطل الإغاثة ، وحمى النظام المجرم ، وتخلى عن كل مسؤولياته في حماية المدنيين حتى من أسلحة الدمار الشامل ، التي يصر النظام حتى الآن على امتلاكها واستعمالها وعلى عينك يا تاجر ، حتى الدول العربية الجارة تمده بالمال والسلاح والرجال ليقتل المزيد ويدمر المزيد، وعدة دول عظمى لها حق الفيتو أيضا … فكيف نطلب ممن كان هو السبب أن يكون هو الحل …

هل يمكن للأمم المتحدة أن تأخذ قرارا يرضى عنه الشعب السوري ، وتبني سلطة انتقالية يرضى عنها ، ومن سيقاتل النظام ويجبره على القبول بالتنحي … أم أن القرار ينفذ تلقائيا والورق يكفي كما تكفي الإدانة والبرقيات …. البند السابع المذكور ذاته من سيطبقه ، من سيستخدم القوة ؟ لاسقاط النظام مثلا … منذ أربع سنوات ونحن نطالب … حتى سلاح للدفاع عن النفس يمنعونه عنا … هل نصدق أنهم سيستخدمون القوة لاسقاط النظام وإجباره على التنحي … ؟ أم أنهم جميعا سيتفقون هكذا وفجأة كرمى لعيون سوريا … وهم من تآمر عليها وسعى لتدميرها وتقاسمها …

من سيحارب التطرف والإرهاب ( الشعب السوري الذي لم يصد عنه جحافل الصفويين سوى هذا التطرف )… أم طائرات التحالف التي عجزت إلا عن تجذيره وترسيخه في المجتمع ، فهل سترسل قوات في البر لحفظ السلام وهي لا تتحمل خسارة جندي واحد … فتحالفت مع ايران أملا في أن تخوض ايران هذه الحرب بدلا عنها ، ولكن ايران ذهبت في اتجاه آخر ، هو زعزعة استقرار المزيد والمزيد من الدول فينتشر فيها الارهاب ويتوسع …

أليس الأفضل للمجتمع الدولي أن يترك النظام يحارب التطرف ، والتطرف يسقط النظام ، ولماذا يستبدلون هذه الوسيلة الرابحة بوسيلة خاسرة ومكلفة ولا توجد أدواتها … ولماذا يرسلوا جيوشهم ليحاربوا الطرفين ، طالما الطرفين يحاربون بعضهم البعض ( أي أحمق يطلب منهم ذلك ) حقيقة لا يوجد أحمق من المعارضة السورية ومن الائتلاف .

الغرب الذي يدير اللعبة يريد اعادة رسم خريطة المنطقة التي شاخت ، وهو مصر على تقسيم العراق وسوريا وتركيا ، واستكمال أهداف الحرب العالمية الأولى .في المنطقة ، وهذا يتطلب فشل الدول الحالية وانهيارها من الداخل ، وهذا ما يجرى العمل عليه ، وليس كما نتوهم دعم السلام والاستقرار … والديمقراطية وكل ما نسمعه من كلام معسول في الاجتماعات معهم . لذلك فإن الاعتماد على دور بناء للغرب هي عملية غير سليمة عقليا بحسب تجربتي ، فكيف بالمجتمع الدولي ، وكيف بالأمم المتحدة التي عُطلت تماما عندما تعلق الأمر بالشأن السوري … وكيف سيتغير الوضع جذريا وتتخذ قرارا بعكس تاريخها … وتحت الفصل السابع ، لصالح سوريا وشعبها وحريتها ووحدتها واستقلالها ، إذا كان من يتخذون القرار يعتبرونا عدوا يجب القضاء عليه وانهاكه .

حتى لو فرضا صدر هكذا قرار ، من سيضعه قيد التطبيق ، من هي الدولة التي لديها النية والقدرة وتنتظر موافقة الشرعية الدولية لكي تنفذه …

من سيضغط عسكريا على النظام لاجباره على التنحي ؟ وإيران على الخروج ؟ ثم يحارب المقاتلين الأجانب ، والتطرف ، ويقيم سلطة انتقالية يرضى عنها الشعب ( الذي يدعم المتطرفين ) والنظام ( الذي يستخدم الشبيحة ) معا ومن دون عملية ديمقراطية ومن دون ازالة أحدهما أو كلاهما ، ثم يقوم بدفع المال الوفير لاعادة اعمار سوريا وتعويض المتضررين … وهم ذاتهم اليوم يهملون حتى اغاثة اللاجئين ويعجزون عنها.

لاحظو أن الفاعل في هذه المبادرات غير موجود ، والفاعل الوطني غير مقترح بالمبادرة الوطنية وغائب تماما عنها، بينما يجري الاعتماد على الفاعل الأجنبي الذي هو عينه من خرب سوريا وساهم في تدميرها وعطل العدالة والاغاثة الدولية وما يزال يمنح النظام المزيد من الوقت للقتل والتدمير … لاحظوا أيضا أن الدول العربية هي من وجهت الدعم فقط باتجاه جماعات محددة وأيديولوجيات محددة اتقاء لشر أنفلونزا الديمقراطية . وهي من أفشلت التجارب الحقيقية لاقامة سلطة شعبية ثورية في المناطق المحررة ، والتي كانت ستجذب كل المناطق وتحافظ على الدولة والوحدة الوطنية . ولكنها دمرت بعسكر النظام الذي أطلقت يده أمريكيا عندما حددت له الخطوط الحمر والخضر ، وبالتجويع العربي الخليجي الذي فرض على كل من هو غير إخواني وكل من هو غير سلفي … حتى اسدي الأمر للمتطرف المتشدد ، أو الفاسق الفاسد .

وعليه وحتى لا أطيل عليكم :

إذا كان الهدف من المبادرة رمي ورقة في وجه من يحتج بها ؟ فلا ضير .

إذا كان الهدف من المبادرة اعتمادها في مؤتمر الرياض وتطبيقها فعلا … والعمل عليها فعلا . فذلك يتطلب تغيير الطريقة والفاعلين ، والأدوات التنفيذية …

كل عملية سياسية تبدأ من فوق لتحت هي عملية فاشلة وغير شرعية ، ولابد من البدء من الداخل ومن القاعدة نحو القمة ، وكل عملية تبدأ بتعيين ستبقى مصدرا للصراع والانقسامات … وهذا هو سبب انقسام المعارضة وتنازعها ، أقصد اعتماد آلية التعيين التي تحرض التسابق و تخاطف الكراسي والامتيازات وطعن الآخرين بالظهر ورميهم بعيدا وتشويه صورتهم ودورهم … وتشغلهم بصراعاتها على تلك الأمور واغفال قضية الشعب .( هذه هي حالة الائتلاف المعين من قبل الدول )

باختصار الخروج من دوامة هذا الصراع ، يتطلب عدم الاتكال على الغريب الدولي أي يتطلب ( مبادرة وطنية فعلا وأدواةً ) ، والاعتماد على حل سوري بيد السوريين ، لكن ليس بواسطة التصالح مع النظام على طريقة الخطيب والمناع والقاهرة وموسكو وجنيف ، بل عن طريق ايجاد خيار ثالث وطني بعيد عن النظام وعن التطرف ، وهذا ممكن على الأرض ومن مناطق محددة ، فلو بنينا سلطة مدنية وطنية على أرض محررة من النظام ولا تخضع لسلطة أمراء الحرب ومجانين التطرف . فيكون الحل العملي قد بدأ من هنا … وهذا العمل ليس مبادرة ولا ورقة ، بل هو انخراط فعلي مع الناس والناشطين ومع الأرض وعليها . وهو ما ابتعد عنه المجلس الوطني ومن ثم الائتلاف والحكومة وفضل السكن في الفنادق ورمي البيانات من النوافذ … وبذلك الغى نفسه بنفسه . وعاش متسولا الدعم الدولي الذي لن يأت .

الشعب السوري ينتظر منا أكثر من ورقة ( منا نحن السياسيين الذين لم يصنعنا أحد ، ولم تحملنا رافعة ) هو يحتاج لقيادة وادارة ومشاركة … وكل ذلك نحن غير قادرين عليه لظروف ذاتية وموضوعية ، لذلك أقول أنه لكل زمان دولة ورجال ، وهذا الزمن ليس زمن المبادرات الوطني … بل مرحلة اسقاط النظام ، والتي لها أداة وحيدة متوفرة هي السلفية الجهادية ، التي لا نتفق معها سياسيا ولا تقبل بمبادراتنا ، واجبارها في مؤتمر الرياض القادم بضغط سعودي قطري تركي على القبول بقيادة سياسية غريبة عنها تفرض عليها ممن ترشح أسماؤهم وتعرف أفعالهم ، من مداومي المؤتمرات والاجتماعات الذين يكرههم الشعب السوري أكثر من خلقة بشار … سيجعلها تكف عن القتال وينتصر النظام في النهاية . فتوحيد المعارضة الهزيلة هذه وتسويدها . سيكون أكبر خدمة لبقاء النظام .

المبادرات الوطنية لا تصنع وطنا ، أو تعيد وطنا ميتا للحياة . والذين يقاتلون لا يقاتلون دفاعا عن وطن ، لا الجيش الشبيح ، ولا المعارضة المحلية التي تقاتل إما من أجل أيديولوجيا دينية ، أو دفاعا عن أرض وبيت وأسرة وشجرة وحق في الحياة ، والقوى المتصارعة على الأرض قد برهنت بالسلوك العملي أنها تريد الغاء الآخر وفناءه … والدول الراعية للحرب لا يمكنها أن تكون راعية للسلم … والجهات المبادرة هي ذاتها من فشلت في القيادة وتسببت بما استطاعت من ضرر بقضية الشعب السوري فلماذا لم تبادر لاصلاح نفسها ومحاربة فسادها … لذلك أتمنى على الجميع ترك هذا الاسم ( الوطنية ) لغير مكان وغير دولة وغير سياسيين ، والبحث عن وسيلة تحسين ظروف كل حي وحارة و ضعيه، وتطوير الموجود على الأرض ، وعندما تكتشف الناس أن هناك سلطة وطنية ، ومنطقة فيها أمن وكرامة وقانون وعقد وطني مقبول ستنزح اليها طالبة التوطن أو تنضم اليها طالبة الوحدة، بدل أن تتشرد وتهيم على وجهها .

من فشل على الأرض وفي قيادتها ، وفي حفظ الأمانة وامتحان النزاهة ، لن تنجحه الأوراق والمبادرات . أما إذا كانت المسألة كالعادة وكالة للأجنبي وتنفيذ لمطالبه … عندها تكون هذه المبادرات مجرد دكاكين جديدة ، تبيع وتشتري بالشعب السوري أو ما تبقى منه . وترتزق على دمائه. ممثلة بالائتلاف حصرا وتحديدا ومعهم بالمعية مجموعة القاهرة وموسكو وما شابه . وكل الذين ينتظرون الدبس من ديمستورا .. لنقول لهم جميعا كفاكم الله شر العسل .

سوريا كما أعلم قد ماتت ، وشبعت موتا قبل حمزة الخطيب ، ماتت من يوم رفع شعار سوريا الأسد والأبد ، لأنه ربط مصيرها بخلوده ، فنفق الأسد وأحرقت البلد وتمسك الولد بالسلطة حتى سقطت الدولة وسقط الشعب وبقي الولد المعتوه من دونهما … فالتقسيم سيفرض لا محالة ، وأمارت الحرب صارت أمرا واقعا ، وقد صار علينا جديا أن نفكر بما يمكننا الحصول عليه من شظايا سوريا ، أو أن نخطط ثقافيا وقيميا لمرحلة قادمة نستطيع فيها اعادة بناء نظام جديد ودول سياسية جديدة في المنطقة …

ودمتم وكل وطن وأنتم بخير …

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.