الهمجية والدين

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

مرت البشرية في تطورها الحضاري في مراحل متعددة وتطور نظامها من الوحشية نحو التمدن ، وتطورت سلطاتها تبعا لذلك ، وطبقت نظم قضائية وجزائية مختلفة ، حتى الشرائع السماوية قد تباينت بين الديانات الثلاث ، وتغيرت عبر العصور العقوبات الجزائية ونظم القضاء والمحاسبة … وقد سادت حتى مرحلة قريبة نظم عقوبات نصفها اليوم بالوحشية ، وقد تجاوزتها الحضارة الحديثة التي تطور نظامها القضائي وقوانينها بما يتناسب مع التقدم في العلاقات بين البشر ، وتطور الوسائل وظهور الدولة الحديثة المسؤولة عن ظروف حياة وتنشئة الأجيال ودخلت كشريك فعلي تقع عليه مسؤولية تجاه كل فرد ، ولم تعد مسؤولية السلوك الذي ينتهجه الفرد تقع فقط على عاتقه بل تقع أيضا على عاتق الدولة والمجتمع الذي يعيش به ونشأ بينه …

ومع ذلك ليست كل النظم تسلك السلوك المسؤول ، وبعضها ينحرف ويتحول لنظام للإجرام ، وعندما يمارس نظاما ما همجية وعنفا ووحشية فعاره على نفسه وعصابته ، وجريمته يتحمل مسؤوليتها بذاته ، بينما يقوم المجتمع بالتمرد عليه لاسقاطه ومحاسبته ، لكن عندما تمارس الهمجية باسم مجموعة ثقافية أو دين معين فهنا يدفع أتباع هذا الدين ثمن تصرفات من يمارسون البربرية باسمهم . فكيف إذا ادعوا هم بذاتهم أنهم يطبقون الدين الصحيح وكفروا البقية … هذا هو حالنا الذي لا نحسد عليه …

عندما صاحت امرأة مظلومة وا معتصماه انتصر لها خليفة المسلمين بجيش عرمرم ليحق الحق ويحمي الثغور ، وعندما دخلت جيوش المسلمين المدن والأمصار أقامت العمران والتجارة والعدل والسلم فدخلت هذه الشعوب في الاسلام لكونه يحمل الحضارة والأخلاق والعلم … ولم يشهد التاريخ أن شعبا أو أقلية هربت من الاسلام واستنجدت بالشيطان … إلا في عصر الخليفة الجديد السني والإمام الفقيه الشيعي … فكل المسلمين وغيرهم، العرب وغيرهم ، يصرخون وا تحالفاه أنقذنا من هذا الوحش الهمجي الذي يدعي دولة الاسلام والذي يصر على ترهيبنا وترهيب العالم ؟؟؟ وأنقذنا من نظيره النظام الإيراني الذي يفسد في الأرض باسم الإسلام أيضا .

عندما حارب الاسلام في عصر النبوة من أجل تأسيس دولته في مناخ من الجاهلية والتشرذم أسقط بالاقناع ثم بالقوة نظام الجاهلية وأقام نظام الاسلام والسلم ( كل المسلم على المسلم حرام … ) وعندما حطم أصنام الكعبة لم يحطمها إلا لينهي عصر عبادتها وتقديسها الذي يهدد بعودة نظام الجاهلية والاقتتال …

أما تماثيل الموصل و آثار تدمر وغيرها فهي ذات قيمة تاريخية ومعرفية وتراثية وليس الهة دينية جاهلية معبودة ، بدليل أنها محفوظة في المتاحف وليس في دور العبادة، وأنها بقيت في كل العصور الاسلامية كشواهد على الحضارات والتاريخ … وعندما يدعي الخليفة البغدادي أنه يقلد الرسول والصحابة فهو يكرس ويجسد الفارق الشاسع بين العالم والجاهل ، فهي مجرد آثار ولم تعد مقدسة عند الناس … وعندما يدمرها فهو يدمر التراث المعرفي البشري ويفعل ما يفعله الهمج أمثال هولاكو … وهو بذلك كخلافة تدعي الإسلام يضيف بعدا جاهليا جديدا على سلوكه الذي لا علاقة له بالدين خاصة عندما يصر على تهجير واختطاف الأقليات وذبح الأسرى … وحكم الناس بمن فيهم السنة بالإرهاب والترويع والبربرية وليس بالعدل والرحمة … والمصيبة أن الغرب وبعض المسلمين معهم يعتبرونه الممثل الشرعي الوحيد للاسلام والمسلمين ، والمطبق الوحيد لشريعتهم الغراء …

مع أنها همجية قادمة من غبار الصحراء ووحشية البداوة وعتمة السجون وأنقاض المدن ودخان الحروب ، وتجسد ضيق العقل والأفق والحمق والجهل حتى بالدين ، وعودة للعصر الجاهلي والوحشية … وهي لم ولن تكون ممثلا للدين الإسلامي ، الذي فتح العالم ليس بهمجية البدو وجاهلية الصحراء ، بل بأخلاق الرسول التي حملتها الحضارة الإنسانية في بلاد الشام ، فأغلب الفتوحات الاسلامية وانتشار الدين كان في العصر الأموي الذي كانت عاصمته دمشق ولم يكن بقيادة مجانين الخوارج ( داعش ) ، ولا مهلوسي التشيع ولا طميه ( حالش ) … بل بقيادة شعب متعلم متحضر زاده الله من نعيمه بنعمة الاسلام … الذي لم يبعث للقتل والافساد والترهيب في الأرض بل هدى ورحمة للناس كافة، فحمله أهل الشام للعالم كله وقاد الحضارة والتقدم والقيم النبيلة طيلة العصور الوسطى ، وسيعود إنشاء الله على أيديهم … فالمعركة اليوم ليست ضد النظام و ضد التطرف بقدر ما هي دفاع عن الإسلام والمسلمين ( وا اسلاماه ) .

يعودون بنا اليوم باسم الاسلام للعصور الهمجية القديمة عصور البربرية والقسوة والتعذيب والذبح والصلب والخازوق والحرق باسم الدين وباسم الشريعة… فالأصل في الدين عندهم هو الماضي بشكله الذي يجب أن نبقى عنده نظما ووسائل وأشكالا وقوانين وعادات قبلية صحراوية وشرائع تتناسب مع قسوتها … والحجة أنها شرائع منزلة وصالحة لكل زمان ومكان ( قطع اليد ، والرجم ، وقطع الرأس ، والجلد ، والحرق … ) وكلها عقوبات ماتت وانقرضت من العالم أجمع ، لكن بعضا من المسلمين يصرون عليها ظنا منهم أنها الشيء الوحيد الذي يجعل الله يرضى عنهم … ويتناسون أن الأصل في الدين هو المنهج وليس الشكل الذي يخضع للظروف ولمستوى تطور الحياة والحضارة الاجتماعية الانسانية … فنحن في عصر تتدخل فيه الدولة بمؤسساتها القادرة في تنشئة وتربية الأجيال ، وهي مسؤولة مسؤولية كبيرة عن سلوكهم … وبدل اصلاح المناهج والنظم ، تطبق الحدود الانتقامية من الأشخاص كما طبقت في الماضي في عصر غياب الدولة الاجتماعية ، وهذا ليس من العدل ، وليس من الاصلاح ، ويتناقض مع مقاصد الشرع والتشريع والعدالة التي هي أولى بالاتباع من حرفية الشكل الذي يخضع لتطور الأزمان .

بالمقابل علينا أن نعمل عقلنا لنضع قوانيننا الجديدة المتناسبة مع حياتنا الجديدة وأن نعيش في عصرنا ، ونساهم في اعمار الكون ، وليس اعادته لعصر الجمل والضب … والظعينة والجارية والأمة … فهل ستسمح الدولة الاسلامية بعودة الرق … فهو غير محرم بالإسلام ، ولا زواج المسيار ، ولا زواج الأجر والسفر ، ولا التمتع بما ملك اليمين ولا سبي الجواري … وهل سيعتبرون المرأة عورة يجب وقرها في المنازل و حرث تملكه اليمين ؟ أم انسان له ذات القيمة والحقوق … ؟؟؟

هل الاسلام هو بذاته وشريعته مضاد للحضارة والتقدم والتغيير والارتقاء ، متثبت عند تاريخ صحراوي قديم بعاداته وتقاليده ؟ أم هو هدى ورحمة ومنارة يضيء درب البشرية التي أمرت باعمار الكون ، وهو صالح لكل زمان ومكان بسبب مرونة أشكاله وتلونها وثبات قيمه وأخلاقه التي بعث الرسول ليكملها … وهل يحرم علينا العمل والابداع وتطوير نظم العقل والاجتماع والقانون والسياسية والشرائع ، وهل المقصد من الشورى غير الديمقراطية الحديثة بوسائلها ونظامها … وهل يمكن تشكيل مجلس للحل والعقد بطريقة أرقى من النظام البرلماني الانتخابي …. هل عقوبة الجلد التي هي نوع من أنواع التعذيب المحرم دوليا هي من صلب الشريعة وحد من الحدود التي يجب تطبيقها ولا يجوز استبدالها … هل سنشرعن التعذيب في السجون مرة أخرى ، هل سنطبق حد الردة على كل من يفكر بحرية ؟ الرسول في زمانه قام بغزوات ، هل سنقوم بغزو الدول والحاضرات المجاورة ، أم نلتزم بالقانون الدولي ونحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها ؟

لكي نكون مسلمين علينا أن نتفكر في الاسلام ونعقله ، لا أن نقلد أشكالا قديمة من دون عقل ولا دراية … عندها لا تتوقعوا من أولادكم أن يبقوا مسلمين … فأنتم تدفعون بالناس خارج الدين ولكره الاسلام ثم تتباكون وتشتكون من هذه الردة عن الدين ومن كراهية الغير التي ترتد عليكم بسلوككم …

نقولها بالفم الملآن : لم يعد من المقبول حضاريا تطبيق هذه الحدود ( الشرعية ) . ويجب علينا أن نفهم أنها قد أصبحت في زماننا همجية وبربرية ، ولكي لا يقولوا عن الاسلام أنه همجي وبربري علينا أن نطبقه بطريقة أخرى ونغير أشكاله بما يتناسب مع تغير الأزمان … وهذا ليس مضادا للدين بل هو التعقل في الدين والابداع في أشكاله ، ومن لا يميز بين الشكل والمضمون ، وبين المحكم والمتشابه ، وبين الثابت والمتغير ، وبين المقصد والحرف … ويسطّح عقله ووعيه ، عليه أن يعيد عقارب الساعة 1440 سنة إلى الوراء فنحن في القرن الواحد والعشرين وليس في القرن السابع … ويكفينا جلد أنفسنا وجلد العالم ، فالشكل القديم لا يصلح ولن يطبق مهما قتلتم وقاتلتم ، لأنه لا ينفع الناس لذلك لن يبقى ، ولا بد من أشكال جديدة تحفظ الجوهر والغاية والمقصد التي هي من تنفع الناس بوسائل وطرق متجددة ، وهذا واجب العلماء الذين ورثوا الأنبياء بعد انقطاع الوحي ، ودورهم ابتداع طرق وأشكال تطبيق جديدة ومتناسبة مع العصر ومع المحكم ومقاصد التشريع ، أما التثبت عند الشكل لدرجة العبادة فهي عودة لعبادة الأصنام ، وابطال للعقل والمسؤولية والاستخلاف ، تنتهي بعودة الجاهلية وسيادة الوحشية …

نحن كمسلمين إما أن نعمل عقولنا ونتفكر في المتغير ونتناسب مع الحضارة ، أو فعلينا السلام والعالم لديه الحق في محاربة الاسلام إذا أصر المسلمون على استعماله لترهيب الغير وضد للحضارة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.