سوريا إلى أين ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يكثر من يسأل اليوم عن مصير سوريا … خاصة أولئك المحاصرين وسط الحروب أو الفارين بانتظار خمود لهيبها ، فالكل قد تعب وأنهك ودمر ، فما مر على الشعب السوري يفوق ما مر على غيره من شعوب في التاريخ الحديث … وأغلبية الديبلوماسيين يتحدثون بلباقة وسذاجة عن حل سياسي لسوريا من دون أي افق ولا جدية ، بينما يتحدث العارفون بوقائع الأمور عن موت سوريا وفوضى عارمة في المنطقة كلها ، التي تعيد بناء نفسها عبر تفككها أولا ، وهكذا وفي ظل غياب أي حل سياسي قريب ومنظور ومقبول ، فإن الأحداث تتجه للحسم العسكري ، أو بالأصح لاستمرار وتطور الحرب تبعا لقدرات القوى المتصارعة ومصالح الدول الداعمة لها …

ولمعرفة مصير سوريا القريب لا بد من استشعار التطورات الجارية على الأرض ، واستكشاف مواقف الدول المعلنة والمبطنة ، و حساب العوامل التي استطاعت اثبات فعاليتها …. فالقضية ليست سرقة معلومة أو سر من جهة أو دولة ولا اعتماد تصريح من مسؤول ، ولا ضربا من التنجيم ، لأن ما يجري في المنطقة هو تفاعل عنيف خارج عن السيطرة بعد تفعن دام طويلا ، وهو أكبر من قدرة أي دولة ، وأصعب من أن يحدث بقرار ، وأصعب من أن يدار من الخارج بدون الأخذ بعين الاعتبار تكوين المنطقة التاريخي وقواها الراهنة …

والعامل الأول الذي يجب أن يحسب حسابه فعلا هو الشعب السوري الذي استطاع تحطيم كل التفاهمات ، والعامل الثاني هو المنظمات الجهادية التي استفادت من مناخ الحرب وتكيفت معه بل أبدعت فيه وفاق أداؤها كل الحسابات ، والعامل الثالث هو الدول الفاعلة المتدخلة في الحرب من جهة النظام ومن جهة المعارضة …

وباستشعار كل ذلك أرى حاليا أن الأمور تسير على الشكل التالي:

منطقة محررة في الشمال بهيمنة تركية وبقيادة مجموعات اسلامية مسلحة جهادية وسياسية إخوانية ، ومنطقة محررة بالجنوب بقيادة مجموعات اسلامية أكثر اعتدالا صوفية وسلفية وهابية ، ومنطقة في الساحل تحتمي بالقوات الروسية ، ومنطقة في الوسط تحت النفوذ الإيراني الشيعي تتصل بلبنان ، وشمال شرق يحتوي نواة دولة كردية ، أما البادية والشرق والوسط فهي ستبقى حاليا تحت سيطرة داعش . التي ستتصل بالدولة الشيعية وتفصل لفترة قد تطول بين حلب ودمشق ، ريثما تستقر حالة من التمايز بينهما يصعب العودة عنها … فدور داعش هو ترسيم الحدود التقسيمية بانتظار قيام الكيانات المحلية ، التي ستقوم تبعا لمناطق نفوذ الدول … وبعدها قد يتطور نوع من الاتحاد الفيدرالي ، أو تتسارع عمليات الهضم والضم من قبل الجوار ، أو يتم الاعتراف بالتقسيم وترسيخه؟

أما العراق فترسم حاليا حدوده التقسيمية النهائية على نار الصراع مع داعش ، وهو قريبا سيكون ثلاثة دول على الأقل … لكن السلطة في المناطق السنية تبقى موضوعا يجب تغييره فيما بعد عندما تكمل داعش الطريق المرسوم لها ، أي ليس قبل نضوج خريطة الكيانات في سوريا والأردن … فالكيان السني العراقي سيقوم في النهاية كدولة لكن مع ضم قسم من سوريا ، بينما تنفصل ادلب وحلب وحماه عن دمشق ودرعا والسويداء ، ولا شيء يضمن هذا الانفصال بين حلب ودمشق إلا استمرار داعش في الوسط ، لذلك لا نرى أملا ولا نتوقع جهدا حقيقيا للقضاء على داعش في الفترة القريبة خاصة في وسط سوريا … بل ما نشاهده هو تسليمها المناطق وترك السلاح الهائل يقع في يدها . فالخطة الغربية هي ضبط سلوك داعش وتوجيهه وليس القضاء عليها .

في دمشق ستحدث تطورات دراماتيكية ينتهي بها النظام وينسحب ما تبقى منه حتى لو عبر لبنان لإقامة دويلة في الساحل بقيادة ماهر أو غيره ، وتحت حماية روسية مباشرة ودعم دولي ، وستدخل جيوش الغوطة الوهابية السلفية لدمشق بمساعدة عربية لحماية مصالح تجارها الذين يمنعون هذه القوات عن قتال النظام حتى الآن ويحضرونها لمرحلة ما بعد سقوط النظام ، فجهد تجار الشام (الماسونيين سابقا ) يتوافق مع الجهد الدولي الذي يتجه لحل سياسي في دمشق وحدها ينتهي بانتقال السلطة فيها . ورحيل بشار منفردا ، وتمرد جيشه وطائفته عليه .

أما في حلب فتميل الكفة لصالح تحرير حلب وادلب بالكامل لتجاور النظام في الساحل والغاب ، وداعش في البادية ويمكن أن تتوسع لتضم مناطق من محافظة حماه حتى ريف حمص الشمالي ، بينما يتم تجميع الشيعة والمسيحيين في الوسط . أي أن حمص عاصمة الثورة هي من سيدفع الثمن الأكبر وستقوم بها دولة استيطان شيعية محروسة بقوات ايرانية . وسيقوم الأكراد بالتضييق المتواصل على عرب الجزيرة وتهجيرهم لمناطق داعش بمساعدة من كل الدول عدا تركيا. وستقوم الدويلة العلوية بمحاولة طرد السنة من الساحل .

إن فتح معركة الساحل يعتبر خطا أحمر دوليا ويستدعي تدخلا روسيا بسكوت أمريكي ، كما سيتم تركيز جهود السلام لتسليم دمشق لسلطة انتقالية ، ومشروع ديمستورا لانقاذ حلب من التحرير الكامل قد باءت بالفشل ، والأمور تتجه نحو الحسم العسكري بعد اكمال حصار مناطق النظام فيها بتحرير أريحا ، لذلك ستتجه الجهود الدولية لإخراج من يريد الفرار من حلب خاصة الأرمن والشيعة عبر كريدورات انسانية . في حين سيسلم النظام مناطقه شرقي حلب لداعش التي ستحاول دخول حلب ، لكنها ستفشل وتدور معارك هي الأعنف بينها وبين مجموعات المجاهدين الأخرى وستكون حرب انهاك واستنزاف لكلا الطرفين بإشراف وتشجيع دولي بدأ بتدريب المقاتلين على ذلك .

أما في الجنوب فالأمور ستسير بطريقة أقل دموية و أكثر سلاسة ، وبانضباط أكبر ، بسبب قربه من اسرائيل ، التي ستركز الجهود لتحجيم النصرة ودورها في الجنوب بطريقة ناعمة ، وكذلك حزب الله الذي تخلى نهائيا عن حرب اسرائيل واتجه للسيطرة على لبنان وتحويله لمنطقة نفوذ ايرانية معادية لجيرانها . وهذا ما سترضى عنه الدول الغربية المتجهة للتحالف مع ايران . أما الأردن فاستقراره حاليا ما يزال خطا أحمر بانتظار تحوله مع الزمن وبشكل سلس وديمقراطي لدولة فلسطين البديلة كأمر واقع ، أو قد يتطلب هذا دخول داعش لبعض مناطقه لتقسيمه بحيث تتوسع دولة دمشق لتشمل مدن شمال الأردن أيضا ، وينضم البدو للكيان السني الصحراوي الداعشي الذي قد يمتد لشمال السعودية أيضا التي وضعت هي الأخرى على مسار التقسيم كما يبدو … حيث تخلت أمريكا عمليا عن سياسة دعم استقرارها ونفضت أيديها من الحلف معها ، وهكذا يستقل الفلسطينيون في وسط الأردن وغربه ويقيموا دولة فلسطين لكن شرق نهر الأردن ، وستبقى الطائفة الدرزية منقسمة على ثلاثة أقسام ، قسم مع الشيعة وقسم مع السنة وقسم مع اليهود وتلعب دور الوسيط بينهم ، بينما يتجمع معظم مسيحيي المنطقة في جبل لبنان ( لبنان الذي شكلا نموذجا فريدا للتعايش الساخن والقلق في المنطقة بين المكونات والثقافات ) .

هكذا ترسم الآيديولوجيات والديانات واللاعبون الجدد خريطة الشرق الأوسط الجديد ، بعد أن رسمها لاعبون آخرين قديما ، فتغيرت الموازين وتغير اللاعبون فتغيرت الخرائط …

النقطة الأضعف في هذا المشروع هو وسط سوريا حيث تتقاسمه ايران وداعش فالحرب في القلمون وحمص هي من ستبقي على وحدة سوريا ، كما أن زعزعة استقرار الساحل هي وسيلة هامة لافشال المسار التقسيمي ، وانهاء حزب الله المترنح في لبنان ، وترسيخ استقرار لبنان هو بوابة اعادة إحياء المشروع الاتحادي في المنطقة ، وصمود عرب الجزيرة في أراضيهم أيضا ، وهو ما يتطلب دعما من أصدقاء سوريا الحريصين عليها خاصة تركيا . ولا يجب أن ننسى كذلك ضرورة اسقاط نظام الملالي في ايران الذي يخوض حربا شرسة ضد شعبه وأقلياته وضد الحضارة والسلم .

في كل حال لا يبدو هذا السيناريو التقسيمي العسكري قادرا على الاستقرار والثبات مجتمعيا واقتصاديا … فهو مؤقت وعسكري … ولا يبدو أن الشعوب ستستمر بقبوله فترة طويلة بعد أن تسترد أنفاسها … لكنها الآن ستقبل بأي شكل يحقق لها بعضا من احتياجاتها التي هي ملحة جدا … ليتهيأ المناخ تحت ضغط الحاجة لانضاج مشروع اتحادي جديد يقوم على التنوع .

ومع هذا الواقع المحزن لا يجب أن نصاب باليأس ، وعلى من يعلن وفاة سوريا أن يفهم أن سوريا الدولة السجن التي صنعها الاستعمار من السهل أن تموت ، لكن لا لتعيش مكونات طائفية متزمته هزيلة فوقها، بل لتحيى بلاد الشام الدولة التاريخية التي هي الشكل السياسي الوحيد القابل للحياة في هذه المنطقة . لكن اعادة انبعاث بلاد الشام من جديد يتطلب مراجعة ذاتية عميقة عند كل مكونات المنطقة وفي ثقافاتها ، تمهيدا لاعادة صياغة العقد الاجتماعي السياسي فيها على أسس تناسب ظروف العصر والحضارة … فالحدود التقسيمية العسكرية العدائية الراهنة لن تكون في صالح أحد في المنطقة على المدى الطويل ، وما يبقى ويدوم هو ما ينفع الناس ، أي التعايش والتعاون والتعارف القائم على احترام القيم والعدالة والذي ينتهي بالوحدة .

أي أن التاريخ الجديد للشرق الأوسط الإتحادي ستصنعه شعوبه وليس التدخل والتآمر الخارجي ، وسيكون نقلة نوعية نحو المستقبل الحضاري وليس عودة همجية للماضي . فالتاريخ يسير للأمام وليس للخلف . وكما علمنا التاريخ … وبعد كل أزمة شهدتها المنطقة ولدت فيها سوية أرقى من الحضارة ودمشق الحاضرة المدنية الأقدم في التاريخ والتي تقع على ملتقى ثلاثة قارات هي عاصمتها ومركزها التاريخي .

وإننا لعائدون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.