كيف ومن سرق الثورة ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

لم تندلع الثورة بقرار من حزب أو مجموعة سياسية ، بل اندلعت عفوية في الشارع ولحق بها من يدعي السياسة ومن تطفل عليها من المسيسين الجدد بعد حرمان طويل من الحياة السياسية … فالثورة لم تكن حصيلة تراكم نضال سياسي لأي مجموعة أو إعلان أو حزب ، بل بالعكس من ذلك معظم (إذا لم نقل كل ) القوى والسياسيين تأخروا وترددوا قبل إعلان انضمامهم للثورة وليتهم لم يفعلوا … بسبب غياب تجربة الحياة السياسية وقواعدها وقيمها عندهم.

بعد أشهر من اندلاع الثورة وتزايد الدعم لها وفشل النظام في قمعها ، وبداية تحولها للكفاح المسلح ضد جيش وعصابات النظام قرر اعلان دمشق والإخوان الانضمام للثورة على طريقتهم ، أي إحياء حلف جبهة الانقاذ الذي خانه الإخوان وأهمله الإعلان ، فقاموا بتأسيس المجلس الوطني السوري ، بهدف إيجاد جسد قيادي للثورة بتوجيه ورعاية ودعم من الدول المتدخلة فيها ، والتي تحولت فيما بعد لمجموعة أصدقاء سوريا التي قادتها قطر وتركيا والسعودية في البداية ، والتي اعترفت بهذا المجلس ممثلا شرعيا وحيدا للشعب السوري …

وإعلان دمشق هو ورقة وبيان توافقي صيغ في عام 2005 بعد مقتل الحريري مستفيدا من الضغوط المطبقة على النظام ، هو تجميع لحصيلة نشاطات المعارضة وربيع دمشق ، وتطوير لأوراقها التي بدأت ببيان ال99 والألف ، ووقعت عليه معظم القوى والشخصيات الناشطة آنذاك، ثم تحول هذا الإعلان لمجموعة سياسية بتوجيه أمريكي ورعاية من المخابرات العسكرية ( آصف شوكت ) الذي سمح لهم بعقد مجلس لهذا الإعلان في العاصمة دمشق ، وتشكيل جسد سياسي رمزي للمعارضة السورية عام 2007 ، انتخب قيادة سرعان ما اعتقلت من قبل أمن الدولة ، بضغط ايراني ، وفشل آصف بحمايتها بعد تدخل حزب الله ، وفشلت الجهود الأمريكية أيضا في تحرير المعتقلين ، حيث زار كيري الأسد وتلقى منه وعدا بإطلاقهم ، لكن الأسد نكث بوعده في اليوم التالي وصرح أنه لا يناقش قضايا داخلية مع أطراف خارجية … وهكذا وعشية إصدار الحكم على مجموعة الإعلان التي لم تقدم دفاعا عن نفسها أمام المحكمة  تسرب أن الحكم سيكون سبع سنوات سجن ، فتدخلت الحوامات الأمريكية في دير الزور وقتلت واعتقلت من تدعي أنهم ارهابيين يستعملون الأراضي السورية ، في رسالة تهديد عسكري ، أدت لتخفيض الحكم لسنتين ونصف ، وفي السجن وبعد الخروج منه وخارجه توقفت هذه الجماعة تماما عن العمل السياسي في الداخل وصرحت بذلك التوقف ، فتابع به منفردا رياض الترك الذي شكل مع الإخوان وعبد الحليم خدام جبهة الإنقاذ التي لم تعمر طويلا ، حيث أوقف الإخوان نشاطهم المعارض بسبب موقف النظام من حرب غزة عام 2008 ، وهكذا انفرط عقد الإعلان وعقد جبهة الانقاذ ولم يبق في الميدان سوى رياض الترك الذي كان حزبه قد تلاشى فتمسك بالإعلان الذي صار بديلا عن حزبه المتلاشي ، وصار هو صاحبه بدلا من رياض سيف الذي أعلن استقالته من العمل السياسي بعد خروجه من السجن والتفاته للشؤون الاجتماعية والانمائية برعاية الاتحاد الأوروبي ..

وكما صممت الحركة القومية الإشتراكية للتصارع مع التراث الإسلامي ومع الدين وعملت بإشراف ورعاية المخابرات الدولية ( الأمريكية ) ، صممت أيضا حركة الإخوان المسلمين كحركة سياسي دينية حديثة للتصارع مع الحركة القومية ، والتي عملت باشراف المخابرات الخارجية البريطانية منذ الأربعينات ، وتعرضت هذه الحركة في مصر لضربات موجعة ، ثم في سوريا عام 1982 ، حيث تعرضت لضربة قاسمة انهتها تماما ، وتشتت بعض رموزها في الخارج والذين لا يزيد عددهم عن عشرات حافظوا على شكل ما من التنظيم السوري بتمويل صدامي أو قطري ودعم تركي ، ورعاية بريطانية …

عام 2011 عندما اندلعت الثورة لم يكن للإخوان في الداخل أي تواجد ، وفي الخارج تمثلوا بعدد لا يزيد عن عشرة أشخاص هيمنوا مع بعض رموز اعلان دمشق التابعين لرياض الترك المدعوم فرنسيا على قرار الثورة وتمثيلها ، عبر المجلس الوطني الذي اختزل بشخوصه العشرة المعروفين ، وبينما كان المال والسلاح يوزع فقط عن طريق الإخوان ولخدمة بناء قادة اجتماعية عسكرية لهم ، كانت جماعة الاعلان اليساريين تتمتع بالزعامة والسياحة السياسية … واستمر ذات الحلف بذات الطريقة عندما تم التحول نحو ائتلاف قوى الثورة .

وهكذا ازداد وتجذر انفصال الشارع عن القيادة المزعومة التي عينت نفسها وصية عليه من دون آليات ولا معايير ولا طريقة محاسبة أو تجديد ، وافترق الدعم عن وجهته الحقيقية من دعم الثورة لدعم فصيل سياسي ، هذا الفصيل كان همه الحصول على السلطة بعد سقوط النظام وليس اسقاط النظام … أما الثورة التي اندلعت في الأحياء الفقيرة والريف المعدم العطش لكل شيء ، فقد أصبحت بشكل متزايد تحت قيادة الحركة السلفية الجهادية التي عرفت كيف تحافظ على تواجدها بين الناس وعلى دورها على الأرض ، وكيفية الافادة من الشعور الديني لتنظيم أمورها وزيادة  حجم منظماتها ، لكنها لكونها حركات حديثة غير عريقة التنظيم كانت تفتقد بشدة للحنكة السياسية ، وبشكل مواز للدعم الذي احتكره الإخوان الذين ما يزالون يحاولون من دون هوادة خطف قيادة الحركات السلفية بالاختراق وزرع العناصر وتلميع القيادات وازاحتهم ، أو بالتدليس والمال والتلاعب كما حصل ويحصل في كل مؤتمرات المعارضة السياسية والعسكرية والتفاوضية … و مع تزايد هيمنة التيار الإسلامي على المعارضة خرج اعلان دمشق ومن شابهه كليا من المعادلة ، وتحول لمجرد زينة تجميلية لا ترضي كذبة الغرب بتمثيل الشعب وكافة التيارات المدنية والعلمانية والأقليات المحبوبة ، والذي اعترف بمعارضات أخرى أكثر هزالة منه ، بينما صبغت الثورة بصبغة التطرف ثم الإرهاب ، عن عمد وتخطيط وتسهيل من قادتها الحمقى الذين ما كانوا ليدركوا أين يسير بهم المركب في زحمة تنافسهم على الكراسي والمتع ، ولهاثهم وراء الأضواء والصور …

وهكذا انقطع الدعم عن الثورة التي صارت تطرفا ، وفشل الريف المنكوب والأحياء الفقيرة في متابعة ثورته ، وتعرض للحصار والدمار والإبادة والتهجير على أعين ومسمع القيادات والأصدقاء، ونشأت ظاهرة أمراء الحرب الذين تمايزت مصالحهم وصاورا يعقدون الصفقات والهدنات ( الصورة في ريف دمشق الغربي والشرقي مثال دقيق عن هذا ) ، بينما اجتاحت داعش المناطق الصحراوية الفقيرة وسيطرت على نصف مساحة سوريا من المناطق القاحلة ، وتنامت قوة الميليشيات الكردية الشيوعية بدعم من النظام وروسيا ومن ثم أمريكا وبدأت بالسيطرة على كامل شمال سوريا بذريعة محاربة داعش ، وازداد نفود النصرة وحلفائها في المناطق القروية المكتظة ، وهي تحاول تشكيل امارتها في قرى آدلب وغرب وجنوب حلب ، ولم يبق للجيش الحر والمعارضة المزعومة المعترف بها سوى تواجد عسكري وسياسي رمزي… وهي تدفع الآن  للإرتماء في حضن الأسد الذي صار منقذهم الوحيد ( بتدليس ومبادرات من رموز معارضة مندسة لهذا الغرض ) ، فالتحالف مع الأسد هو وسيلتهم الوحيدة المتبقية للاستمرار في الحياة السياسية كعملاء للغرب وموظفين عنده … هذا ما قبل به معظم رموز وقيادات المعارضة وكل رؤساء ومجالس الإئتلاف والمجلس والحكومة والأركان وهيئة الرياض عمليا وفعليا ، ولا قيمة بعد ذلك لبياناتهم اليومية التي تدعي عكس ذلك أو تسميه معركة التفاوض . حيث لا قيمة لشهادة الكذاب والمختلس خاصة بغياب التفويض الشعبي .

بدورها نجحت الحركات الجهادية السلفية في استعداء معظم المكونات المجتمعية وبشكل خاص الأغنياء وسكان المدن والأقليات ، ودفعتهم للتمسك بالنظام ، ونجحت أيضا في استعداء كل دول العالم ودفعتهم لإعادة الشرعية لنظام الأسد ، مع أنها الوحيدة المتبقية تقاتل في وجه النظام ، لكنها فشلت في تهديده واسقاطه أيضا بسبب صراعاتها الداخلية التي لا تنتهي ، إن كانت بين النصرة وداعش المنشقة عنها ، أو بينهما وبين حركات اسلامية أخرى  … أما من فكر في دعم الثورة فقد وقع في حيرة من أمره بين معارضة معترف بها دوليا  فاسدة لا قيمة سياسية لها ، وبين قوى على الأرض لا يمكن التفاهم معها ولا تسويقها ..  وهكذا كانت النتيجة التي ترونها : خمس سنوات من القتل والتدمير والاحتلال  والتهجير ومئات آلاف الشهداء ، وبقي الأسد الولد وكأن شيئا لم يحدث ، بل صرح كيري بضرورة البحث عن مبادرات خلاقة لإعادة توظيف الأسد كحل وحيد لمشكلة سوريا ، وهو هدف المجتمع الدولي الحالي ، وهو ما تدفع هيئة الرياض للقبول به ، فإذا قبلت صارت هي القيادة التاريخية الصحيحة المعترف بها ، وفق قاعدة ( الإعتراف على قدر الخلع والتعري ) …

ومع ذلك نقول : لم يكن فشل الثورة بسبب انتهازية أشخاص الإعلان والإخوان ، ولا من لف لفهم من المنشقين الهاربين من غضب المجتمع عليهم وعلى نظامهم الذي انتفعوا منه وأوصل البلاد لهذا الحال ، و لا من تورط معهم من التافهين المتسلقين الفارغين العملاء والوكلاء لمخابرات الدول الأجنبية الذين أغرقت بهم مؤسسات ومجالس الثورة ، ولا من التافهين الذين نقرف وجوههم كما نكره وجه بشار … فهذا كله ظاهرة لها حاملها الاجتماعي … إنه فشل الحامل الإجتماعي للثورة السورية ذاته ، أقصد الريف السني والأحياء الفقيرة في المدن السنية العربية ، التي تسببت حتى الآن بكارثتين على سوريا ( كارثة في منتصف القرن الماضي عندما ساهمت في ايصال البعث ومن شابهه للسلطة ، والتي تحولت لسلطة طائفية وراثية عميلة وكافرة بكل قيمة دينية وخلقية ووطنية ، ومرة في بداية هذا القرن بتفريخ الحركات الجهادية السلفية المنغلقة العقل والضيقة الفهم التي استعدت العالم كله وصبغت بصفة الإرهاب )  ….

لذلك من الضروري أن نتوجه لهذا الحامل الاجتماعي الهام والحاسم في سوريا العربية السنية ، وننتقد ثقافته السياسية المتخلفة التي تسببت بهذه الكوارث ، فهذا نشاط أساسي للخروج من الحالة الراهنة ، ونوضح ونكرر لأهلنا الذين نحب أن السياسية هي تعبير مدني معقد ومؤسساتي ، وأن عقلية ابن العيلة والحارة وزميل دروس الدين وشيخ الجامع لا تصلح في سياسة الدول ولا في انجاح الثورات وبناء الحضارات …

نحن اذ نعرف مقدار تحالف تجار مدينة دمشق ومشايخها مع النظام (حتى لو كان بعضهم يصطف مع المعارضة شكلا )، ونعرف دورهم في السكوت عن تدمير وتهجير ريفها وأحيائها الفقيرة … ننتظر أن نعرف ما هو رأي أهل مدينة حلب هل سيعيدون النظام إليها نكاية بالريف الذي أقحمهم بثورته  ؟؟؟  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.