خامسهم … عمر – فلسفة السياسة عند الراشدين

 

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يحكى أن والي خناصره طلب مالا ليسور المدينة ويرصف طرقاتها فأجابه  عمر بن عبد العزيز: ( حصنها بالعدل ، ونقي طرقها من الظلم …. ) ، ويحكى أن أحد الخلفاء الراشدين كان يحرص على إفراغ بيت المال قبل أن يبيت للنوم  مرتاح الضمير … ويحكى أيضا أن خليفة آخر عندما سؤل عن مصير مكتبة الاسكندرية وقد حوت تراث العالم القديم وحضاراته آنذاك ، أجاب :  (ما وافق كتاب الله فاتركوه ، وما خالفه فأحرقوه … ) حاصرا شرعية المعرفة بحدود الأيديولوجيا … ويحكى ويحكى …

ليبدو من الوهلة الأولى أن واجبات السياسي ومسؤولياته في مفاهيم الخلفاء لم تكن  تزيد عن مسؤوليات شيخ عشيرة أو حلف قبلي ، فالخلافة الراشدة  لم تدرك مفهوم الدولة والسلطة والسياسة ولا نوع وحجم المسؤوليات الجديدة التي تقع على عاتق الخليفة ، فحصرت صلاح الحاكم بتقوى الله ، دون قدرته على القيام بالمهمات الجديدة الكثيرة المستحدثة والضرورية لإدارة الدولة وحفظها ، حيث بقيت التقوى هي الصفة الأهم في هذه الحقبة ، لذلك سميت بالخلافة الراشدة ، مع أنها كما سنرى كانت فقيرة للسياسة إذا ما قورنت بالدول المحيطة ، أو ما قورنت بالقدرات العسكرية الهائلة التي هيأتها الدعوة الاسلامية عندما وحدت قبائل العرب ووجهتهم للفتح بدل التغازي والتصارع … فقد اقتصر البناء السياسي فقط على الخليفة والوالي والعمال ، ومورس الحكم من دون سلطة تشريعية ولا تنفيذية  ولا حكومة ولا وزارات ولا مؤسسات …

في تلك الحقبة لم تكن المؤسسات هي التي تدير بل فقط شخص الحاكم ، وكان صلاح هذا الحاكم ليس في مهارته وادراكه لفنون الحكم والسياسة وخبرته بها ، بل فقط في مخافة الله ، التي لا علاقة لها بنجاحه في مهامه المعقدة الجديدة، إلا من باب التوكل الكامل، فمهمة الحاكم هي التقوى فقط  والتوكل في المهارة ، وشؤون الدنيا لا تساوي إلا القليل ، ومهمة السياسة  ليست مقدسة ولا دينية لذلك لا قيمة ولا أولوية لها … فيقوم الحاكم بصرف كل المال تخلصا من الهم والمسؤولية ، حيث لا يوجد عنده فكرة عن الادخار ولا الموازنة ، لأنها قد تحمل معها المزيد من احتمالات التقصير ومخاوف المساءلة ، مما يدفعه لاختيار الحل الأسلم والأقل مخاطرة شخصية … فالسلطة في مفهومه بلاء و مفسدة وهاوية وهم وغم، لذلك يجب لجمها ، فيعزل عسكري ناجح مثل خالد بن الوليد ، ويعين من هو تقي حتى لو لم يعرف بفنون الحرب ، و يأمر بوقف الفتوح وعدم التوسع. ويتصرف كداعية دينية همه النجاة ، ويتجنب المخاطر والمزالق التي يتطلبها العمل السياسي، لأن فيها وسائل غير نظيفة قد يسأل عنها .

سارع عمر الثاني  لخلع الولاة القادرين واستبدلهم بولاة ضعاف أتقياء ، وأمر بسحب الجيش من حصار عاصمة الروم  بعد أن أوشكت على السقوط ، خوفا من تضور أهلها جوعا وسؤاله عن ذلك يوم القيامة ، وأطلق كل السجناء خوفا من أن يظلم أحدهم فيسأل عنه يوم القيامة . ورفض توظيف الحراس خوفا من أن يسأل عن تبذير أموال المسلمين … وهكذا فالخوف من السؤال يوم القيامة جعله يلغي معظم أدوات السياسة ويبطل عملها، ويعطل القضاء والأمن، لذلك بالذات وصف بأنه تقي وأضيف للخلفاء الراشدين ، لكن لم يذكر أحد مقدار فشله في مهمته كرئيس دولة ،  صرف على المحتاج لكنه لم يطور موارد الدولة ولم يحصنها ، أمن الناس العقاب فرفعت الفتن رؤوسها ، أوقف الغزو والفتح فتكالب الطامعون … وأخيرا قُتل بالسم هو وولده لقلة تدبيره واحتياطه ، وهو يسميه توكلا على الله ، فلكل أجل كتاب تعني عنده ألا يتخذ أي احتياط ولا تدبير ، أي أن فلسفته هي التركيز على تقوى الوسيلة ، مما أفقده الغاية …

بينما استطاع غيره بعكسه تحقيق الغاية بتغاضيه قليلا عن تقوى الوسيلة، فسمي فاجرا ( عبد الملك وابنه الوليد ومعهم الحجاج ) ،  فالبلدان فتحت على أيديهم وتوسعت الدولة وهدأت الفتن والصراعات السياسية وساد الأمن وازدهر الاقتصاد وأجبر الكسول على العمل تحت تهديد سيف الفقر ، وترك للأتقياء فضل البحث عن المحتاج الحقيقي ومساعدته منة وإحسانا وأجرا ، وليس حقا ولا راتبا من الدولة يشجع الناس على التظاهر بالمرض والعلة والتكاسل .

كيف حصن المدن بالعدل ؟؟ .. هنا في هذا المجاز الفلسفي يقوم بخلط متعمد بين المفاهيم قاصدا به ضرب عصفورين : 1- رفض دفع المال حتى لا يسأل عن التبذير ، وحصر مصارفه بأبواب الصدقات المعروفة المضمونة ، وهو ما يعني إهمال تمويل احتياجات الدولة ، 2- التظاهر بالأمر بالعدل : نقول تظاهر لأن المدينة بقيت بلا سور يحميها من الغزو ويضبط دخول وخروج الناس ، وتسلل اللصوص والمجرمين … وكأن العدل لا يتطلب تطبيق القانون ولا وجود جهاز شرطة فعال وقدرات على المراقبة والضبط ، فالعدل في نظره أن نأخذ من الغني بالقسوة ونعطي الفقير بالرفق قبل أن يضطر للسؤال ، ولكن هل هذا ينهي الظلم ، أليس من الظلم أخذ المال من المبدع والمنتج والفعال واعطاء المتكاسل البليد ، ألا يدمر هذا دافع العمل القائم على التنافس والتسابق على الثروة والسلطة ، ألم يدمر هذا المبدأ نظام الدول الاشتراكية التي كانت أنظمة للفقر تحت ذريعة مساعدة الفقير . ثم ماذا عن فرض احترام النظام والقانون ومؤسسات الشرطة والمراقبة والمعاقبة أليست حاجة أساسية للعدل .

وكيف عبد الطرقات بمنع الظلم ؟؟  بسبب نقص المال بقيت من دون حجارة وتعبيد وتسوية ، فالظلم لا يحفر الطريق ، بل إن الطريق المحفور هو ظلم للعامة من الناس ، ومشقة عليهم وتخريب لعرباتهم وإعاقة لحركتهم وعناء للعاجز والضرير والكبير في السن ……

هنا يغيب الفصل بين مواضيع التقوى ومواضيع السياسة والإدارة ويغطى التقصير في الثانية بمبالغة وافراط بالأولى ، فيتم من حيث النتيجة إلغاء السياسة وتوقف الحياة العامة والرسمية من أجل التقوى، مع أن الرسول غزا وحاصر وقاتل ، وعمل بأمور السياسة والحرب ، ووزع المال والغنائم تبعا لمصلحة الإسلام والدعوة وليس تبعا لمبدأ العدل الحصصي …

حتى الردة ذاتها التي حاربها أبو بكر لم تكن ضد الدين بل ضد دفع الصدقات ( لقريش ) التي لم يفهمها العرب كرسوم وتمويل لقيام الدولة ، ولم تظهر كذلك ، كما أن الكثير من المقاتلين ما كانوا ليشاركوا في الفتح والجهاد لولا حصتهم من المغانم ، ولو اهملت هذه العوامل الدنيوية لسقطت الدولة الاسلامية منذ بدايتها ، وأكلتها الدول الأقدر على سياسة الناس وتحشيد الجيوش .

هذا ما فعله الراشدون المتقون الذين عجز معظمهم عن إدارة الدولة ومات مقتولا بقصور أمني مريع ، فبدل التركيز على فكرة عدلت فأمنت فنمت ، كان المفروض التركيز على مقتل الخليفة غدرا بسبب النوم عن أهمية الأمن ، بينما استطاع غيرهم بواسطة حسن استخدام أدوات السياسة والسلطة أن يفرضوا الطاعة ويوطدوا الأمن ويوحدوا الدولة ويسيروا الجيوش للفتح ، ويتغلبوا على النزعات القبلية ، والتنازع القومي ، ويزيدوا موارد الدولة ومنعتها … ويورثوا حكمها لأولادهم من بعدهم وهم على فراش الموت الطبيعي ، وهذا كله ما كان ليتم لو فكروا بطريقة الراشدين وخامسهم عمر … فكيف إذن ينجح الخوارج في قتل علي رضي الله عنه ، ويفشلوا في قتل معاوية وعمر بن العاص . لكل أجل كتاب أم لكل شيء سبب … وهل الكتاب غير هذا السبب ، من فهم كلمة كتاب بأنها شيء آخر غير النظام السببي الذي علينا عقله والتبدر فيه ، وحورها ليجعل منها تاريخاً محدداً لا ينفع معه الحيلة ولا التدبير ولا الاحتياط ، هو الذي ولد الجبرية والتواكل والتخلف … هذا الخلط بين القضاء والقدر الذي ولد التواكل والجبرية وأبطل السعي والعمل والتدبير ؟ نعم الكتاب هو القانون والنظام الذي نعقله ونقدر فيه ونسعى ، ويقدر رب العالمين فيه أيضا كفاعل قدير ، وعندما تتحقق شروطه وتكتمل لفعل الفاعلين يحدث الحدث ويتم القضاء بتقديرهم ، ولكن قبل اكتمال شروطه يبقى للعمل والسعي والدعاء دور وضرورة ، فقوة وقدرة الله على قهر أفعالنا لا تعني أنه يجبرنا ولا يعطي قيمة لعملنا ودعائنا الذي يغير من قدره .

نعم نحن نتحدث عن فلسفتين ، ونوعين من الخلفاء أو الخلافة : الأول يخاف الله ويتقيه فعلا في كل صغيرة وكبيرة ويحظى بالمغفرة ، لكنه ضعيف في السياسة بسبب عجز أدواته  ، وبسبب ذلك هو مقتنع بأنه فعل الشيء الصحيح الممكن ، فما قيمة الدنيا ، وما قدرة الإنسان غير التسليم لقضاء الله وقدره ؟؟؟  والثاني نجح في السياسة ومهمته ، ونجّى الأمة والعامة من شرور كثيرة ، لم يمكن التخلص منها من دون بعض التجاوزات والقسوة ، ولكنه يعتبر نجاحه بمثابة شفاعة له عن تجاوزاته التي أصابت الخاصة لكنها كانت بهدف صلاح وخير العامة. فهو يفهم القضاء كشيء يمكن عقله والتقدير فيه ، فتسليمه بالقضاء ليس تسليما استسلاميا بل هو فعل وعمل ضمنه وضمن خياراته ، وخضوعه للقدر هو خضوع قهري لقدرة العزيز القهار الذي أمره غالب … أي يستمر بالسعي والعمل حتى يتم الأمر فيسلم ويحتسب ، لذلك الإيمان عنده يعني العمل والسعي والاحتياط والتبدر والعمل بالأسباب ، ومن وجهة نظرهم أن الله قد ابتلى الناس ليحاسبهم على أعمالهم ، وهو سبحانه يتوقع أن لا تكون أعمالهم كلها خيرا … لذلك تمحو الحسنة السيئة  ويضاعف لمن يشاء … أما عدم العمل خشية ارتكاب الخطأ ، والهروب من تحمل المسؤولية ، و تحطيم مفاعيل السلطة وأدواتها بدافع التقوى ، فهي من أفشلت الخلفاء الذين أداروا الدولة كرجال دين وليس كسلاطين يستخدمون أدوات السلطة من قوة ومال وترغيب وترهيب وحيلة ومكر ودهاء وخديعة.

خطب الحجاج في أهل الكوفة : ( إني والله يأهل العراق ومعدن الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق ما يقعقع لي بالشنان ولا يغمز جانبي كتغماز التين ولقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وجريت إلى الغاية القصوى وإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه فعجم عيدانها فوجدني أمرها عودا وأصلبها مكسرا فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتن واضطجعتم في مراقد الضلال وسننتم سنن الغي أما والله لألحونكم لحو العصا ولأقرعنكم قرع المروءة ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون وإني والله لا أعد إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت فإياي وهذه الشفعاء والزرافات والجماعات وقالا وقيلا وما تقول وفيم أنتم وذاك)

وخطب في أهل البصرة ( أيها الناس من أعياه داؤه فعندي دواؤه ومن استطال أجله فعلي أن أعجله ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه إن للشيطان طيفا وللسلطان سيفا فمن سقمت سريرته صحت عقوبته ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة ومن سبقته بادرة فمه سبق بدنه بسفك دمه . إني أنذر ثم لا أنظر وأحذر ثم لا أعذر وأتوعد ثم لا أعفو إنما أفسدكم ترنيق ولاتكم ومن استرخى لببه ساء أدبه إن الحزم والعزم سلباني سوطي وأبدلاني به سيفي فقائمه في يدي ونجاده في عنقي وذبابه قلادة لمن عصاني والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه ).

هذا منطق السلطة وفلسفتها  بينما الخلفاء الأتقياء أعطوا الفقراء ، وقتروا على السادة وضيقوا عليهم ، مما أضعف سطوتهم وسطوة الدولة ذاتها ، وشجع على التمرد والتآمر على السلطة ، ولم يقدم الفقراء أي نفع لهم ولسلطتهم ودولتهم ، بل زادوا من تواكلهم … مما يدفعنا للسؤال : لماذا هم فقراء وكيف تعالج مشكلة الفقر ، أو لماذا علاجها ضروري ، ولماذا كُره الغنى والغني ، والسلطة والسلطان … وهل تحل هذه القضية بتوزيع المزيد من الصدقات ، و المزيد من التسامح مع الفوضى والمخالفات ، هل المطلوب أن يستريح الناس ويأكلون ويشربون تسولا … لا يكافحون ولا يقاتلون ولا يجاهدون ولا يتعرضون للمشقة والقلق والنقص والله يقول :

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) } (سورة البقرة 155 -–157)

{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) } (سورة الأَنعام 165)

{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) } (سورة الزخرف 32 – 36)

إذا كان الله قد ابتلى الناس فكيف سيرفع عنهم عمر هذا البلاء ، وهل المشكلة التي يعاني منها الناس هي فقط قلة الزاد ، ولماذا لم يأمر بتحرير العبيد والجواري أليسوا مستضعفين ويعانون ؟ ألا يرى عمر إلا نفسه ، التي يخشى عليها أن تسأل ، وماذا عن واجبه  ووظيفته الإدارية  وهي أمور تهم العامة من دونها يعم الخراب والفتنة وهي أشد من القتل ، ولماذا لا يترك عمر التقي الورع هذه الأمور لمن هو قادر وراغب في تحملها، بدل أن يعتكف بالمنزل ويدمر الخلافة والدولة ويجردها من كل أدوات القوة والمنعة والهيبة … ؟؟

في تلك الفترة ، نظام الشورى لم يكن ممكنا ، ولم يطبق لغياب آلية هذه الشورى ، وغياب امكانية تشكيل وعقد مجالس الحل والعقد في أمة مترامية الأطراف ، ولم يكن هناك امكانية لقيام دولة المؤسسات الحديثة ، ولا النظام الديمقراطي المعروف حاليا ، بل كان استبداد الحاكم شرطا لاستقرار السلطة، أما الإمام التقي العادل الذي لا يستطيع أن يكون ديكتاتورا حاكما حازما تهابه الناس وتخشى سيفه ، فيفشل ويذهب عنه الملك لأهل الملك ، فلكل زمان دولة ورجال ، وأول الخراب أن يسدى الأمر لغير أهله …

استمر حال الخلافة هذا بين تقي فاشل وجبار متسلط ، حتى ابتعدت الشريعة عن ظروف تطبيقها وتغيرت الأزمان  وصارت قاسية ولم تعد تطبق إلا انتقائيا بأمر الحاكم الذي صار يستخدمها انتقائيا بحق من يريد ، كوسيلة ترهيب … فصار تطبيق الشريعة الذي يعتبر من التقوى أداة قهر وترهيب يستخدمها الحاكم ليعزز سلطانه ، وهو الذي أدرك مبادئ السياسية القائمة على الجبر والغلبة ، فاستخدم الدين كوسيلة ترهيب لخدمة السياسة وليس لهدف التقوى ، وشاع هذا في الدول التي تعلن تطبيق الشريعة نظريا لتبرر بها الاستبداد عمليا… هنا حصل الانسجام من جديد ، وظهرت الدويلات والخلافات الاسلامية الحديثة (طالبان وداعش وأمارات السلفية الجهادية) التي تختلف جملة وتفصيلا وفلسفة عن عصر الراشدين رغم ادعائها استعادة نظام الخلافة وتطبيق الشرع .

في النتيجة الدين ليس سياسة ، وليس فيه سياسة ، لأنه مبدئي وليس برغماتي ، بينما قد توضع ضوابط قيمية للسياسات والسياسيين ، دستور وقانون ونظام محاسبة للحكام ترتبط بقيم الدين والأخلاق … فتديين السياسة ممكن بهذه  الطريقة فقط ، أما تسييس الدين فهو قلع للدين من هدفه التقوي الأخروي ، ووضعه على سكة المنافع والمصالح والتعارض والتنازع وهذا بمثابة نهاية له كدين … الحاكم المطلق إما أن يكون تقيا ويفشل ، أو جبارا فينجح … وشتان بين عقل التدين والتقوى وبين عقل السياسة الذي هو الحصول على اذعان الناس ورضاهم وانضباطهم ( من فعل ساس يسوس ) إذا دخل الخليفة كرسي الحكم بعقل التقوى فشل وفشلت الدولة ، وإذا دخلها بعقل السياسة أضاع ضميره عندما يضطر لاستخدام أدوات القوة والحيلة والإكراه والردع ، ولغة المصالح والامتيازات والصفقات … وليس هاك حل ثالث سوى في نظام جديد يكون فيه السياسي خادم يخدم وظيفة السياسة التي يجب أن تقيد بقواعد وضوابط خلقية ودستورية ، وفق قواعد مؤسسية صارمة.

النجاح في السياسة لا يتم بالتقوى والتعبد ، ولكن بفنون الإدارة والحزم والمؤسسات وفنون المراقبة والمعاقبة ، وتداول السلطة ومراقبة الحاكم واستخدام العصا والجزرة ، وتوظيف طموحات الناس وآمالهم ورغباتهم ، وحبهم للثروة والمال والفيء و رغبتهم بالمتع والرفعة ، وكلها لا علاقة لها بالتوقى بل هي ضدها …

أخيرا إذا كانت مفاهيم السياسة في العصر الراشدي على هذا القدر من عدم النضوج ، فكيف نتخذ منها بشكلها القديم مثالا يحتذى ، الممكن فقط أن نعتمد غاياتها وقيمها من دون أشكالها ومفاهيمها ، عندها نستطيع أن نجمع بين الدين والتقدم والنجاح ، أما من دون ذلك فيبقى ارتباط  الدين بالتخلف والاستبداد ، ليأتي من يدعي التقدم ويحارب قيم الدين باسمه .

في كل حال المطروح حاليا مختلف فلسفيا ومفهوما عن مرحلة الخلافة ، المطروح نظام يلعب فيه كل فرد دور مضبوط ومحدد ومقيد يحقق غايته ،تحت رقابة واشراف ومحاسبة الشعب ومتجدد دوريا . فكل مفهوم الخلافة قد أصبح من التاريخ راشدا أم غير راشد … ويضعنا أما خيارين استبداد أو فشل . ولا بديل عن النظام البرلماني الديمقراطي ، فهو الوحيد الذي يحقق وظيفة السياسة بشكل يتناسب مع قيم الدين .

أكملت بهذا المقال سلسلة مقالات ترسم ملامح عقل جديد في فهم وتطبيق الاسلام  ( عقل معاصر يختلف عن عقل العصور الوسطى الذي أنتج التخلف ، وعن العقل الدوغمائي الحديث الذي أنتج الارهاب باسم احياء الدين ) … سأقوم إنشاء الله بجمع المقالات ذات الصلة في كتاب واحد أسميه ( العيوب الفقهية في التراث الإسلامي ) وسيكون متاحا على النت ، آملا أن تكون فيه فائدة للأجيال القادمة ، حيث لا أتوقع امكانية تغيير عقول من ربطوا مصالحهم بها  وتكيفوا معها ، فأي تغيير ثقافي يحتاج عادة لجيلين كاملين ( 40 سنة) حتى يستقر ويسود ، والمرء لا يتمرد على الموروث إلا في مرحلة المراهقة ، فإذا عبرها صار محافظا يكره كل جديد ويحاربه من دون تفكير ، بل لمجرد أنه جديد أو مختلف عما رتب نفسه عليه وصار له مصلحة في استمراره ( فالناس يصنعون آلهتهم لتخدمهم وأصنامهم ليأكلوها ) لكن الآلهة الحقيقية ليست من صنع الناس وليس لها أصناما تجسدها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.