د. كمال اللبواني
عندما يترعرع الأطفال تتكون شخصيتهم بدلالة أهم الرموز والشخصيات التي تحتويها ثقافة مجتمعهم ، وهم بألعابهم يتخيلون أنهم يقلدونها بعد أن يختاروا أفضلها لأن الأحلام مجانية ، فهذا يتخيل نفسه قائدا عسكريا ، وذاك ملكا ، وتلك أميرة … وهكذا تنزرع الثقافة في طباع وشخصيات الجيل الناشئ تبعا لرموزها المعتمدة .
وعندما تحتقر ثقافة ما واقعها و تعجز عن انتاج رموز واقعية محترمة فيه ، تركز بشكل تعويضي على تصنيع رموز تاريخية مؤسطرة ، فتؤسس لحالة تناقض وانفصام جماعي عند الأجيال الصاعدة ، قلة فقط يدركون أن أحلامهم مجرد أحلام صبيانية ، وأن فرص الحياة الواقعية أقل بكثير منها ، وهذا يشمل أحلام الزعامة والنبالة والشهرة والغنى والسلطة وشريك الحياة فارس الأحلام … فالتناقض بين الحلم والواقع يؤدي بالكثيرين للخروج من الواقع والانفصال عنه ورفضه والتمترس في عالم الخيال والوهم الذي يستحيل تحقيقه ، مما يجعل من كل شيء واقعي منحط وتافه يجب تحطيمه، لنصبح أمام مجتمع معقد نفسيا يرفض الواقع ويعجز عن تغييره ، يتصف سلوكه بالشذوذ وعدم الفعالية .
لا يتحقق حلم أي فرد خاصة إذا كان بهذا الحجم ، كل أفراد المجتمع مهزومون ويتذمرون ، و الظروف تدفع هذا أو ذاك بعجره وبجره ليحتل قمة الهرم الاجتماعي ، فالغني يدمن الإحساس بالجوع ويجمع المال بالشح والفساد ، والسلطة تذهب لشخص هزيل يأتي بالصدفة ، لا يتمتع بصفات النبالة التي يفترض أنها طريقها بحسب الحكايات ، وشريك الحياة انسان لا يمكن مقارنته بأي صورة ذهنية مسبقة ، والأولاد لن يكونوا كما هو مرسوم لهم في أذهان أبائهم … وهكذا تنشأ حالة عدم رضا وتبادل احتقار جماعية ، ورغبة عامة في التحطيم.
ثقافتنا لا تعلمنا العيش بالواقع ولا الاعتراف بدوافعنا وامكاناتنا ، وعندما صنعّت رموزنا أخفت فشلهم وعيوبهم وسقطاتهم لتزيد من عظمة صورتهم وتقديسهم ، لكنها بذات الوقت حرمتنا من إمكانية تقلديهم ، فالفرد قد يستطيع بجهده واصراره تحقيق نجاح في شيء ، لكنه لن يحظى باحترامنا لأننا نستطيع أن نرى بقية عيوبه ، تلك التي تخفيها الحكايات الأسطورية .
في مجتمعنا تربينا على قصص البطولات والعظماء المنزهين ، لكن شروط حياتنا المادية التي تطبع سلوكنا معاكسة تماما ، بحيث تشترط الانغماس بالكذب والنفاق والغش والخسة ، وليس التنافس الشريف الذي ليس له أي مكان في عملية التسابق على السلطة والثروة والمجد ، فتحقيق أي رغبة أو حلم نبيل يمر بهذه الشروط والأدوات القذرة ، وبمقدار قوة الطموح بمقدار الامعان في الممارسات المشينة والجرمية التي هي طريقه الوحيد ، في الوقت الذي يتوهم أنه يحقق أحلامه العظيمة …
عندما اندلعت الثورة تفجرت وتحررت كل الرغبات الدفينة ، وظهرت عقد النقص وحب الزعامة بارزة ، لكن وسائل تحقيقها كانت هي ذاتها فاسدة ومدمرة ، فاندلعت حرب شاملة بين الجميع بوسائل قذرة ومنحطة أدت لخسارة الثورة ، وانتصار النظام الذي استطاع بالقمع تكريس سيطرته ، بينما أدت الحرية لتفتيت جهود أعدائه … فهكذا ثقافة لا تنتج سياسيا سوى سلطات القمع والاستبداد . وتعجز عن انتاج الحرية والديموقراطية .
ليس من المعيب أن نحلم ، وليس من المعيب أن نتخيل ، لكن شروط زراعة هذا الحلم تفترض توفير الوسائل النبيلة والنزيهة لتحقيقه ، وهذا العيب الثقافي، أو بالأحرى التناقض بين الهدف والوسيلة هو أهم عوامل فشلنا وتخلفنا وعجزنا عن التقدم … نحن نستخدم الوسائل القذرة لتحقيق غايات وأحلام نبيلة ، وهذا ينطبق على كل الأيديولوجيات والعقائد القومية والدينية والسياسية التي تجمّع نشاطنا السياسي وتوحده ، ومتى تعلمنا الاعتراف بواقعنا وأنفسنا ونزواتنا وامكاناتنا ، واشترطنا الوسيلة الصحيحة لتحقيق أحلامنا ، نكون قد أنجزنا ثورة الحرية وخرجنا من عقمنا كمجتمعات رموزها أسطورة في النبالة وقادتها أسطورة في النذالة .
عندما تعترف ثقافتنا بالإنسان العادي بدوافعه وغرائزه وامكاناته ، وعندما تكف عن استبدال الواقع بالرمز والأسطورة ، وتنتج الوسائل الشرعية الأخلاقية للارتفاع في سلم الثروة والسلطة ، عندها نكون قد بدأنا مسيرة التقدم والحرية ، أما عندما نخفي مساوءنا وعيوبنا مدعين العصمة ، ثم نستخدم نفس أدوات النظام وثقافته لتحقيق أحلامنا العظيمة ، فنحن سنتخلف عن النظام لأنه أكثر تكاملا وتنظيما وانسجاما مع نفسه . فالمعركة اليوم لاسقاط النظام قد أصبحت معركة ثقافة ، تتطلب تغيير وسائل وأدوات وطرق وعي وتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية وليست معركة صواريخ ، أو (صواوويخ) بحسب لكنة نصر الله الذي يمثل بشخصه وسلوكه نموذجا صارخا عن ثقافتنا الممارسة .